بعد أن ناقشنا -في الأجزاء السابقة من القصة المسيحية-، الحل المُقَدَّم في سيدنا المسيح، الذي نؤمن كمسيحين أنه الله الظاهر في الجسد لنا بشرًا سويًا، وناقشنا الشُبهات التي يُقدمها البعض للتشكيك في ألوهيته. نعرض في المقالات القادمة جزءًا من معجزاته، والتي تُعلن سلطانه على عناصر الحياة المختلفة (تأثير الزمن، المسافة، المادة، الطبيعة، الجينات، الموت).

   نعرف يقينًا أن ما يُثبت ألوهية المسيح ليس أعمالًا إعجازية صنعها، كما صنع العديد من الأنبياء المُرسلين من الله المعجزات، ولكن نعرض تلك المعجزات لسببين:

الأول: هو إثبات تفرد السيد المسيح ببعض الأعمال التي تُعلن سلطانه، وهو ليس سلطانًا ممنوحًا له من الله كسائر الأنبياء، حيث صنع السيد المسيح تلك الأعمال بقوة لاهوته، وليس كإنسان فقط له من القوة التي أعطاها له الله.  

الثاني: هو الشهادة الشفهية، التي أعلنها السيد المسيح عن نفسه، وما تبعه من ردود أفعال المتلقين الأولين، وفهمه لادعاءات السيد المسيح عن ألوهيته.

قبل البدء في مناقشة وسرد تلك المعجزات علينا البدء أولًا بتعريف ما نعنيه بالمعجزة..

 

ماهية المعجزة:

عرف البعض المعجزة بأنها: "اختراقات لقوانين الطبيعة"

ولكني أميل للتعريف الذي قدمه اللاهوتي "وليم لين كريج" بأنها:

"حدث لا تنتجه المُسببات الطبيعية التي تعمل في نفس زمان ومكان ووقوع الحدث"[1]

   حيث وضح كريج أن المعجزات ليست خرقًا لقوانين الطبيعة، لأن تلك القوانين تعمل وفق شروط معينة، فإن لم يتدخل عنصرًا أخر في المعادلة، فإن القوانين تُحدث ما لابد أن تسببه بالطبيعة.

 فمثلا: قانون الجاذبية يفرض أن التفاحة متي سقطت من الشجرة تُطرَح على الأرض، ولكن إذا مددت يدي لأمسك بتلك التفاحة فلن تسقط، وهذا ليس كسرًا أو خرقًا للقانون الطبيعي، وإنما تدخل من عنصر خارجي آدي لتغيير النتيجة، وعليه فإن المعجزة هي تدخل عنصر خارجي "فوق طبيعي" يُحدِث تغيير للنتائج المتوقعة.[2]   

فبالسقوط، حدث تشويش دخيل على الطبيعة، والمعجزة هي -وبشكل ما- تدخل إلهي لإرجاع الوضع كما كان عليه.[3]

 

سلطان السيد المسيح على الزمن، بمعجزة شفاء مريض بركة حسدا:

   تحكي تلك المعجزة عن قصة شخص كان مقعد -عاجز-، لمدة 38 سنة، وأنه كان مضطجعًا عند بِركة تُسمَّي (بركة بيت حسدا)، ومعناها (بيت الرحمة).[4] يظن مَن يجلس حولها أن هناك ملاكًا يحرك مياهها وأن مَن ينزل أولًا ينال الشفاء. لا نعلم يقينًا ما أن كانت تلك البِركة من الآبار المعدنية التي لها خواص علاجية ويذهب إليها الناس للاستشفاء، أم أن الله بالفعل كان يستخدمها بشكل مُعجزي في تلك الفترة، أو أن الموضوع مجرد خرافة لا أساس لها تناقلت بأفكار شعبية، كما يتناقل البسطاء العديد من الأفكار، ولكن ما نعلمه أن بطل القصة كان ينتظر أن يأتي أحد يلقيه في تلك العين متي جرت بها المياه. نعلم ايضًا أنه بخلاف العديد من المرضي الذين شفاهم السيد المسيح، أن هذا الشخص كان عاجزًا نتاج خطيته، لا نعلم ما إن كان فَعَلَ جُرمٍ ما آدي به إلى اصابته تلك، أو أن حدوث هذا العجز كان نوعًا من الردع الإلهي لهذا الشخص الذي كان خاطئًا، لكن نعلم أنه يتألم منذ سنوات كثيرة، وفِعل الزمن واضحًا على جسده، وقد فقد الأمل في الشفاء.

   يتجلى سرد القصة في مقابلة السيد المسيح له، حيث رآه في حالة من الضعف.

"هذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعًا، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَانًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟»"[5]

يبدو لنا سؤال السيد المسيح غريبًا للوهلة الأولى! فما الذي قد يأتي بهذا الشخص إلى تلك البِركة إلا رغبته في أن يُشفي! وكيف لشخص عاجز في العموم ألا يريد الشفاء! فأجابه:

"يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ، يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ."[6]

أعتقد أن إجابة المريض كانت سببًا في سؤال السيد المسيح، حيث كان مُحبطًا، فاقدًا للأمل، وكل ما يرجوه أن يأتي شخصٌ ما ويلقيه في البِركة، ولم يكن لديه أي احتمالية آخري لإمكانية الشفاء غير تلك الطريقة التي كانت تحد مِن تفكيره أن هناك "الطريق"[7] وافقًا بنفسه أمامه، وبيده السلطان أن يشفي عجزه، ويُبرئ أيضًا نفسه، لا جسده فقط.

"قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْش."[8]

كان هذا رد السيد المسيح بثلاثة أفعال: (قُم، احْمل، امْش). ثلاث أفعال يصعب على أي شخص نائم لمدة يوم كامل على الفراش أن يفعلها بسهولة بعد أن استرخت عظامه، لا أن يفعلها شخص مقعد منذ 38 سنة يبست عظامه مع الزمن.

فالشلل هو فقدان وظيفة العضلات في جزء من الجسم، ويحدث ذلك عندما يحدث خطأ ما في الطريقة التي تنتقل بها الرسائل بين العقل والعضلات.[9]  ويُعد تلف الحبل الشوكي من أسباب الشلل النصفي. في جريدة طبية أجنبية يُذكر أنه لا شفاء أكيد للشلل، خصوصًا مع طول المدة، وأنه قد يُشفى الشلل المؤقت، مثل الذي يسببه شلل الوجه النصفي أو السكتة الدماغية، من تلقاء نفسه دون علاج طبي. وأنه في بعض الحالات قد يتعافى تأثير الشلل على العضلات جزئيًا، -على الرغم من أن إعادة التأهيل لا تعالج الشلل تمامًا-،[10] وعليه فإن إمكانية الاستجابة الفورية لهذا المشلول وتنفيذه للثلاث أفعال السابقة يبدو مُستحيلًا، ولكن هذا هو سلطان السيد المسيح على الزمن. ما تسببه مرور الأيام وطولها لا يُعطل قدرته أو يحدها. يقول النص الكتابي:

"فحَالًا بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى."[11]

وهنا حدثت المعجزة....

   قد يُفكر البعض أن هذا أمرًا طبيعيًا على شخص يُدعي "نبي الله"، فلكل نبي أعطيت بعض المَلكَات والمعجزات، وأن هذا ليس دليلًا على ألوهيته! لكن يُخبرنا النص في سرده لتكملة القصة أن السيد المسيح بفعلته هذه تحدي اليهود.

قام المسيح بتلك المُعجزة في يوم "السبت"، وأي دارس للعبادة اليهودية يعرف أن هذا اليوم مُحَرَمٌ فيه عند اليهود فِعل أي شيء بخلاف العبادة لله.

"فَقَالَ الْيَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: «إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ»."[12]

   كانت قساوة قلوبهم تعميهم عن المعجزة التي حدثت للتو، فلم يشغل بالهم كيف لعاجز منذ 38 سنة أن يقف ويحمل الفراش الذي كان نائمًا عليه ويمشي! وكل ما شغِل فكرهم هو الطقس لا الإنسان، ولما علموا أن السيد المسيح هو الذي أبرأه وأمره بأن يحمل سريره كانوا يطردونه من المجامع، ومِن وقتها بدأوا يتأمرون لقتله.

   هنا يخرج السيد المسيح بتصريح صادم لهم:

"فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ»."[13]

بالنسبة لنا نحن في عصرنا الحالي قد لا نفهم وطأة هذا التصريح، ولكن نري رد فعل رؤساء اليهود الذي نفهم منه وقع هذا التصريح عليهم

"فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ."[14]

    لقد كان صادِمًا بالنسبة لليهود أن يدعي شخص ما مثل هذا التصريح. السيد المسيح أدعي أن الله هو أبوه بمعنى خاص، وأدعي أنه يشترك في نفس طبيعة أبيه العاملة. يجب أن نلاحظ بعناية أنه لم ينكر دقة استنتاجهم، -أنه يُعادل نفسه بالله-، لكنه استمر في التحدث كشخص ادعى مثل هذه المساواة في السلطة.[15] لا ندعى كمسيحين أن الله سبحانه تزوج وأنجب السيد المسيح حاشا، ولكن لهذا اللفظ (الآب، الابن) دلالة على نوع علاقة في ذات الله الواحد، والذي تختلف وحدته عن وحدتنا نحن كبشر.[16]

   هذه المعجزة قدمت شهادة عملية عن ألوهية المسيح وسلطانه على تأثير الزمن، حيث شفي قعيد لمدة 38 سنة دُمِرت خلاياه، وقدمت أيضًا شهادة شفهية، حيث قدم المسيح لليهود شهادة مفهومة بالنسبة لهم ولمصطلحاتهم مُعادلًا نفسه بالله.

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 


[1] لي ستروبل، القضية الإيمان، ترجمة: حنا يوسف، (القاهرة، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2007)، 77.

[2] المرجع السابق، 79.

[3] مينا جاد، تأملات في معجزات السيد المسيح، (القاهرة، دار الثقافة، 2016)، 18.

[4]  هربرت لوكير، كل المعجزات في الكتاب المقدس، ترجمة: ادوارد وديع (القاهرة، دار الثقافة، 1999). 199.

[5]  (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 6).

[6]  (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 7).

[7]  هو تعبير يوصف به السيد المسيح حيث قال "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ." (يو 14: 6).

[8] (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 8).

[11]  (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 9).

[12] (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 10).

[14]  (الانجيل بحسب تدوين البشير يوحنا 5: 18).

[15] Enduring word, JOHN 5 – A HEALING AND A DISCOURSE.

https://enduringword.com/bible-commentary/john-5/

[16]  لمزيد من البحث عن هذا الموضوع يمكن قراءة مقالات عن الثالوث على الموجودة على الموقع.