"من بين تعاليم السيد المسيح، الموعظة على الجبل هي الأكثر قربًا لنا، الأكثر شهرةً، والأقل فهمًا..."[1]

المسيح يُعَلِّم بأمثال:

في إنجيل متى الإصحاح الثالث عشر سأل التلاميذ السيد المسيح قائلين:

 "لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟"

   يبدو أن السؤال الذي سألوه "لماذا لا تقول لهم ولنا ها هو الطريق!" يسوع علّم الناس، لكن كيف علّمهم؟ علّمهم بأمثال، علّمهم بمفارقات، وعلّمهم بطرق تسمح لهم بأن يحتفظوا بشيء داخلهم ويعملوا عليه بدون اللجوء للصدام الأول... لقد سرد لهم قصصًا، لكي يجدوا شيئًا يمكن أن يُمضغ، لقد كانت قلوبهم غليظة وآذانهم كذلك.[2]
 

"ربما أسوأ شيء قد تفعله لأي شخص هو أن تذهب إليه وتقول له مباشرة ماذا يعمل بالضبط، ما هو الطريق؟ أنه لأمر مسيء أن تنظر لشخص في عينيه وتقول له ها هي كذلك، لقد أعتدنا على هذا الأسلوب في التعليم، ربما مكان هذا النوع من التعليم هو المدارس حيث يتم امتحاننا طبقًا لذلك... السيد المسيح علّم بشكل يساعدنا لأن نقف في ذلك المكان، المكان الذي فيه نتحمّل مسؤولية فتح أنفسنا بالكامل والسعي وراء الحقيقة، والسعي أكثر خلفها ومطاردتها. مع الوقت نبدأ في الحصول عليها، مع الوقت ربما نكون قادرين أن نحتمل عبئها."[3]


   في السطور التالية من هذا المقال سنحاول أن نفهم ما أراد السيد المسيح أن يُعَلِّم في تعاليمه على الجبل، -ولغرض الطرح الذي سنفكر فيه سنكتفي بالرجوع لإنجيل متى فقط-، وسنفكر أيضًا في كيف علّم السيد المسيح ما أراد أن يُعَلِّمه بحسب ما سجله لنا الإنجيل، -على قدر الاستطاعة-، سنحاول أن نفكر في الإطار العام فيما حول هذه التعاليم، أما في الأجزاء القادمة فسنستعرض بوابة الدخول "التطويبات".

يحاجي الفيلسوف الأمريكي دالاس ويلارد أن:

"السيد المسيح يُعلّم بالمقابلات، بتسليط الضوء عن طريق المقارنات، بالاستعارات."[4]

   فكما حاولنا أن نستعرض في المقدمة، لم يكن السيد المسيح يحاول أن ينتصر في الحوار لنفسه في العقيدة أو في صحة تعاليمه وما يقوله، كان يَعلم أن غلاظة القلب ستؤول لا محالة إلى نفور الناس مما يقول. لكن مَن يستطيع أن يرفض قصة لمقابلة أب بين ابنين يبدو أنهما ضالان! أو من لا يحب أن يسمع مثل عن زارع خرج ليزرع في أراضٍ مختلفة وينتظر بعد وقت نتيجة زرعه! هكذا كان يُعلّم المسيح، بالأمثال.
 

خمس خطابات في الانجيل بحسب البشير متي:


   السؤال هنا كيف قدّم لنا البشير متى هذه التعاليم، في أي إطار؟ هل في شكل قصص متناثرة ليس لها أي منظومة أو هيكل؟
في الواقع لا. يحاجي أستاذ العهد الجديد دونالد آرثر كارسون أن:

 "الإنجيل بحسب متى -والذي تأتي فيه الموعظة على الجبل-، يأخذ طابع مُقسَّم إلى خمس خطابات أو محادثات كُبرى، يأتون في قلب السفر.. لا يبدو دائمًا المسيح وكأنه يتكلم ويُعَلِّم بفمه في تلك المحادثات، -وإن كان يحدث في مرات كثيرة-، لكن الإطار الأكبر أن الإنجيل يأخذ طابعًا محدد المعالم يصعُب علينا أن ندّعي أن البشير لم يكن يقصده."[5]
 

لن نستعرض كل المحادثات الخمس بالطبع، -يمكنك الرجوع إليهم-، لكن ستجد لهم شكل ختام يبدو متكررًا (متى 7: 28-29؛ 11: 1؛ 13: 53؛ 19: 1-2؛ 26:1-5)

