"طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ." (مت 5: 8)

  لا شك بأن الموعظة التي ألقاها السيد المسيح المعروفة بإسم الموعظة على الجبل، هي أحد أعظم المواعظ أو الخطبات التي وقف أمامها في ذهول الكثير من العقول لدى الكثير من العظماء في التاريخ. كثير من القادة والرؤساء رأوا فيها أنها الحل للأزمة البشرية ولأزمات البلاد، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي "فرانكلن روزفلت"[1] الذي قال:

 "لا يوجد مشكلة اجتماعية، ولا سياسية، ولا اقتصادية، لا يوجد لها حلاً جميلاً في روح الموعظة على الجبل."

   وأيضًا القائد والسياسي "مهاتما غاندي"[2] يقول إنها اخترقت قلبه، وإنها كادت أن تجعله مسيحيًا لولا المسيحيين. الكثير أيضًا من الرؤساء، والمفكرين، وفلاسفة الأخلاق، ومُعلمي العلوم الإنسانية يقتبسونها ويقفون أمامها في حالة من ذهول العقل.

   لكن في الواقع لم يقف تأثير هذه الموعظة عند الإبهار العقلي فقط لكنها غيرت وشكلت وبكتت الكثير من القلوب وأولهم أنا.

   في التطويبة السادسة نرى وعدًا لطالما حلم به كل انسان مؤمن بوجود الله ولطالما طلبه الكثير مِن البشر ومن رجال الله في الكتاب المقدس، وهو أن "نعاين الله". وعلى رأس هؤلاء هو موسى كليم الله الذي طلبها صراحةً من الله قائلاً له:

 "أَرِنِي مَجْدَكَ"

ورد الله كان:

"لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ." (خر 33: 20)

   لكن السيد المسيح هنا في الموعظة على الجبل يعطي وعدًا وتصريحًا غاية في الجرأة وهو أنه يوجد أشخاص سيعاينون الله القدوس.

فمن هم هؤلاء الأشخاص المُطوبون لكي نتشبه بهم؟ إنهم "أنقياء القلب".

اجتهد الكثير من اللاهوتيين في محاولة فهم الكلمتين "أنقياء القلب" وكُتب فيها مئات بل آلاف الصفحات. فمحاولتنا في هذا المقال ستظل قاصرة وغير وافية.

 

لكن لكي نقترب إلى المعنى الذي كان يقصده السيد المسيح يجب علينا أن نفهم ما المقصود ب "القلب"؟

* يوجد آيات تتكلم عن القلب باعتباره الفكر

"وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ." (تك 6: 5)

 "كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ.... وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ." (عب 4: 12)

*  يوجد آيات أخرى تتحدث عن القلب باعتباره العواطف

"تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ" (مت 22: 37)

* يوجد آيات تتحدث عن القلب بإعتباره الإرادة

"أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا" (رو 6: 17)

* ويوجد آيات تتحدث عن القلب باعتباره الضمير كما يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى:

"لأَنَّهُ إِنْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا فَاللهُ أَعْظَمُ مِنْ قُلُوبِنَا، وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ." (1يو 3: 20)

 

فأي هؤلاء الأربع معاني يا تُرى هو معنى القلب في رأي السيد المسيح؟

   ربما القلب هو الأربع معانٍ، وليس فقط واحدًا منهم. فالقلب هو الفكر والعواطف والإرادة والضمير، وهؤلاء الأربعة هم الذين يشكلون الإنسان الداخلي. فالكثير مِن المُفسرين فسروا المقصود بالقلب أنه "الإنسان الداخلي بأكمله". والنقاء هو أن يكون الإنسان الداخلي نقيًا، وليس ما نظهره مِن الخارج. النقاء فيما يُبطن الإنسان وليس فيما يُظهر. ولا شك أن الأشخاص الذين لن يعاينوا الله في رأي السيد المسيح هم المراؤون، مثلما كان الكثير من الكتبة والفريسيين[3] آنذاك.

  ففي الإصحاح التالي (متى 6) يقول السيد المسيح:

"«وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!" (مت 6: 5)

   لكن توجد هنا مشكلة رئيسية. إن ظن أحد أن هذه وصية سهلة، أن نكون أنقياء القلب، فبالتأكيد هذا الشخص مخطئ، ولم يتأمل نفسه والبشر من حوله بعمق. فأغلب الفلاسفة والأدباء المرموقين على مدار التاريخ لطالما رأوا في قلب الإنسان الظلام والشر. كما يقول الأديب والشاعر الروسي الشهير (إيفان ترجنيف)[4]

 "أنا لا أعرف كيف يبدو قلب الإنسان الشرير، لكني أعرف قلب الإنسان الصالح، قلبه بشع".

  وهذا أيضًا ما يقوله الكتاب المقدس عن البشر إن أفكار قلب الإنسان شريرة وأنه ليس مَن يعمل صلاحًا ليس ولا واحد. وهذا ما اهتم ليُبينه السيد المسيح للمرائين حينما قال لهم:

 "لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ،" (مر 7: 21).

فمشكلتهم ليست فقط في قلوبهم غير النقية، بل أيضًا أنهم متكبرون، وغير متواضعون. فالإتضاع هو أن تعرف مقدار نفسك وأنك لست نقيًا، لكن الكبرياء مثل الرياء في أن تتظاهر بغير ما تُبطن وعلى غير حقيقتك.

