يعد نص إنجيل متي في (اصحاحاته 5، 6) واحد من النصوص المُحيّرة في تعاليم السيد المسيح، والذي يُقدِّم فيه تعاليم لم يدركها البشر بالشكل المطلوب إلى يومنا هذا. فهي تعاليم تحتاج إلي عقل يُدرك أبعاد إنسانيتنا ومحدوديتها ويدرك معني الحب، وهذا هو أساس صعوبة المُعادلة. فقد تكلم السيد المسيح مع اليهود في وقت من أصعب أوقاتهم، وقت انهارت فيه كل دوافعهم وجيشهم. وقت حاصر فيه الاحتلال كل شيء، بدءًا من مشاعرهم وأفكارهم حتى أقصى رقعة في أرضهم. فقد أدرك اليهود معني الاضطهاد الحقيقي في أكثر الأماكن أمننا بالنسبة لهم، أي في وطنهم.[1]

وقف السيد المسيح أعلي الجبل وبدأ يخبر اليهود عن شيء ليس بجديد عنهم، فقد سمعوا عنه في براري نهر الأردن، حيث وقف يوحنا المعمدان هناك وصرخ بصوت عالي إلي اليهود وقال لهم:

"تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ.". (مت 3: 2).

 ولكن ما هو ملكوت السماوات هذا؟ 

   نعرف من الكتاب المقدس في عهده القديم أن الله يريد أن يحيا البشر معه في علاقة، يكون فيها هو ملكهم وقائدهم، ويكونون هم له الشعب الذي يحيا بحسب قصده. فقد خلق الله الإنسان في جنة عدن قديمًا لكي يتمتع بنوعٍ مِن الوجود، فيه يتحد مع الله في علاقة شخصية، ويتشارك الإنسان هذا الوجود مع باقي البشر في علاقات إنسانية متنوعة. كان قصد الله للإنسانية هو حياة بحسب مبادئه وبحسب فكره/قلبه. وقد صمم كل شيء قد يحتاجه الإنسان في هذا النوع من الوجود في صورة حسنه. ولكن عندما سقط الإنسان فقد القدرة على أن يحيا هذا النوع من الوجود بالصورة التي صممها لها الله. فقد تاهت دوافع الإنسان في هذا الوجود بين ذاته والله، وبين ذاته والأخرين. وعند هذه النقطة فقط فقد الإنسان كل المقومات التي خلق من خلالها لكي يتمتع بهذا الوجود. وقد أنقلب سحر الإنسان على ذاته! فقد ملأ قلبه التعاسة والوحدة والآلم والفراغ. ومن هنا كانت صرخات الإنسان تعلوا بحثًا عن الله، والذي فيه يجد ذاته من جديد.

وهذا هو جوهر "ملكوت الله" حيث الملكوت هو الرقعة التي يملك فيها الله قلب الإنسان من جديد، ملكوت الله هو تجديد وافتداء الوجود من سقطوه[2]. ملكوت السماوات هو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان مع الله مره أخري، ولكن بحسب قلب الله وبحسب إرادة الله. وهذا هو الطريق الوحيد الذي سيجد فيه الإنسان ضالته، وسيجد الإنسان فيه المعني والغاية من الوجود. ملكوت الله في أصغر صوره هو الكنيسة التي يلتف فيها المؤمنين حول الله ويعيشوا معه "التلمذة[3]" و"التبعية[4] ويشاركوه في هذه الحياة ليستمروا في الحياة معه إلى الابد.

كثيرًا ما نري السيد المسيح يُحدِّث اليهود عن "ملكوت السماوات" أو "ملكوت الله" فمن الواضح أن السيد المسيح كان يملك في جعبته شيء لم يكن يدركه اليهود من قبل. ملكوت السماوات/الله هي قلب وجوهر تعاليم السيد المسيح في كل قري الجليل وأُورُشَلِيمُ. ولكن في هذا المقال سأتناول نص محدد في هذه التطويبات التي تُحدثنا عن ملكوت السماوات وهو نص:

 

" طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ."  (مت 5: 10).

   حدثنا السيد المسيح في هذا النص عن نوع جديد من الاضطهاد، فالاضطهاد/الطرد معروف عند اليهود، وهو شكل من أشكال القمع التي كان يمارسها الرومان معهم. فكثيرًا ما يطردونهم من أرضهم وبيوتهم إذ تأخروا عن دفع الجزية أو إذ خالفوا أوامر رئيس الربع. وما أكثر المرات التي أنهار فيها جبابرة إسرائيل أمام هذا الاحتلال. فلا حيله لمضطهد في أرضه سوا الهروب والترحال من وجه غاصبه.

ولكن يخبرهم السيد المسيح أنه طوبى لهم إذا طردوهم من أجل البر. فقضية الاضطهاد هي ليست بشيء غريب على السيد المسيح نفسه، والذي كان هو بكر هذا الملكوت[5]، فقد قال:

"إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ."  (يو 15: 18).

فالسيد المسيح قد قاسي آلم الاضطهاد والطرد والكراهية في حياته على الأرض. وهو ما قد فسره السيد المسيح بعدها حين قال:

"لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. اُذْكُرُوا الْكَلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كَلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كَلاَمَكُمْ."  (يو 15: 18 - 19).

