
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- طوبي لصانعي السلام (ج2)
ميرا شكري
5/30/23 - ٥ دقيقة قراءة
هذا السلامِ الذي تحققَ بصليبِ السيد المسيحِ وقيامتهِ هوَ المعنى الحقيقيُ للسلامِ، هوَ سلامٌ لمْ يتمْ بقهرِ الطرفِ الأقوى بالعنفِ، ولا بإجبارِ الطرفِ الأضعفِ على الإذعانِ إلى القراراتِ العليا. بلْ هوَ سلامٌ حقيقيٌ، ما أنْ يقبلَ أيَ إنسانِ عملِ المسيحِ الكفاري على الصليبِ، حتى يبدأَ في رحلةِ النموِ الروحيِ التي يقتربُ فيها كلُ يومٍ إلى صورةِ إنسانِ الملكوتِ (تلميذُ المسيحِ). من هنا تصبح هناك إمكانية لسلام حقيقي يعم العالم.
يقول مارتن لويد جونز:
"المشكلة، وفقا للكتاب المقدس، هي في قلب الإنسان، وإلى أن يتغير قلب الإنسان، لن تحل مشكلته أبدا بمحاولة علاج النتيجة وإغفال السبب. إذا كان مصدر المشكلة في النافورة، الأصل الذي يأتي منه تيار المياه المندفع نحو الحوض، أليس من الواضح أنها مضيعة للوقت والمال والطاقة أن نستمر في صب المواد الكيميائية في حوض المياه في محاولة لعلاج المشكلة؟ يجب أن تذهب إلى المصدر إذا كنت ترغب في حل جذري. وفقا للكتاب المقدس فإن المشكلة هي في قلب الإنسان ولا شيء سوى قلب جديد، لا شيء سوى رجل جديد يمكنه التعامل مع المشكلة. إنه "من القلب" نرى الأفكار الشريرة والقتل والزنا والغيرة والحسد والخبث وكل هذه الأشياء الأخرى تنمو وتزدهر. وطالما بقي الرجال هكذا لن يكون هناك سلام أبدًا."[1]
كيف إذا يؤدي هذا النمو الروحي للفرد لتأسيس مملكة ليست من هذا العالم؟ وكيف يعمل السلام النابع من قلب هذا الفرد على تغيير وجه الأرض كلها، إن كان سلامًا حقيقيًا حقًا؟
الإجابة هي في عمل روح الله القدوس في حياة مَن يقبلون بملء إرادتهم أن يحيوا لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام، أي: للسيد المسيح.
ماذا يحدث حين يقبل المرء عمل السيد المسيح الكفاري على الصليب؟ هل تلمسه عصاة سحرية وتحوله في الحال لشخص وديع مملتئ بالسلام؟ بالتأكيد لا! إن الحياة المسيحية ليست ضرب من الخرافات والأعمال السحرية اللحظية، بل إنها منظومة حياتية كاملة متسقة مع ذاتها. ينظر الله (إله السلام) لك ويرحمك وينير قلبك وبصيرتك لترى كم هو عظيم عمل السيد المسيح (رئيس السلام) على الصليب من أجلك، وحين تطلب منه أنت أن يسكن قلبك، وتسلمه نفسك بالكامل، يصبح بداخلك طبيعتان، طبيعة قديمة منفصلة عن الله بفعل الخطية وطبيعة جديدة خُلقت من نور معرفة الإله الحقيقي والمسيح المصلوب. تحتاج هذه النوعية مِن الحياة إلى جهاد مستمر للنفس، وهذا لا يمكنه أن ينجح إلا بسُكني الروح القدس (روح الله) في داخلك. حينها يثمر الروح القدس فيك ثماره والتي بالطبع نجد من بينها السلام.
