
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- الصدقة (ج1)
د. إسحق عصام
6/1/23 - ٥ دقيقة قراءة
"احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ... فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلْأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ." (متى 6: 1، 2)
-
مقدمة:
في العمل الدرامي الشهير "الملك لير" أحد أشهر أعمال الأديب البريطاني ويليام شكسبير، وفي المشهد الأول من الفصل الأول من ذلك العمل نجد البنت الصُغرى للملك "لير"، "كورديليا"، في موقف صعب. الملك لير يُقسّم مملكته على بناته الثلاث. يبدو أن الملك لير لا يعطي كل من بناته نصيبها من المملكة قبل أن يسمع بعض من الكلمات التي يريد أن يسمعها، لا يهم إن كانت حقيقية أم لا، لكنه يريد أن يسمع كلمات الثناء والحب من بناته أيًا كان دافعها. لكن كورديليا، على عكس أُختاها، لم تنجح في هذه المهمة، التي على إثرها نالت غضب أبوها الملك، والذي حرمها من إنعامه عليها. لم تستطع كورديليا نفاق أبوها الملك وقالت له تلك الكلمات:
"ربما لأنه ينقصني ذلك اللسان المُتملِق وذاك الفن اللامع،
ألا وهو أن أتكلم ولا أعني شيئًا مما أقوله..
لم أخسر نعمتك واستحسانك لي بسبب جريمة أو خطأ..
بل لأنني لم أمتلك العين التي تريد النَهَم وذلك اللسان المنُافق..
لكنني أكثر غنى.. وأسعد أنني لا امتلكهما.. على الرغم من أنه أفقدني اعجابك بي"[1]
سنعود لكورديليا و"الملك لير" لاحقا...
أولاً؛ أريد أن نتناول الأعداد الأولى من الإصحاح السادس للإنجيل بحسب البشير متى، حيث سنتناول حديث السيد المسيح عن فعل الصدقة، وسنحاول أن نفهم ماذا أراد أن يقول، ولماذا حذّرنا من الرياء تجاه هذا الفعل؟ ولفهم الإطار اللاهوتي والثقافي الذي تأتي فيه الموعظة على الجبل ككل سأقدم طرحًا من العدد الأول من هذا الإصحاح، لفهم الإطار العام، فيعطينا فهمًا أكبر للأعداد من (2-6) من الإصحاح السادس، لُب موضوعنا.[2]
-
طرح بخصوص (مت 6: 1):
ربما عندما نُمعن النظر إلى العدد الأول من الإصحاح السادس، نكتشف أنه ليس فقط مقدمة أو جزئًا من الفقرة الأولى من الإصحاح والتي تتناول موضوع الصدقة، لكنه مقدمة للفقرات الثلاث المقبلة في الإصحاح، والتي تتحدث عن الصلاة من (عدد 5-18) والصوم من (عدد 16-18).
يطرح أستاذ العهد الجديد دونالد آرثر كارسون تعليقًا على العدد الأول من الإصحاح قائلًا:
"الكلمة اليونانية (eleemosynen) والتي تعني صدقة، المستخدمة في العدد الثاني، ربما تمت بلورتها واستخدامها من أحد النُسّاخ للنص لتشير إلى الكلمة اليونانية المُستخدمة في العدد الأول. لكن الكلمة اليونانية المستخدمة في العدد الأول هي كلمة (dikaiosynen)وهذا له تفسير، عادةً كلمة (dikaiosynen) في الترجمة السبعينية للعهد القديم كانت تُترجم إلى كلمة صدقة."[3]
يميل كارسون إلى ذلك المعنى الأصلي للكلمة في العدد الأول، والتي عندئذ يُمكن ترجمتها إلى (righteousness) والتي تأتي بمعاني مثل "البر، الاستقامة، ما هو صحيح و ما هو عادل"
إذًا مع هذا الطرح ربما سيكون استخدام كلمة "برّكُم" أكثر دقة من كلمة "صدقتكم" في العدد الأول من الإصحاح السادس، بحيث تكون الأية:
"اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا برَّكم قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ."
من هنا سيصبح هذا العدد مقدمة ليس للأعداد الأولى فقط من الإصحاح -عن الصدقة-، لكن للفقرات الثلاث ككل والتي تتحدث عن (الصدقة، والصلاة، والصوم).
