مازال شخص الرب يسوع المسيح محل تسأول لدى البعض سواء ما يخص أقواله أو أفعاله أو طبيعته. فليس هناك سؤال لم يسأل عن شخص الرب يسوع. ففي هذه المرة يستخدم البعض نصوص توضح أن الرب يسوع ليس هو الله الظاهر في الجسد. بل عى العكس من ذلك فلا خلاف في المسيحية على أن الله كلمنا فى الأيام الأخيرة فى ابنه ربنا يسوع المسيح، كاشفًا كل ما في قلب الله لنا، مُعلنًا أن من رآه فقد رأى الله الآب، بل أنه قال أنا والآب واحد، فكيف نجد في الكتاب المقدس أنه لا يعلم ساعة يوم القيامة، أو ما نسميه نحن "االمجئ الثاني"، حيث قال في الانجيل بحسب دوين مرقس الرسول:

"وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ."

(مر 13: 32)

   هذه النصوص من أجمل نصوص الكتاب المقدس لأنها تشهد عن كمال الابن فى كامل إنسانيته، وكمال ألوهيته لكن تحتاج هذه النصوص للإيضاح. لذلك لنا عدة ملاحظات وسنثبت لماذا قال المسيح ذلك؟ حتى تتضح الحقيقة لكل شخص لديه خلط عن شخص المسيح الإله المتجسد.

1- كتب مرقس انجيله للأمم يهود ويونانيين وكذلك لكل العالم بلغة اليوم، وغرض انجيل مرقس اظهار إنسانية يسوع فإنجيل مرقس هو إنجيل استعلاني، يبتدئ بيسوع ابن الإنسان مركزاً على بشريته قبل أن يستعلن ملء لاهوته. يكتب مرقس ونظره مثبَّت على ابن الله.[1] أي المسيَّا منذ أول آية.

2- الهدف من كتابة الإنجيل أن المسيح في بشريته باعتباره ابن الله قال عن نفسه:

"لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ، بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ." (مرقس45:10)

 فالتركيز هنا في كل ما قاله السيد المسيح على إنسانيته، ومع كونه ابن الله الظاهر في الجسد إلا أنه الإنسان الكامل لكن هذا لا يمنع أن نري ملامح ألوهيته في إنجيل مرقس بوضوح شديد.

أما بخصوص عدم علم المسيح بالساعة فهذا ليس دليلًا على عدم ألوهيته لعدة أسباب.

1- تحدث الرب يسوع في إنجيل (متى 25) عن مجيئه الثاني، وكذلك في (مرقس 13). عندما نضع النص فى قرينته نجد أن المسيح طلب منهم أن يسهروا لأنهم لا يعلمون متي يجيء رب البيت والسؤال الذي يطرح نفسه: من هو الذي يجيء؟ ليس هناك أدني شك أنه المسيح. فكثيرا ما تكلم عن نفسه أنه سيأتي في مجيئه الثاني بمجد عظيم وإنجيل متي مليء بهذه الحقيقة فليس من المعقول أن يكون المسيح هو رب البيت ولا يعلم ساعة مجيئه؟

2- بالنسبة لقرينة الاصحاح من (عدد 1 حتى عدد 31)، نجد أن المسيح يخبرهم بما سيحدث في نهاية الزمان ويعطيهم علامات فليس من المعقول أن يعرف ويعلم المسيح كل ما يحدث، ويأتي عند علم الساعة ولا يعرفها.  

3- كثيرا ما كان يَعلم المسيح ما يدور بين التلاميذ، وكان يخبرهم به وكان يعلم ساعته التي يصلب فيها فجاء في (يوحنا 13: 1)

"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى."

 فكيف يعرف ساعة الصليب ولا يعلم ساعة مجيئه.

  1. فكون المسيح لا يعلم الساعة لأنه لم يأت لغرض الدينونة والساعة الأخيرة، لكن علمه كان مُحدد في نطاق مجيئه، وهو تحقيق الساعة التي أخبرنا عنها، وهي ساعة موته وقيامته وصعودة مرة ثانية. وهناك بعض الأراء نود عرضها:
  • أن السيد المسيح لا يجهل اليوم، إنما يعلن أنه لا يعرفه، إذ لا يعرفه معرفة من يبيح بالأمر. لعله يقصد بذلك ما يعلنه أحيانًا مدرس حين يُسأل عن أسئلة الامتحانات التي وضعها فيجيب أنه لا يعرف. بمعنى عدم إمكانيته أن يُعلن ما قد وضعه.
  •  حقًا إن الآب لا يعرف شيئًا لا يعرفه الابن، لأن الابن هو معرفة الآب نفسه وحكمته، فهو ابنه وكلمته وحكمته. لكن ليس من صالحنا أن يخبرنا بما ليس في صالحنا أن نعرفه. إنه كمعلم يعلمنا بعض الأمور ويترك الأخرى لا يُعَرِّفنا بها. إنه يعرف أن يخبرنا بما هو لصالحنا ولا يخبرنا بالأمور التي تضرنا معرفتها.
  • قيل هذا بمعنى أن البشر لا يعرفونها بواسطة الابن، وليس أنه هو نفسه لا يعرفها، وذلك بنفس التعبير كالقول: "لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم" (تث 13: 3)، بمعنى أنه يجعلكم تعلمون. وكالقول: "قم يا رب(مز 3: 7)، بمعنى) اجعلنا أن نقوم (، هكذا عندما يُقال إن الابن لا يعرف هذا اليوم فذلك ليس لأنه لا يعرفه وإنما لا يظهره لنا."
  •   القديس أثناسيوس:

"إن المسيح، إذا شاء، يعلم كما يعلم الله، وإذا شاء، يجهل كما يجهل الإنسان. أو أنه كان يعلم كالله ويجهل كإنسان إنما حسب ضرورة الفداء، لأنه لمَّا تجسَّد لم يفقد شيئًا مما هو له كإله، ولا أخلَّ بما هو للإنسان. فلمَّا قال: (إن الابن لا يعلم هذا اليوم ولا تلك الساعة)، أثبت كمال ما هو لتجسُّده في حدود رسالة الفداء التي تنتهي عند ساعة الصليب، وليس عند ساعة الدينونة، ولكن جهله بساعة الدينونة باعتباره الذبيحة التي تتهيَّأ للموت على الصليب، يزيد من عظمة إخلائه لذاته، وهو كإله أُعطي كل الدينونة."

