مقدمة:

  يروي لنا الوحي المقدس أن السيد المسيح بعد المشهد العظيم له في المعمودية، وتتويجه بصوتٍ من السماء عن كونه ملك حيث جاء صوت الآب مستخدمًا التعبير الذي كان يُستخدم لتنصيب الملوك قائلا:

"هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت 3: 17)

   اقتاده الروح القدس إلى البرية، وظل هناك أربعين يومًا صائمًا. حيث يقول أحد اللاهوتيون أنه ذهب لنفس المكان الذي فشل فيه شعب إسرائيل في القديم، وتمرد على الله في البرية، واستمروا في الدوران والتيهان في البرية لمدة 40 عام.[1] والبعض قارن بين فشل أدم الأول في التجربة وبين المسيح "أدم الأخير". عبّر القديس ايريناؤوس -وهو أحد الآباء- عن هذه المفارقة شارحًا إنه في التجربة تم استرداد سقوطنا في آدم الأول -الذي تمرد في جنة عدن-، بطاعة المسيح.

 "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ!" [2]

   يخبرنا الكتاب المقدس أن المُجرِّب -أي: الشيطان-، تقدّم مُجربًا السيد المسيح لا ليُشكك في ألوهيته، فهو كان يعلم يقينًا هويته، كما أن اعلان الوحي لنا في حادثة المعمودية يؤكد لنا طبيعة السيد المسيح كالإله الكامل. نؤمن ايضًا أن السيد المسيح هو الإنسان الكامل الذي جُرِّب في كل شيء مثلنا. في رأيي تعرَّض السيد المسيح للتجربة كالإنسان الكامل المُقاد بالروح القدس -روح الله-، وبعدما سمع صوت من السماء في تتويجه في المعمودية، ها هو يسمع صوت من الجحيم في البرية.

 

التجارب الثلاث:[3]

   1- التجربة الأولي: في البرية

" فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا». فَأَجَابَ وَقَالَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ»."

   البعض فَسَّر التجربة أن الشيطان كان يحاول أن يجعل السيد المسيح يستخدم لاهوته في اشباع ذاته، وهذا عكس معني الإخلاء.[4] كان يحاول الشيطان أن يُشير إلى أن الهدف الأساسي من الحياة هو الشِبَع، فلِما قد يضعف الإنسان أو يشعر بلحظات من الجوع! وعليه فيُمكنه أن يفعل أي شيء في سبيل ألا يكون جائعًا. وللجوع هنا دلالة أعمق من الجوع للطعام، فالجوع يُمكن أن يكون لأي احتياج، مادي كان أو شعوري، كالحب، والقبول، والغني، والأمان. وكل تلك الاحتياجات مشروعة. قد نشعر أحيانًا أنه من حقنا أن تكون تلك الاحتياجات مُسددة فما الخطأ في هذا! وفي الواقع نعم، من حقنا أن تكون احتياجاتنا مُسددة، ولكن المركزية في الحياة وغايتها لا يكمن في أن تكون رغباتنا أو احتياجاتنا مُسددة، فإن الحياة التي تستحق أن تٌعاش هي الحياة المُشبعة روحيًا، لا فقط ماديًا وشعوريًا، فالإنسان ليس مجرد جسد حيواني يسعي لتسديد رغباته، بل في تكوينه هو أعمق من هذا. وقد جاءت إشارة السيد المسيح أن الإنسان كائن روحي يحيا بكلمة الله.[5]

 

  2- التجربة الثانية: على جناح الهيكل

"ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَتُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»."

   لا نعرف إن كان أراه رؤية، أم حدث انتقال فعلى أخذًا إياه فوق جناح الهيكل، ولكن أيا كان ما حدث فقد كان الشيطان يختبر ثقة المسيح في الآب. وهو ما يحدث معنا من وقت لأخر، قد نتحير متسائلين أين الله فيما نمر به، ألن يُعيننا في المخاطر، وما المشكلة إن ألقيت بنفسي وتسببت بأذيتي ألا ينبغي أن يصلح أخطائي، وهنا يأتي المسيح ليؤكد على معيّة الآب ومسئولية الإنسان في ذات الوقت، وأن الله معنا لكن لا يجب أن نجرب الرب إلهنا.

