.jpg?alt=media)
قصة المسيحية >
القصة المسيحية- الحل- تحقيق النبوءات في المسيح (ج2)
صوت اونلاين
7/5/23 - ٥ دقيقة قراءة
استهلال
في الجزء الأوّل من هذا المقال تحدّثنا عن موضوع تحقيق نبوءات العهد القديم في المسيح. عرَضنا بعض الجوانب التي تُظهِر هذا التّحقيق، وذلك بالتركيز على كلام المسيح بنفسه عن نفسه، وتأكيده على إتمام نبوءات العهد القديم التي قالها الأنبياء السّابقون عنه، وأيضًا بشهادة أتباعه وتلاميذه. في هذا الجزء سنعمل على استكمال بعض جوانب هذا التحقيق، حتى نوضّح أهم الجوانِب التي تُظهِر ترابُط المسيح بنصوص العهد القديم، وتحقيق ما تكلّم به الأنبياء عنه.
جابِر المُنكسرين
في يومٍ من أيام السّبت، دخل المسيح المَجمَع (مكان اجتماع اليهود للعبادة) لكي يعِظ الناس ويتلوا عليهم من كلمة الله المُقدّسة. فجاؤوا له بسِفر نبي الله إشعياء، وهو من الأنبياء السابقين (سلام الله عليهم أجمعين). يحكي لنا البشير لوقا -كاتِب الإنجيل- أنّ المسيح بينما كان يقرأ، وصل إلى آيةٍ محوريّةٍ من هذا السّفر، وهي:
«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ».[1]
وبالعودة إلى سِفر إشعياء الآن نجد هذه الآية حيث يقول:
«رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ».[2]
إلى هنا يبدو الأمر عاديًا، المسيح يقرأ نصًّا من كتابات الأنبياء على مسامِع اليهود كالعادة. لكن اللّافت هنا ما ذكره لنا البشير لوقا حيث يُكمل لنا ما حدث، ويقول:
«ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».[3]
بهذه الكلمات الصادِمة على آذان اليهود تكلّم المسيح مُجيبًا عن سؤالين: الأوّل، عمّن كان يتكلّم نبيّ الله إشعياء؟ فأجاب المسيح: عنّي أنا. الثاني، متى سيتحقّق ما قاله نبيّ الله إشعياء؟ فأجاب المسيح: يتحقّق الآن معي ومن خلالي. وبالعودة لأعمال المسيح وعجائبه التي أجراها وسجّلتها لنا الأناجيل، نجد أنّ المسيح حقّق كلّ هذا، فعندما قال:
- أُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ: تُضعف الخطيّة المساكين، ولكنّ المسيح يأتي بالخبر السّار للمساكين.
- أشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ: تكسِر الخطيّة القلوب، ولكنّ المسيح يأتي بالخبر السّار لمُنكسري القلوب.
- أُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلْإِطْلَاقِ: تأسر الخطيّة المأسورين وتستعبدهم، ولكنّ المسيح يُنادي لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلْإِطْلَاقِ.
- ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ: تعمي الخطيّة الإنسان، ولكنّ المسيح يشفي روحيًّا وأخلاقيًّا.
- وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ: تسحَق الخطيّة ضحاياها، ولكنّ المسيح يُرسِل ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ.[4]
من خلال ما سبق يتبيّن لنا تحقيق نبوءة نبيّ الله إشعياء في شخص المسيح، ليس هذا فحسب؛ فالأعجب من ذلك هو إقرار ألوهيّة المسيح. فبالرجوع إلى نفس السِفر الذي تنبّأ عن المسيح، نجد إعلانًا إلهيًّا يقول: «لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: «فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ».[5] فالله يُعلِن سُكناه وسط المُتألّمين والمُنسحقين، ليُحي مِيْتَ أرواحهم وقُلوبهم. وهذا ما قاله المسيح عن نفسه استنادًا لتلك النبوءة. فما أعلنه الله في العهد القديم هو ما أقرّه وأعلنه وحقّقه في شخص المسيح المُتجسّد في العهد الجديد.