   اعتقد عند وضع هذان النصان بجوار بعضهما، يزيل الكثير من الغموض! فلماذا نُضطهد من أجل البر! مَن الذي سيفعل هذا معنا من الأساس!؟ هذا ما نعرفه من هذا النص. فقد رسم السيد المسيح بعدد قليل من الحروف صورة في مخيلة أي إنسان يهودي يعيش في القرن الأول، فقد أخبرهم أنهم سيُضطهدون في هذا العالم الذي هو في الأساس مخلوق لكي يعيش فيه الإنسان حياة البر مع الله. ولكن بعد السقوط[6] اغتصب هذا الوجود من الإنسان ليد رئيس سلطان الهواء[7]، وقد كون لنفسه مملكة من البشر فيها يحارب كل بر وفيها يحارب كل ما هو ملك الله. لذلك من يضطهد من أجل أنه يسلك بحسب بر الله هو فقط من يحيا ملكوت الله في هذا العالم. كل من يحيا بحسب تعاليم السيد المسيح، وبحسب إرادة الله هو يحيا بر الله علي هذه الأرض وعليه فهو يعيش حياة التلمذة والتبعية التي يمتلك فيها الله قلب الإنسان بالتدريج، حتى يظهر الله في هذا الإنسان بشكل كامل وهو ما نُعَرِّفه في اللاهوت[8] المسيحي بالتأله[9].

في نهاية هذا المقال اريد أن اختم باقتباس للاهوتي ديتريش بونهوفر:

"يجب أن تسترد صورة الله فينا مرة أخرى. هذه المهمة تشمل وجودنا كله. فلا يتمثل الهدف والغرض في تجديد الأفكار البشرية عن الله حتى تكون صحيحة عنه، أو أننا نخضع أفعالنا الفردية لكلمة الله مرة أخرى، ولكن يكمن في تكون صورة لــ الله وهذا من خلال وجودنا الكامل وكمخلوقات حية. فيجب أن يحمل الجسد والنفس والروح، أي شكل الإنسان في مجمله، صورة الله على الأرض. فالله لن يرضى بأقل من صورة الكاملة عنه."[10]

   في النهاية اختم بالقول بإننا سوف نواجه في حياتنا هذه آلم بسبب أننا نتبع السيد المسيح لكوننا نحيا حياة البر، وهذا ما أخبرنا به هو قبل 2000 عام. لذلك دعونا لا نستسلم لمثل هذا التحدي، بل هذا ما يجعلنا نستمر في تبعيته وفي أن نحيا حياة البر.

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 


[1] Joachim Jeremias, Jerusalem in the Time of Jesus: An Investigation into Economic and Social Conditions during the New Testament Period.

[2] المقصود من افتداء الوجود هو إعادة الوجود للشكل الذي قصده الله خلقه علية الله وهو وحالة من الخير والسلام.

[3] التلمذة هي توجه الإنسان أن يكون من تلاميذ السيد المسيح فيعيش بطول حياته يتعلم منه ومن افعاله وتصرفاته.

[4] التبيعة هي توجه الإنسان أن يتبع السيد المسيح فيسلك طول الوقت على نفس خطاه.

[5] نقرأ في الكتاب القدس: لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ." (رو 8: 29). " أي انه كما يطلق على المولود الأول لأسرة لفظ "بكر" هكذا المسيح من جهة إنسانيته فهو اول إنسان يحقق مشيئة الله كما أرادها الله، ومن بعده نحن البشر الذي يعيش فينا حياة ترضي الله يقال عنه أنه شبه السيد المسيح. وكما يقول القديس يوحنا الذهبيّ الفم إن الرب بكرنا، لأنه قدم ذاته ذبيحة مقبولة بلا عيب، تسلمها الآب برضا، فصارت البشرية مقبولة فيه ومقدسة فيه. يمتاز البكر بأنه السابق للكل، وأفضل الكل، والمكرس لله، وبه يتقدس المحصول كله.

[6] السقوط هو تلك الحالة التي كان عليها الإنسان ممثل في نبي الله آدم حين عصا الوصية وطرد من جنة عدن.

[7] يخبرنا الكتاب المقدس أن ابليس هو رئيس سلطان الهواء فنقرأ "وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا، ٱلَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هَذَا ٱلْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ، ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلْآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ" (أفسس2: 1-2). في هذا النص، يصف الرسول بولس الشيطان أولاً بأنه "رئيس" ذو سلطان، لأن لديه سلطان حقيقي في العالم (يوحنا الأولى 5: 19). أعطاه الله هذا السلطان (لوقا 4: 6). الشيطان لديه سلطان على بعض الأمراض (لوقا 13: 16؛ انظر أيضًا كورنثوس الثانية 12: 7 - من غير المعروف ما إذا كانت "شوكة" بولس مرضًا أو أي شيء آخر). سبب تسمية الشيطان رئيسًا وليس ملكًا هو أنه لا يوجد سوى ملك واحد - السيد المسيح (تيموثاوس الأولى 6: 15).

[8]  اللاهوت هو العلم الذي يهتم بدراسة المسيحية وهو مثل علم الفقه في المعتقد الإسلامي.

[9] التأله هو مصطلح ابائي يعني أن الإنسان أصبح يمتلك طبيعة أدبية من خلال اقنوم الروح القدس مشابه لتلك التي في الله سبحانه.