.jpg?alt=media)
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- القَسَم
د. وليد القطّار
5/25/23 - ٥ دقيقة قراءة
«أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ».[1]
استهلال
إن كانت المسيحيّة تُنادي بأن نحيا أبعاد ملكوت الله على الأرض، فلا بدّ أنّ المسيحي يطوق إلى العدالة الاجتماعيّة المُطلقة والمُسالِمة. اجتمعت الصلاة الربانيّة مع وعظة السيد المسيح على الجبل، يُناديان لنا "أدخلوا من الباب الضيّق".[2] فهذا يعني أنّ هناك بابًا واحدًا للمؤمنين يستطيعون الدخول منه، وهناك أبوابًا عديدة خارج الملكوت[3]، عاقبتها الهلاك. ومن هنا، المؤمن بالسيد المسيح يعرف كيف يُعامل الناس بالطريقة التي يُحبّ أن يعاملوه بها. لا يحسب نفسه تابعًا للمسيح ما لم يفعل للجميع كلّ ما يسأل الله لنفسه. ولأنّ المؤمن هو خليفة لله على الأرض، فهو يُطبِّق هذه العدالة بحسب المفاهيم الكتابيّة دون أيّ تردّد.
ومن هنا نجد في خطبة السيد المسيح على الجبل لنا تطبيقًا عمليًّا. فالطريق واضح لكلّ مَن يُريد أن يكون صادقًا مع كلمة الله المُقدّسة. بالرغم من أنّ هذا الطريق محفوف بالصعوبات، إلّا أنّنا لا نسير عليه من دون فضل الله الذي يكفينا في كلّ وقت.[4] فالنعمة مُتاحة لنكون مُملّحين بكلامنا، ونورًا للكل، نُحبّ الأعداء ونُحذّر من إدانة الآخرين، ونمتَنع عن الحَلف والقَسم تحت أيّ ظرف. إذ لا يكفي أن نُجاهر بحُبّنا للسيد المسيح، ما لم نقدر أن نُثبِت حُبّنا له؛ وهو يُخبرنا عن كيفيّة القيام بذلك
«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاِحْفَظُوا وَصَايَايَ!».[5]
الخلفيّة التاريخيّة للنصّ
يستهل السيد المسيح بتذكيرنا بما قيل للقُدماء. فلقد سمح الله للقُدماء -أي لشعبه- أن يقسموا (يحلفوا) باسمه. يقول موسى في سفر العدد
«إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْرًا لِلرَّبِّ، أَوْ أَقْسَمَ قَسَمًا أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِلاَزِمٍ، فَلاَ يَنْقُضْ كَلاَمَهُ. حَسَبَ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ يَفْعَلُ».[6]
يُشدّد الناموس هنا على ضرورة حفظ النّذر أو القسم أمام الله والآخرين. لم تكُن العهود في العهد القديم، موقّعة بشكل عقودٍ مكتوبةٍ كما هي الحال اليوم، فكلمة الشخص هي مُلزمة له كالتوقيع تمامًا، وكان النّذر أكثر إلزامًا. فالشريعة لا تُجبر أحد بأن ينذر نذرًا، ولكن متى حدث النّذر، كان لا بُدّ من إتمامه. كما أنّ حفظ النّذر كان دلالةً على الإخلاص والأمانة ضمن حياةٍ مُكرّسةٍ تُرضي الله، في حين كسر النّذر كان إشارةً إلى هدم العلاقة وفقدان الثّقة ومعيّة الله.
اليوم، ما زالت الثّقة هي أساس علاقتنا بالله وبالآخرين. فأيّ تزعزع للثّقة قد يَنتج عنه نقض للعهد بيننا وبين الله، وسيُسبّب من الضّرر ما كان يُسبّبه في أيام موسى.
أهمّية الموضوع
المبدأ العام في القَسم أنّه موجّه للربّ
«إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْرًا لِلرَّبّ».
لقد سمح لهم الربّ، وهم تحت الناموس، أن يستخدموا اسمه في القَسم، وذلك لسببين:
- أولًا، حتى يرتبطوا به ولا يرتبطوا بالآلهة الوثنيّة إذ يقسمون بها.