يجب الإشارة هنا أن هذه العملية لا يمكن أن تتم بأي طريقة أخرى، فلا تستطيع نيل ثمار الروح بدون سكناه فيك. وإذا حاولت تبنّي فلسفة السيد المسيح في بناء ملكوته بدون قبول عمله على الصليب، فسرعان ما سيصيبك الإحباط لأن طبيعة القلب الشريرة سوف تعاود الظهور من جديد، ولكن بشراسة وتوحش أكبر. يعيش صانع السلام في علاقة مع الله الآب (إله السلام) بفضل صليب المسيح (رئيس السلام) وبمعونة من الروح القدس (روح السلام).
لهذا نرى أن ترتيب التطويبات ترتيبًا منطقيًا جدًا، لأنه لا يمكن لأي شخص أن يكون صانع سلام لو لم يكن قلبه نقيًا، مَن يمتلئ قلبه بالحسد والغيرة لن يجد بداخله ما يدفعه ليصنع سلامًا حقيقيًا، يجب تطهير القلب أولًا قبل أن يتمكن من صنع السلام. يستدعي صنع السلام أيضًا أن ينسى الإنسان ذاته تمامًا، أن يتخلص مِن الاهتمام بالذات. لأنه طالما يفكر الشخص في نفسه، ويحاول حماية نفسه فلا يُمكن أن يَنتج سلام مِن شخصٍ يتخذ صف أحد طرفي النزاع على حساب الطرف الآخر، ولا يقدر أيضًا شخص في وضع دفاعي على صنع أي سلام من أي نوع. لكي يكون الشخص صانعًا لسلامٍ حقيقي، يجب أن يتخلى عن رؤية كل ما يحدث حوله مِن منظور مدى تأثيره عليه. إن الحياة الجديدة في شخص السيد المسيح هي حياة نسيان الذات، فلا نعود ننحصر في ذواتنا ولا نصاب بهوس إثبات أنفسنا ووجهات نظرنا في كل موقف يصادفنا.
صانع السلام الذي ذكره السيد المسيح هو شخص قادر على حل النزاعات لأنه قلق بشأن المتنازعين. لذا فهو يرى آلامهم وشكواهم بموضوعية ويتكلم بحكمة من عند الله. يرى صانع السلام الناس بعيون المحبة، ينظر إليهم كما لو أنه ينظر لهم بعيون الله، هذا الشخص هو خليقة الله التي رأى أنها حسنة جدًا، وتساءل كيف يمكنني أن أخدم هذا الشخص ليشعر أنه مسموع ومرئي؟ كيف يمكنني أن أوصِّل المحبة الإلهية له من خلال هذا الموقف؟ ماهو الألم الشديد الذي يصرخ بسببه هذا الإنسان، حتى لو بدا لمَن حوله أنه يصرخ انفعالًا أثناء شجار؟ هذه الكتلة الهائلة من الغضب والسُباب والتعالي، هي في الحقيقة قلب مجروح يئن ويحتاج لمَن يُطمئنه أن هناك إلهًا يُحبه وقد مات من أجله.
بشكلٍ عملي، يجب على صانع السلام أن يسير في طريق الحياة الجديدة مع الله، وحين يقف في المنتصف بين متنازعين، أن يُنحي ذاته جانبًا ويسمع كل طرف بكل اهتمام ومُواجدة. وأن يطلب من الله معونة ليصنع سلامًا بين الطرفين. نعم، إن صانع السلام يخرج من طريقه ودائرة حياته العادية فقط "ليصنع" سلامًا حيث لا يوجد سلام.
وماذا عن هذا الإنسان صانع السلام حين يجد نفسه طرفا في نزاع؟ سيحتاج هذا منه لمعونة أكبر ليفكر في "الخصم" أنه خليقة الله التي يحبها جدًا ويُقرر بشكل إرادي تمامًا أن يُحب هو خِصمه بمثل هذه المحبة التي أحبه الله بها. هل سيسبب ذلك ألما لصانع السلام؟ بالتأكيد! فهو سيتألم بسبب قراره ألا يُفحم خصمه بردود نارية وسيتألم لأن الناس ستوصمه بالسلبية وسيتألم بينما يغفر لمَن أساء إليه وسيتألم أثناء سماعه لأطراف نزاع يحاول حله. رحلة صنع السلام مليئة بالألم، ولكنه ألم يُحسب ضمن جهاد الإنسان لتتميم عمل الخلاص في حياته.