   حتى إن استطعنا بريائنا، وكبريائنا أن نخدع الناس، فالله لا ينظر إلى العنين، بل ينظر إلى القلب. ولا يمكن خداع الله

"اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟" (إرميا 17: 9)

   لكن يبقى لدينا هنا معضلة. كيف يُطوّب السيد المسيح أنقياء القلوب بالرغم من أن جميع قلوب الناس ليست نقية، ومليئة بالشرور، والظلام، والكبرياء! فمِن أين للإنسان بقلب نقي! إن كان القلب هو كل الإنسان الداخلي فنحن نحتاج إلى إنسان جديد.

   في الواقع، إن الحل المسيحي للقلب النقي هو أن ينزع أحدهم من داخلنا القلب القديم ويخلق فينا قلبًا نقيًا. فكما يقول داوود النبي:

 "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي." (مز 51: 10)

نريد عملية خلق جديدة كي ما نستطيع أن نعاين الله. وأيضًا مكتوب:

"وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ" (حز 36: 26)

   هذه العملية المُعجزيَّة تحتاج إلى الله ذاته الذي هو المصدر الوحيد للنقاء. فدور الإنسان ليس في أن يُغير قلبه لأنها عملية مُستحيلة للإنسان لكنها غير مُستحيلة على الخالق. فربما يعني هذا أن نأتي إلى الله بنجاستنا. وهذه العملية -أن نقترب للقدوس بنجاستنا- هي عملية صعبة لأنها تُخَجِلنا وتكسر كبريائنا. لكن ربما هذا هو الطريق الوحيد لخلق القلب النقي بداخل الإنسان. أن يقترب الإنسان بنجاسة قلبه إلى الله. فكما يقول الرسول يعقوب:

 "اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ." (يع 4: 8)

   فالحل هنا كي تُطَهِّر قلبك، هو أن تقترب أولاً إلى الله. وبناءً عليه فإن بداية القلب النقي هو أن تكون "شخصًا حقيقيًا" ولا تدّعي النقاء. وبذلك تعطي الفرصة لله كي يُطهرك. فربما كان الابن الضال أقرب لنقاء القلب مِن الابن الأكبر -في مثل الابن الضال الذي ذكره السيد المسيح-[5]، وربما كان العشار[6] الذي قرع على صدره أقرب للنقاء والنور من الفريسي[7]. وربما كانت المرأة الزانية الخاطئة التي سكبت الطيب أنقى من الناموسي[8] رجل الدين. فقد كان هؤلاء أقرب إلى نقاء القلب لأنهم كانوا حقيقيّن ولم يروا في أنفسهم نقاوة القلب.

   في النهاية، أُلخص ما حاولت أن أعرضه في هذا المقال: إن القلب هو كل الإنسان الداخلي، ونقاؤه يحتاج إلى خلق إلهي وليس فقط تغيير سلوكي خارجي. والوحيد الذي يستطيع فعل ذلك هو الله مصدر النقاء. ودور الإنسان أن يقترب إلى الله. أن يقترب الإنسان بنجاسة قلبه، وهذا يتطلب عملية يومية من الإتضاع وأن يكون شخصًا حقيقيًا. فطوبى للأشخاص الحقيقيّن لأنهم في طريق نقاء القلب. وهؤلاء الأشخاص يَعدهم السيد المسيح رب المجد، بأنهم سيعاينون الله. كيف سيعاينون الله ومتى، لا أدري. لكن حتمًا سيعاينون الله كما عاينه العشارين والخطاة "الحقيقيون" غير المرائيون. وبمعاينتهم لله في السيد المسيح تغير قلبهم أكثر فأكثر وتغيرت حياتهم. وكم من فريسي وناموسي رأوا السيد المسيح لكنهم لم يتقابلوا مع الله، لأنهم عميان القلب! فلا ننسى أن كلنا خطاة، وغير أنقياء القلوب، ولكن طوبى "للحقيقيّن" الذين يقتربوا إلى الله في تواضع لعله يغيرهم ويعطيهم أعظم عطية وهي "القلب النقي الذي يُعاين الله".

 

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 


المصادر:

- تفسير انجيل متى لبنيامين بنكرتن.

- كتاب الخلفية الحضارية للكتاب المقدس (ج2) بقلم كريج س كينر.

- تفسير الكتاب المقدس للمؤمن لـ وليم مكدونلد

- عظة د/ماهر صموئيل طوبى للأنقياء القلب

https://m.youtube.com/watch?v=eH_OZXUULDU&pp=ygUw2K8v2YXYp9mH2LEg2LfZiNio2Ykg2YTZhNij2YbZgtmK2KfYoSDYp9mE2YLZhNio

- تفسير الكتاب المقدس للقس ديفيد كوزيك.

[1] https://www.azquotes.com/quote/881974

[2] https://quotefancy.com/quote/857513/Mahatma-Gandhi-If-it-had-not-been-for-the-Christians-that-I-have-known-I-might-have-been

[3]  الكتبة والفريسين: هم معلموا اليهود آنذاك، مَن يمثلون السلطة الدينية.

[4] https://quotefancy.com/quote/1449832/Ivan-Turgenev-I-do-not-know-what-the-heart-of-a-bad-man-is-like-But-i-do-know-what-the#:~:text=man%20is%20like.-,But%20i%20do%20know%20what%20the%20heart%20of%20a%20good,And%20it%20is%20terrible.

[5] في هذا المثال كان يبدو أن الابن الأكبر هو من يُحب الأب ويخدمه بخلاف الصغير الذي ترك البيت، ولكن نقرأ أن المثل يقول لنا خلاف ذلك.

[6]  العشار: هو يهودي كان يجمع الضرائب لصالح الدولة الرومانية المُحتلة لليهود آنذاك وكان بمثابة خائن.

[7]  الفريسي: هو مُعلم يهودي له سلطة دينية.

[8]  الناموسي: أي الذي يتبع الناموس، والناموس هي كُتب التوراة.