ماذا يعني هذا إذًا؟ موضوع السيد المسيح إذًا هو البر والاستقامة الممثلة في ثلاثة مقاطع من هذا الإصحاح، سأتناول بالطبع ماذا قصد المسيح بالبر، لكن أريد أن ألتفت الآن للأسلوب الأدبي للموعظة على الجبل.
-
الأسلوب الأدبي للموعظة على الجبل:
يطرح أستاذ العهد الجديد دَيل سي. أليسون أن قلب الموعظة على الجبل مُقسّم إلى ثلاثة عناوين رئيسية جاءت كالتالي[4]:
1- المسيح والتوراة (متى 5: 17- 48)
2- المسيح والعبادة (متى 6: 1-18)
3- المسيح والقضايا المجتمعية (متى 6: 19؛ 7: 12)
يقترح أليسون أن تلك العناوين الرئيسية والتي تأتي تحتها الكثير من الموضوعات بالطبع -على سبيل المثال موضوع الصدقة الذي سنأتي له، يندرج تحت العنوان الثاني-، تأتي هي أيضًا في الإطار الأدبي[5] inclusio.[CR1] [IB2] [IB3]
الشطر الافتتاحي في هذا الإطار هو مَنْ يصادق عليهم يهوه، المباركون (متى 5: 3-16) وشطر الخاتمة مَنْ لا يصادق عليهم يهوه، أو بالأحرى من لا يعرفهم! (متى 7: 13-27).
العناوين الثلاثة يحتضنها من جهة ب
"ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلْأَنْبِيَاءَ" (متى 5:17)
ويحتضنها أيضًا من الجهة المقابلة:
" ِأَنَّ هَذَا هُوَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلْأَنْبِيَاءُ" (متى 7:12)[6]
هذا الإطار الأدبي مهم، إن أردنا أن نفهم نصوص الموعظة على الجبل بشكل شامل ووافي دون أن نقتلعها من مكانها لنفهمها بشكل مختلف عما وُجدت فيه. وكأن متى البشير يحاول أن يضع لُب الموعظة على الجبل في مفارقة ما بين طبيعة الأشخاص التي يريدها ولا يريدها يهوه، كما أن هؤلاء الأشخاص يستطيعون أن يميزوا بعمق شديد ماذا قصد لهم يهوه حقًا من خلال الناموس والأنبياء.
بعد الالتفات إلى تلك النظرة السريعة للموعظة على الجبل، أين يقع موضوع البر والذي حاولت أن اقترحه كمقدمة لموضوعنا في الإصحاح السادس؟
مفهوم البر بحسب كلمات السيد المسيح:
في الواقع كلمة " البر" لم تكن فقط مقدمة العنوان الثاني والثالث لقلب الموعظة على الجبل (المسيح والعبادة؛ المسيح والقضايا المجتمعية) بل كانت أيضًا مقدمة العنوان الأول (المسيح والتوراة) في قول المسيح الشهير
" َإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ." (متى 5: 20)
إذًا يبدو أن موضوع البر أمرٌ هام لكي يُشكّل نظرتنا لما هو قادم من مواضيع عديدة داخل تلك العناوين. كيف يمكن لنا أن نفهم "البر" في ضوء الإطار الأدبي الخاص بطبيعة الأشخاص التي يريدها يهوه وفهمهم العميق للناموس والأنبياء؟
أود الإشارة أن مفهوم البر كان له أصداء لها ثِقَل أيضًا في الثقافة الغير يهودية المحيطة، شكّلت عقل المستمع الأممي الذي لم يستطع أن يصل لمعنى واضح بشكل ما له.[7] لكن يبدو أن المسيح كان له رأيٌ أخر، يبدو لنا أنه يمتلك طرحًا آخر. يبدو في نص مثل (متى5: 20) ونص مثل (متى 6: 1) أنه يمتلك شيئًا إيجابيًا بخصوص تعريف البر. سنحاول، على قدر الاستطاعة، في المقال القادم أن نرى ماذا كان يقصد؟ وما هو الإطار الفكري لمثل هذه الكلمة في العقل اليهودي، قبل أن نصل إلى محطتنا الأخيرة وهو النص الخاص بفعل الصدقة.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] “King Lear” by William Shakespeare; edited, fully annotated and introduced by Burton Raffel with an essay by Harold Bloom. The annotated Shakespeare, Yale University Press 2007.
[2] اقترح أن تعود للمقالة المعنونة "مقدمة التطويبات" ستساعدنا كثيرًا ربما في فهم أهمية الإطار العام للإنجيل، وبعض المصطلحات التي سأتناولها بدون شرح هذه المرة.