أكبر هذه المحادثات الخمس وأولهم هي الموعظة على الجبل -موضوع مقالاتنا-، لكن قبل الالتفات لها، نري أنه من المُلفت للنظر إن أردنا أن نضع عنونًا للخمس محادثات،[6] ستجد أنهم يأخذون شكلاً كالتالي[7]

المحادثة الأولى: إعلان عن مملكة جديدة، وَمنْ هُم الذين يعيشون بداخلها؟
المحادثة الثانية: طبيعة حياة، وشكل، ومُهمّة تلك المملكة ربما يؤول للموت
المحادثة الثالثة: أمثال عن هذه المملكة
المحادثة الرابعة: حياة تحت سلطان هذه المملكة
المحادثة الخامسة: الاستعداد الدائم لسيادة تلك المملكة

 

مملكة السماء في قلب رسالة البشير متي:

   يبدو أنه إن أردنا أن نضع تصورًا عن قلب الإنجيل فسيكون "مملكة السماء"، القالب الغالب هو ملكوت السماوات. في هذا الإطار يمكن أن نفهم الموعظة على الجبل وبالأخص "التطويبات" التي سنتحدث عنها. ربما يكون من الأنسب أن نرتدي عدسة تعطي مسحة من الأعلى نرى فيها تعاليم المسيح في المحادثة الأولى في صورة مقابلات عمَن هم المدعوون لتلك المملكة؟ كيف يبدون مقارنةً بمَن يعيشون في الممالك الأخرى وتحت ملوك أخرين في هذا العالم؟ مَن هم المباركون والسعداء حقًا في تلك المملكة؟ هل شكل حياتهم يختلف عن المباركين والسعداء في ممالك آخري؟

   لكن قبل الذهاب لأولى محادثات السيد المسيح عن هذه المملكة، نريد أن نلتفت لأمر آخر هام لهذه المملكة، هذه المملكة لها ملك يحكمها ويديرها، الخمس محادثات لا يأتون في إطار تعاليم وتفاصيل مجردة، لكن في شكل يُسمى باللغة اللاتينية
inclusio""[8] أي غلاف أو شكل ما بين قوسين. المقصود من شكل هذا الإطار الأدبي هو تسليط الضوء على قلب الرسالة التي فيما بين الأقواس، لكن أيضًا من المهم جدًا النظر على الشطرين أو الأقواس التي تحوي وتضم محتوى الرسالة. إذًا ما هو الغلاف الذي تأتي فيه تلك المحادثات الخمس وبالأخص محادثتنا الأولى؟

   على سبيل المثال -وفي إطار بحثنا-، يطرح دونالد كارسون أن هذا الشكل الأدبي يظهر بوضوح في التطويبات، حيث إن التطويبة الأولى تبدأ بكلمة "ملكوت السماوات"، والثامنة تنهي الغلاف بكلمة "ملكوت السماوات". في هذا الإطار يمكن أن نفهم التطويبات كلها، وكأن المكافآت في التطويبات التي في المنتصف لا يُمكن أن تُفهم أو تؤخذ بمفردها إلا أنها ضمن إطار هذه المملكة التي يدعوا إليها السيد المسيح.

   أود أن أطرح أن هذا الإطار ليس فقط على هذا المستوى، ولكن ربما يكون على مستوى كل الإنجيل. لاحظ من بداية الإنجيل في الأصحاح الأول للأصحاح الرابع يقدم البشير متى المسيح على أنه ملك

 "ٱبْنِ دَاوُدَ... ٱلْمَلِكَ" (متى 1: 1، 6) " َ

هذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:17) [9]

ثم يأتي في آخر أصحاحين ويقدمه كالتالي:

 "حَقًّا كَانَ هَذَا ٱبْنَ ٱلله! ...وَسَجَدَتَا لَهُ ...وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ" (متى 27: 54؛ 28: 9، 17) [10]
 

المسيح الملك في قلب رسالة البشير متي:
 

   يبدو أن قلب الرسالة، وقلب الموعظة على الجبل، بل وقلب التطويبات مُغلّف بميلاد الملك من ناحية، وموته وقيامته من ناحية آخري. وكأن متى يود أن يقول إنه لا يمكن رؤية وفَهم ودخول هذه المملكة بدون فهم أولًا أن هذا هو طبيعة وطريقة حياة ملكها "السيد المسيح". الآن، ربما يبدو الطرح بأن تلك الموعظة أو التطويبات هي وصايا أو شرائع بدلًا من ناموس العهد القديم مُختزلًا بعض الشيء. أعتقد أن هناك شيءٌ أعمق يريد أن يشير إليه البشير متى.