- ثانيًا، حتى لا يحنثوا بوعودهم، بل يلتزموا بأن يوفوا أقسامهم أمام الربّ (الحنث هو القسم كذبًا).
لكن اليهود، وتجنُّبًا لشرّ القسم بالله والعقاب متى حنثوا بما أقسموا عليه، قد سمحوا بالقَسم بالسماء والأرض وبأورشليم وبرأس الإنسان، واعتبروا أنّ هذه الأشياء لا علاقة لله بها. كيف يرضى السيد المسيح بتعاليم مُضّلة كهذه؟ أليست كلّ الخليقة خاضعة لله، هو خالقها وجابلها. يقول أيّوب عن قُدرة الربّ
«الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ، وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ. الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ. صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ. فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ».[7]
ولكن السيّد المسيح هنا يُعلّمنا أنّ كلّ الخليقة لها علاقة بالله، بما فيها الأرض والسماء وأورشليم وحتى شعر رؤوسنا.
ومن ناحيةٍ أخرى، نحن لا نملك أيّ شيءٍ في العالم، بل نحن وكلاء عليه، فكيف نقسِم بشيءٍ لا نملكه؟ الله وحده القادر على القَسم، لأنّه يملك كلّ شيءٍ. لذلك، يوضّح لنا السيد المسيح أنّنا لا نملك حتّى شعرةً واحدةً من رؤوسنا، وعاجزين عن تغيير لونها. وبالتالي، لا يصحّ أن نَحلف بحياة إنسانٍ أو أيّ شيءٍ من المخلوقات التي في العالم؛ لذا يُطالبنا أن يكون كلامنا بسيطًا خاليًا من القَسم، أيّ لا نحتاج أن نُثبته بالقَسم، وتكون إجابتنا على الآخرين (نعم أو لا فقط). إنّ مُحاولة تجنُّب الحَلف باسم الربّ عن طريق استبدال اسمٍ آخر به لم تكُن عمليّة رياءٍ فقط بل كانت عديمة النَّفع أيضًا. فالحَلف بالسماء معناه الحَلف بعرش الله، والحَلف بالأرض هو الحَلف بموطئ قدميه، والحَلف بأورشليم هو الحَلف بمدينة الملك العظيم؛ حتّى الحَلف برأس الإنسان يشمل الله باعتباره خالق كلّ شيءٍ.[8]
المسيح نذيرنا أمام الآب:
في العهد القديم، نذرتّ "حنّة" -إحدى إماء الله- للربّ ثمرة بطنها، وكرّست صموئيل ابنها للهيكل
«وَنَذَرَتْ نَذْرًا وَقَالَتْ: "يَا رَبَّ الْجُنُودِ، إِنْ نَظَرْتَ نَظَرًا إِلَى مَذَلَّةِ أَمَتِكَ، وَذَكَرْتَنِي وَلَمْ تَنْسَ أَمَتَكَ بَلْ أَعْطَيْتَ أَمَتَكَ زَرْعَ بَشَرٍ، فَإِنِّي أُعْطِيهِ لِلرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، وَلاَ يَعْلُو رَأْسَهُ مُوسَى».[9]
وللأسف نذر "يفتاح" -أحد قضاة شعب الله في القديم- أيضًا أنّ الخارج من أبواب بيته للقائه عند رجوعه من المعركة مع بني عمّون يُصعده محرقةً للربّ، وإذا بالخارجة للقائه ابنته الوحيدة. فمزّق ثيابه وامتلأ حزنًا وكدرًا وقدّمها محرقة
«وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: "آهِ يَا بِنْتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْنًا وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ، لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوعُ". فَقَالَتْ لَهُ: "يَا أَبِي، هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى الرَّبِّ؟ فَافْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ، بِمَا أَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي عَمُّونَ».[10]
ونرى آخرون قدّموا بيوتًا وحيوانات نذورًا للربّ.