النبوءات الكفّاريّة الخلاصيّة في العهد القديم
يسرد لنا نبيّ الله إشعياء في الفصل الثالث والخمسين من سِفره، وصفًا في غاية الدقّة، لما سيناله المسيح (العبد المُتألّم)، وما يعتريه من أهوال وآلام وتعذيب وصلب.
«مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ». لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ».[6]
تحقيق هذه النبوءات في نصوص العهد الجديد
- عجائب الشفاء والتحرير من الأرواح الشريرة: يقول البشير متّى عن المسيح: «وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ:
«هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا».[7]
ويُشدّد البشير متّى على عبارة (لكي يتمّ ما قيل بإشعياء النبيّ)، لأنّه انتبه لأنّ ما يجري على يد المسيح من آيات وعجائب ليس مُصادفة.
- الإحصاء مع الأثمة: البشير لوقا في إنجيله يوضّح لنا نبوءة عندما بدأ المسيح تهيأة تلاميذه لما سيحدُث له قُبيل صلبه، حيث قال المسيح عن نفسه:
«لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ».[8]
ربط المسيح بوضوح نصّ إشعياء الذي تنبّأ عن إحصائه ضمن لصوصٍ وخُطاة، وهذا ما حدث عندما صُلِب المسيح وسط لصّين، كما ذكر ذلك لنا البشير مُرقس في إنجيله: «وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ».[9]
- الموت لأجلنا: يقول الرسول بولس مُتحدّثًا عن المسيح:
«الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا».[10]
ويُضيف مؤكّدًا في موضعٍ آخر مُحدّثًا المؤمنين عن المسيح:
«فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ».[11]
وهذا بالضبط ما ورد بالنبوءة كما أوردنا أعلاه «وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ». نُلاحظ أنّ الرسول بولس يُشدّد على فكرة أنّ تقديم المسيح لنفسه فدية أو كفّارة عنّا ليس من قبيل المُصادفة، وإنّما أكّد أنّه حسب الكُتب، أي وِفق كتابات الأنبياء السابقين. والمُحتمّ حدوث ذلك، لكي يتمّ ما تنبّأ به السابقون.[12]
الخُلاصة:
تجلّى لنا بوضوحٍ ارتباط العهد القديم بالمسيح، والذي تحقّق في شخصه نبوءات متنوّعة للأنبياء السابقين. فعند قياس كلّ هذه النبوءات فبكلّ تأكيد لا تنطبق إلّا على شخص المسيح؛ إذ اجتمعت وتحقّقت فيه بطريقةٍ تفوق التصوُّرات والتقديرات البشريّة. الجدير بالذّكر هنا، أنّه لم تقتصر نبوءات العهد القديم عن المسيح على سِفر إشعياء فقط، وإنّما العهد القديم حافلٌ من البداية إلى النهاية بشتّى النبوءات. بداية من ميلاده إلى صعوده مرورًا بألآمه وصلبه وقيامته. يُعتبر هذا الموضوع من المواضيع الغنيّة التي لا يسعنا سبر غورها في مقالين أو اثنين. لكن ما نحن بصدده هو مُحاولة للتعرّف على جزء بسيط من هذا الباب الواسع في علم الإلهيّات المسيحيّ.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (إنجيل لوقا 4: 18).
[2] (سِفر إشعياء 61: 1).
[3] (إنجيل لوقا 4: 20 -21).
[4] ديفيد كوزيك، تفسير إنجيل لوقا، موقع إلكتروني، تمّ الاطلاع عليه في 17/5/2023 من خلال هذا الرابط https://2u.pw/SrJgN4
[5] (سِفر إشعياء 57: 15).
[6] (سِفر إشعياء 53: 3 -12).
[7] (إنجيل متّى 8: 16 – 17).
[8] (إنجيل لوقا 22: 37).
[9] (إنجيل مُرقس 15: 27 -28).
[10] (رسالة روميّة 4: 25)
[11] (1 كورونثوس 15: 3).
[12] القسّ شنودة ماهر إسحاق، المسيح في نبوءات العهد القديم (القاهرة: مطبعة الأنبا رويس، 2002)، 44 – 46.