 

الخطاب الأول: مَن المُرحَّب به في ملكوت السماوات:


   يمكننا الآن أن نتقدم إلى أولى محادثات هذا الملك الذي يفتح فاه ويُعلّم عن طبيعة الأشخاص داخل هذه المملكة، مَنْ المُرحّب بهم من قبل هذا الملك، مَنْ الذي يصادق على وجوده، بل ويمدحه وكأن هذا الشخص هو بالضبط نوع الانسان الذي يريده.
سنلتفت في المقال التالي إلى التطويبة الأولى، بوابة الدخول للمملكة التي ملكها السيد المسيح، وسنحاول أن نرى عُمق تصريحها، ربما تكون ليست فقط مفتاح الدخول لتلك المملكة، لكن أيضًا العدسة التي بها نرى الخمس محادثات الكبار في هذا الإنجيل.

 

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 


[1] The Sermon on the Mount “The Character of a Disciple” By Daniel Doriani, P&R publishing house.

[2] The Beatitudes as Gospel: “The Manner of Jesus’ Teaching” By Dallas Willard, A podcast notes on Converstaio.org

[3] المرجع السابق.

[4] The Expositir Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By The Zondervan Corporation. The Gospel According To Matthew By D. A. Carson.

[5] المرجع السابق.

[6] المرجع السابق.

[7]  أود الإشارة أن ليس كل العناوين لتلك المحادثات الخمس تم اقتباسها مباشرةً من أستاذ العهد الجديد كارسون في كتابه كما هي مذكورة في الأعلى، بعضها اقتبسته كما هو مثل عنوان المحادثة الثالثة والرابعة، والبعض الآخر أضفت له بعض الشرح أو إعادة الصياغة.

[8] المرجع السابق.

[9] تلك الآية المذكورة في الأصحاح الثالث من الإنجيل لهي من جزئين؛ الأول من سفر إشعياء 42: 1 والآخر من سفر المزامير وبالتحديد المزمور الثاني والعدد السابع. يحاجي كارسون أن لقب الابن المستخدم هنا هو نفسه الذي استُخدم عند مسح داود أو أي من نسله فيما بعد ملك على إسرائيل (انظر 2 صموئيل 7: 13-14؛ مزمور 89: 26-29).

يحاجي أستاذ العهد القديم ديريك كيدنر في كتابه تعليقًا على المزمور الثاني والنص المذكور في صموئيل الثاني 7: 13-14 بأن تلك الكلمات "إعلان أو مرسوم...يُقرأ بواسطة الملك أثناء مراسم التتويج... لتسجيل اللحظة التي يعتلي فيها الوريث الجديد لمقاليد الحكم."

لمزيد من التفاصيل يُمكنك الرجوع إلى
Psalms 1-72; An Introduction And Commentary On Books 1&2 of the Psalms By The Rev. Derek Kidner. Published by Inter-Varsity Press

لكن يضيف كارسون أن الجزء الخاص بسفر إشعياء يضيف أيضًا بُعد الخادم المتألم على البعد الملوكي في استخدام البشير متى، ربما يعطينا هذا فكرة عن اختلاف تلك المملكة عن سائر كل الممالك التي فيها يكون الملك هو نفسه الخادم المتألم. من الممكن عندئذ نفهم طبيعة التناقض الظاهري في نوع الانسان الذي يصفه المسيح في الموعظة على الجبل بشكل عام والتطويبات بشكل خاص.
 

[10]  يحاجي كارسون في تعليقه على لقب (ابن الله) بأنه يعبر عن "طبيعة إلهية في ذلك الإطار الوثني" للجنود الرومان في إسرائيل. إذا عدنا على سبيل المثال لإنجيل مرقس والذي نجد في هذا اللقب مكررًا سبع مرات، يحاجي كل من أستاذ العهد الجديد كريج آلان إيفانز ويليان ل. لَين أن هذا اللقب "كان يُستخدم للتعبير عن الصفات الآلهية في أباطرة روما من يوليوس قيصر إلى فيسباسيان... استخدام اللقب على يسوع المسيح يأتي في مقابلة أو كنوع من المناظرة أمام أباطرة روما كملك ومخلّص".

لمزيد من التفاصيل يُمكنك الرجوع إلى
 (2007) Smyth & Helwys Bible Commentary on (Mark) By R. Alan Culpepper

كما يُمكنك الرجوع أيضًا إلى
The Gospel According To Mark (The New International Commentary on The New Testament) By William L.Lane; Published by B. Eerdmans Publishing Company (1974)