يقول كينيث بيلي أن صانعي السلام يعملون على شفاء العلاقات المجروحة من حولهم على كل المستويات. فلا يفتعل صانع السلام نزاعا، ولا يصارع لأخذ حقه، ولا ينصف طرف على حساب الآخر، ولا يعيد قول ما سمعه من أقوال سيئة على نفسه أو غيره.[2]
هل يطلب منا الله أن نفعل شيئًا هو لم يفعله قبلنا؟ حاشا! لنرى القصة التي سردناها عن صليب المسيح من منظور صنع السلام، إن الله لم يتمسك بحقوقه ولا قرر أن يرد على البشرية الساقطة بطريقة تُفحمها، ولكنه رآنا كمحبوبين، وأرسل لنا كلمته -السيد المسيح- ليحقق به وفيه السلام ويدبر لنا طريقًا للخلاص. الله هو أعظم صانع سلام، وأن نكون صانعي سلام هو أن نكون مثل الله ومثل المسيح. ينعم الله علينا بفرصة أن نكون انعكاسا للسلام الذي صنعه السيد المسيح، وحين نصبح صانعي سلام مثلما فعل الله قبلا بالمسيح، نصبح حينها بالنعمة أولادا لله.
يقول الأب جاك فيليب:
"إن تطويبة صانعي السلام هي السابعة وهذا ليس صدفة. في التقليد الكتابي، يشير الرقم سبعة إلى الكمال والامتلاء. خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، سعيدًا بالتأمل في جمال وصلاح أعماله. (لقد رأى أنه حسن جدا!). اليوم السابع/السبت، هو اليوم الذي تدعي فيه البشرية إلى الراحة بطريقة معينة واعتناق سلام الله. "سبت شالوم" هي التحية اليهودية للسبت، مُعبِّرة عن أمنية السلام التي ليست مجرد غياب الصراع، بل النظام، والملء، والإنجاز، والسعادة. عكس السلام ليس فقط الحرب، ولكن الإحباط، والفراغ الداخلي، وعدم الرضا، والقلق."
إن وضع هذه التطويبة في المرتبة السابعة يعني أن الشخص الذي يعيش وفقا للستة التي تسبقه سينال نعمة السلام وسيكون مفوضًا لنشر هذا السلام حول نفسه. داخلا بذلك إلى الراحة التي هو مدعو لها، والتي هي السكون للاستماع إلى همسات الله والامتلاء مما يريد هو أن يقوله، بدلًا مما يثرثر به العالم بقية أيام الأسبوع.[3]
ختامًا، ضع أمامك اليوم اسماء مَن أنت في صراع معهم، مِن الممكن أن يكون اسمك من ضمن هذه الأسماء. اطلب من الله أن يملأك بنعمته حتى تنسى ذاتك، تتحرك نحو الجميع على أساس محبة الله لهم. تنظر لنفسك أولا قبل أن تشهر أصابع الاتهام في وجه الآخرين، تطلب من الله القوة لتغفر وتحاول بلطف استعادة علاقاتك المكسورة. كن صانعًا للسلام، لأن الله سبق فصنع سلامًا معنا، كيف لنا إذا أن نتجاهل هذا العمل ونمضي في حياة محفوفة بالنزاعات والحروب؟
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] D. Martyn Lloyd, Studies in The Sermon on the Mount (USA, Wm. B Earmans Publishing Company, 2000).
[2] كينيث بيلي، يسوع بعيون شرق أوسطية ج١، ترجمة: د.ق. فيكتور مكاري (القاهرة، دار الثقافة، الطبعة الأولى، ٢٠١٤).
[3] Fr. Jacques Philippe, Eight Doors of the Kingdom (New York, Scepter Publishing, 2018).