[3] The Expositor Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By the Zondervan Corporation. The Gospel According to Matthew by D. A. Carson.
[4] The Sermon on The Mount by Dale C. Allison Jr; Inspiring the Moral Imagination; The Crossroad Publishing Company, New York 1999.
[5] اقترح أن تعود للمقال الأول عن الموعظة على الجبل بعنوان "مقدمة التطويبات" لتقرأ شرح ومعنى كلمة inclusio الواردة هنا.
[6] The Sermon on The Mount by Dale C. Allison Jr; Inspiring the Moral Imagination; The Crossroad Publishing Company, New York 1999.
ملحوظة: عبارة "مَنْ يصادق عليهم يهوه، المباركون.. لا يصادق عليهم يهوه، أو بالأحرى من لا يعرفهم!" هي تعليقي الشخصي أما باقي الفقرة فهي لأستاذ العهد الجديد، دَيل أليسون.
[7] إذا كنت من الأشخاص الذين سيبحثون أولًا عما إذا كان ما يقترحه المسيح عن البر أمر هام من الأساس-ربما هذا كان شكَّل الإطار الفكري للمجتمع الذي كان متأثرًا بالثقافة اليونانية آنذاك قبل مجيء السيد المسيح بأكثر من 300 عامًا-، فسأقترح عليك العودة للحوار الفلسفي الذي دار بين سقراط و ثراسوماخس اليوناني عن البر أو العدل- بالمناسبة أصل الكلمة الذي جاء في الحُجّة هو نفس الأصل من الكلمة اليونانية المستخدمة هنا للبر(1)- الموجود في الكتاب الأول من المجلد الشهير "جمهورية أفلاطون" والذي حجو فيه سقراط أن وجود البر أو العدل أكثر فائدةً وربحًا من غيابه. إذا سرت في فرضيات سقراط واحدة تلو الأخرى، ستجده كيف يبني محاجاته أن هذا الانسان البار يعرف كيف يحيا، يعرف كيف توجه نفس الانسان دفّة هذه الحياة، وأنها بذلك أسعد من غيرها(2) . لكنك ستجد أمرًا مثيرًا للاهتمام في نهاية الكتاب الأول من محاجاة سقراط مع ثراسوماخس، يقول سقراط:
"أتعلم شيئًا يا ثراسوماخس؟ ... لم أجد في كل ذلك مأدبة جيدة.. أو ممتعة.. لقد تركت ما كنت أسعى حقًا لكي اكتشفه، السؤال "ما هو العدل (البر) dikaiosýni؟" لقد تركت هذا السؤال وذهب معك خلف هل هي رذيلة وقلة معرفة أم هي فضيلة وحكمة... وها هي النتيجة أنا لا أعرف شيئًا حقًا، إذا لم أعرف حقًا ما هو العدل (البر) فأني بالكاد ربما أعرف ما إذا كان فضيلة أم لا، وما إذا كان الانسان البار سعيدًا أم لا."(3)
سقراط لم يرض عن نتيجة فرضياته التي آلت به لأمر جيد. تلك البيئة الفكرية تعرف أنه بداخل مجموعة من الفرضيات الصحيحة والعقلانية والتي بالفعل هي بداية جيدة للغاية، يمكن للبر أن يكون بالفعل أمرًا إيجابيًا، أرجو ألا تفهمني خطأ، ما فعله سقراط في تلك المحاجاة عظيم ويستحق حقًا الاحترام.(4) لكن سقراط شعر أن هناك أمرًا لا يزال ناقصًا، لم يستطع أن يُعرِّف مفهوم ذلك البر أو العدل، لم يستطع أن يعطي له وصفًا.(5)
للمزيد من التفاصيل يمكنك الرجوع إلى:
(1)- “Plato's Concept of Justice: An Analysis”; D.R. Bhandari; J.N.V. University; https://www.bu.edu/wcp/Papers/Anci/AnciBhan.htm
(2)- The Republic of Plato; translated and with an interpretive essay by Allan Bloom; with a new introduction by Adam Kirsch; published by Basic books, New York 2016.
(3(- المرجع السابق
(4)- Rudebusch, George. “The Righteous Are Happy.” History of Philosophy Quarterly, vol. 15, no. 2, 1998, pp. 143–60. JSTOR, http://www.jstor.org/stable/27744774
(5)- Plato’s Republic; a study by Stanley Rosen; published by Yale University Press 2005.