لكنّ السيّد المسيح قدّم حياته نذيرًا للآب. فالنَّذر يوجِب أن تُقدِّم شيئًا تمتلكه في الأصل. لذلك، السيد المسيح الحَمل الصحيح الكامل قدّم نفسه ذبيحة حُبٍّ للبشرية، وقود رائحة سرور ورضى للآب.[11] ويقول الوحي المُقدّس:
«وَأَمَّا هذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ».[12]
ذبيحة السيد المسيح هذه، جعلتنا نقدّم ذواتنا له اليوم، بالشكر والحمد والتسبيح والإيمان، فنحمل صليبه في داخلنا ونقدم حياتنا كاملة لله. وتكون علامة نذورنا هي
«مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ».[13]
عمَّق المسيح هذه الوصية: "لا تقسم":
اليوم، في العهد الجديد نرى السيد المسيح يُعمِّق هذه الوصية، ليضعها أكثر فأكثر في بُعدها الروحيّ أكثر من الماديّ. يؤكّد في هذا الجزء على أهمّية الصدق. لقد كان الناس يُنكثون وعودهم ويستخدمون العبارات المُقدّسة باستخفاف وبلا تدقيق. فالقَسم مسموح به في ظروف مُعيّنة، طالما لم يتمّ إساءة مُعاملته واستخدامه كغطاءٍ للخِداع.
• الله نفسه يُقسِم:
«فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ».[14]
• تكلّم المسيح تحت القَسم في مَحكمة:
«وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: "أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟" قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ».[15]
• قام بولس الرسول أحد أتباع المسيح بأداء القَسم:
«وَلكِنِّي أَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى نَفْسِي، أَنِّي إِشْفَاقًا عَلَيْكُمْ لَمْ آتِ إِلَى كُورِنْثُوسَ».[16]
المسيح يُريدنا أن نُدرك، بالرغم أنّ القَسم مسموح به (وأحيانًا ضروريًّا) في ظروفٍ مُعيّنةٍ كدليلٍ على أنّ البشر ليسوا رجالًا صالحين وأنّ هذا ليس عالمًا صالحًا.[17] لذلك، يعتبر السيد المسيح بأنّ القَسم غير ضروريّ للمؤمن الصادق. فإنّ "نعمه" يحب أن تعني "نعم"، و "لاءه" يجب أن تعني "لا"؛ وكل استخدام للُغةٍ أقوى من الـ (نعم) أو الـ (لا) فهو دليل على أنّ الشيطان له باب مفتوح في الأمر يسود فيه على حياتنا. فلا وجود لظرفٍ أو حالةٍ مُعيّنةٍ يستطيع المؤمن أن يكذب فيها.[18]
الخُلاصة
على المؤمن أن يكون شخصًا يبغي العدالة الاجتماعيّة بين الناس. فهو شخص أعطي له بقوّة النعمة أن يُدقّق في كلامه (لأنّه ملح الأرض)، فيطلق بكلامه اسم الله للبركة، مُبتعدًا عن الكذب وأشكاله. فهو بالتالي لا يحتاج إلى إثبات أقواله بالأقسام الباطلة، ولا أن يستهين باسم الله أو حياة الناس، بل يكتفي بالصدق المُطلق في كلامه.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (إنجيل متّى 5: 33-37)
[2] (إنجيل متّى 7: 13)
[3] الملكوت: أي ملك الله على الخليقة كلها.
[4] (2 كورنثوس 12: 9)
[5] (إنجيل يوحنا 14: 15)
[6] (سفر العدد 30: 2).
[7] (سفر أيوب 9: 7 -10).
[8] وليم ماكدونالد. تفسير إنجيل متى، موقع الإلكتروني https://2u.pw/vwQFHV
[9] (سفر صموئيل الأول ١: ١١).
[10](سفر القضاة ١١: ٣٠-٤٠).
[11](رسالة أفسس ٥: ٢)
[12] (رسالة العبرانيين ١٠: ١٢).
[13] (غلاطية ٢: ٢٠).
[14](رسالة العبرانيين ٦: ١٣).
[15](إنجيل متّى ٢٦: ٦٣-٦٤).
[16] (٢كورونثوس ١: ٢٣).
[17] ديفيد كوزيك. تفسير ديفيد كوزيك، خدمة الكلمة الثابتة، الموقع الإلكتروني https://2u.pw/s3dBpr
[18] وليم ماكدونالد. تفسير إنجيل متى، معهد عمواس للكتاب المقدس يعمل بالنيابة عن أصحاب الحقوق لتفسير وليم مكدونالد، الموقع الإلكتروني https://2u.pw/vwQFHV