   ويكرِّر أثناسيوس أنه في كل تصرُّف من هذا القبيل أو ذاك، إنما كان الدافع الوحيد هو من أجل منفعتنا أو من [أجل التدبير]، قاصدًا تكميل العمل الخلاصي الذي تجسَّد من أجله. فكما أن المسيح تجسَّد من أجل التدبير. كذلك فإن جهله لليوم وللساعة الأخيرة هو من أجل التدبير سواء بسواء، لأن على قياس وغاية التجسُّد يتحتَّم فهم كل عمل وقول وتصرُّف أتاه المسيح، ولكن كلاًّ في موضعه، بحسب حدود دور الرسالة التي جاء يكمِّلها في طاعة الآب.

   وهنا يتضح أن للخلاص زمنًا وعملاً وحدودًا، وأن للدينونة زمنًا وعملاً وحدودًا، وأن الابن كما أُرسل للفداء سيُرسَل للدينونة، وكلا الإرساليتين من الآب. فالابن، وهو في حال عمل الفداء، له أن يقول -عن حق- بمقتضى التدبير إن يوم الدينونة والساعة الأخيرة ليست حيذًا في دائرة عمله، أي لم يُعطَ بعد عملها -من الآب- وبالتالي ميعادها. [2] 

   من هذا نستطيع أن نقول بعدما أكمل الرب يسوع عمله باتمام الفداء (أي التدبير) بخلاص الإنسان أخذ السلطان الكامل سواء على السماء أو الأرض

 "فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ،" (مت 28: 18).

  كذلك أخذ سلطان على الأوقات والأزمنة. لذلك قال لتلاميذه عندما سألوه متي ترد الملك لإسرائيل؟

"أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: «يَا رَبُّ هَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ" (أعمال 6:1).

 ورغم أن الأزمنة والأوقات أصبحت في سلطانه، إلا أنه لم يعلن ميعاد رد الملك لإسرائيل. بنفس المنطق حجب الابن عدم علمه بميعاد الساعة لم يُقِل مِن ألوهيته، بل أظهر لنا كامل إنسانيته، وطاعته الكاملة فى تتميم تدبير الخلاص لصالح الإنسان.

 لكن هناك بعض الافتراضات للإجابة على عدم ذِكر المسيح للساعة:

 1-الاستباحة: بعمل الفداء والاستهانة بموت الرب يسوع المسيح. وهذه الفكرة ستجعل البشر في حالة من الشر والفساد لأنها تعلم ميعاد الساعة، وعند ميعاد اقترابها تتوب وتدخل السماء وهذا غير عادل وضد قداسة الله.

 2- انشغال الناس بحساب الساعة سيؤدي إلى الانقسام لطوائف، وبالفعل قد ظهرت عدة طوائف مهتمة بالتفاصيل الخاصة بيوم القيامة، حيث ظهرت طائفة في أوروبا وشغلت الناس عن عبادة الله وعن العمل وحددت سنة 1914 كموعد لمجيء المسيح، وبعدها عدة تواريخ مختلفة وتبعهم كثيرين لكن في النهاية فشلوا في تحديد الساعة.

3- أخفى المسيح الساعة حتى يكون هناك عنصر المفاجأة، فالرسالة للجميع يعلمها الكل فعندما يأتي يجد الساهر العابد فيكافأ ويجد الكسول الشرير فيعاقب وهذا في حد ذاته يُظهر بر الله وعدله.

4- وهذه أهم نقطة، هناك أمور في الثالوث لم يعلن عنها المسيح، فهذه أمور تخص الله في جوهره وثالوثه، فنحن نفهم ما يجب علينا أن نفهمه ونعلمه، لذلك فيجب علينا أن نطبق ما قاله القديس بولس ألا نرتقي  أو نرتفع فوق ما ينبغي أن نرتقي، بل نتعقل في المخافة الله.

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 


[1]  هو اللقب المهيب، كان مترسِّخاً في التقليد اليهودي عن شخص المسيَّا الآتي، باعتباره “ابن الله”، وذلك حسب العهد لداودي المذكور( صموئيل الثاني 7). هذا التقليد نسمعه واضحاً جليـًّا في كلام رئيس الكهنة الذي يعيده حسب التقليد المسلَّم عبر الأجيال، وذلك عند سؤال المسيح أثناء المحاكمة: فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ (متى 63:26). وفي إنجيل القديس لوقا جاءت هكذا: فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو(لوقا 70:22). كما نقلوا عن المسيح قوله: إنه »ابن الله «بنوع الاستهزاء هكذا: وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلَّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلِّصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلْينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلْينقذْه الآن إن أراده، لأنه قال أنا ابن الله. (متى 41:27-43).

[2]  متى المسكين، حقبة مضيئة في تاريخ مصر القديس أثناسيوس الرسولي ( القاهرة: مطبعة القديس أنبا مقار وادي النطرون، 1981)، 580- 583.