   هناك من يفسر تلك التجربة على أن الشيطان أراد أن يقول للسيد المسيح أن الطريق ليؤمن بك الجميع هو الإبهار وليس الصليب، فقُم بالمعجزة الآن ألقي بنفسك ولتأتي الملائكة لتحملك في مشهد مهيب فيؤمن بك المتعبدون المتواجدون في الهيكل. وهنا يأتي السيد المسيح ليقول إن الصليب هو الحل وليس الابهار، هو لا يريد مجرد تابعين منبهرين بمعجزاته، مُجربين الرب إلههم إن كان قادر على ابهارهم، ولكن يريد تابعين حقيقيين، وهو يعلم أن الطريق لذلك هو الصليب مع كونه الطريق الأطول والأصعب إلا أنه ذا التأثير الأكبر.[6]

 

  3- التجربة الثالثة: على جبل عالٍ

"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ»."

   تعتبر هذه التجربة من النوع الذي أسميناه الإغواء الصارخ المباشر، فقد جاءت دعوة مباشرة من الشيطان للسيد المسيح بكسر أول وصية قُدمت للشعب في القديم (للرب إلهك تسجد)، مُغريًا إياه أن الشبع في الامتلاك، فالمجد الحقيقي في أن يكون له من ممالك العالم، ومرة آخري يشير السيد المسيح إلى أن العبادة لله لا لمخلوق سواه، وأن الشبع الحقيقي لا يكمن في الامتلاك بل في عبادة الله، في أن يكون الله متخذًا أولوية الفكر والمال وأن يكون هو غاية الحياة ومعناها، وأن مجد السيد المسيح في أن يتمم ما جاء لعمله وهو الصليب، وليس في امتلاك العالم المادي، فهو الإله المتجسد مالك الكل الذي لا يحتاج لممالك العالم.

 

خاتمة:

  اجتاز السيد المسيح التجربة، مُعطيًا لنا أهم الدروس في الحياة أن العبادة لله وحده، وأنه هو المعني والشبع في كلمته، وأن الطريق ليس بالممتلكات وتسديد الحاجات والابهار للتسلط، إنما في الصليب، هذا ما جاء السيد المسيح ليتممه. اجتاز السيد المسيح في أصعب التجارب المباشرة من الشيطان والتي تختبر أعمق الاحتياجات الإنسانية، ونؤمن أن باتحادنا بالمسيح، وبقوة الروح القدس المتحد به والساكن فينا يمكننا أن نجتاز في التجربة، وتتشكل شخصياتنا، حتى تتزكي.

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد


[1] N. T. Wright, Lent as a Time of Testing | Matthew 4:1-4

https://www.youtube.com/watch?v=ABsyr4U5dAA

 

[2] بلانتينجا، مقدمة في علم اللاهوت النظامي، محاضرات: كلية اللاهوت الانجيلية بالقاهرة، الفصل العاشر: الكفارة، 15- 16.

[3]  ذُكرت في الإنجيل بحسب البشير متي 4: 13- 17

[4]  نؤمن أن كلمة الله -السيد المسيح-، أخلى نفسه بالتجسد لنا بشرًا سويًا، والإخلاء هو ليس تنازل عن المجد، ولكن هو قرار ألا يستخدم لاهوته في اشباع حاجاته كإنسان.

[5] د. ماهر صموئيل، أكاذيب الشيطان الثلاثة.

https://www.youtube.com/watch?v=cQezmqGIbZE

 

[6] Timothy keller, The Baptism and Temptation of Jesus

https://podcast.gospelinlife.com/e/the-baptism-and-temptation-of-jesus-1608802390/