مقدمة:  

   في الموعظة على الجبل يتطرق السيد المسيح لوصايا يعرفها الشعب اليهودي جيدًا، لكنه يتناولها بشكل أعمق، ومختلف عن السياق المعتاد للمجتمع اليهودي. ففيما يخص وصية عدم الزنى يقول:

 "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ." (متي 5: ٢٧-٣٠)

البر الذاتي الخارجي:

   هنا يكشف السيد المسيح عن البر الذاتي الخارجي المتمثل في الكتبة والفريسيون[1] من خلال إظهار أن البر الوحيد المقبول لدى الله هو نقاوة القلب. بدون هذا النقاء، لا يحدث تغيير في الحياة العملية الظاهرة. التقييم الإلهي يحدث للقلب، فهو يحكم على مصدر الخطية وأصلها، وليس ظهورها أو عدم ظهورها أمام الناس.

" لِأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا هُوَ" (أمثال ٢٣: ٧)

 "لِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ ٱلْإِنْسَانُ. لِأَنَّ ٱلْإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ." (١ صم ١٦: ٧)

  توضيح السيد المسيح هنا لبر القلب، يتضح من خلال ربطه بالزنا والخطية الجنسية بشكل عام. ففي هذه الآيات نجد إنه يركّز على فعل الزنا، والشهوة الكامنة وراءه، وكيفية النجاة منه.

   لطالما كانت الآيات في متى (٥: ٢٧-٣٠) تشكل إشكالية، فعادة ما يتم توجيه مثل هذا النقاش نحو شرح كلمات السيد المسيح. فهل يقترح حقًا أن الانجذاب بين الرجال والنساء يجب أن يكون غير جنسيًا فقط؟ والأخطر من ذلك، هل مجرد الانجذاب الجنسي نفسه يُنظر إليه على أنه خطية وليس فعل الزنا فقط؟ ربما يمكن من خلال إلقاء نظرة فاحصة على السياق الأدبي والاجتماعي لهذه الإشكالية أن يتضح لنا الأمر.

  ولكن قبل ذلك علينا أن نفهم أولا طبيعة العلاقة بين السيد المسيح والناموس. يعتقد "هانس ديتر بيتز" أن الآيات المذكورة في إنجيل متى (٥: ١٧-٢٠) تحدد طريقة السيد المسيح في تفسير الناموس، وكلها مصممة لإظهار أن تعاليمه لا تؤدي إلى تدمير الناموس والأنبياء.[2] أيضًا يُعلِّق قائلاً:

"إن السيد المسيح لم يتخلَّ عن التفكير الواضح المنطقي لصالح مناشدات عاطفية. بدلاً من ذلك، يجب أن نفترض أنه يعرف ما كان يفعله وأنه عن قصد، أوضح مبادئه في الموعظة على الجبل."[3]

 

 فإن تفسير الناموس -وليس إلغائه-، هو النقطة المحورية. يجادل "رايت" بأن جميع الوصايا في متى (٥: ٢١-٤٨) تمثل كما قال:

 "نمطًا لتعميق الناموس يختلف تمامًا عن نمط الفريسيين. فبدلاً من تكثيف الإجراءات الخارجية الشكليَّة الضرورية للحفاظ على الناموس، واجه اليهود تحديًا لاكتشاف معنى الوصايا من حيث الولاء المتكامل للسلوك والقلب معًا."[4]

 لا يدور الجدل هنا حول ما إذا كان البر ضروريًا أم لا، فهذا اتفق عليه السيد المسيح ومعارضيه من الفريسيين، كلاهما مناصري القداسة، ولكنهما يتخذان اتجاهات مختلفة جذريًا حول كيفية عيشها.[5]

   من خلال الصورة الأدبية الأوسع للموعظة على الجبل يتضح لنا أساس سلطة السيد المسيح لتقديم هذا التعميق، فتؤسس الإصحاحات التي سبقت الموعظة وجهة النظر القائلة بأن السيد المسيح لديه السلطة الفريدة لتقديم هذا التفسير، فالمسيح يُعلم بسلطان لأنه يعلن كلمة الله لشعبه. يجب أن يُنظر إلى تلك الوصايا في هذا السياق. تعميق الناموس الذي أشار إليه المسيح يشير إلى أن مجرد الامتثال للناموس ليس كافيًا لأن ذلك لا يعكس في الواقع نوايا المُشِّرع (الله). فالمسيح يقدم للناس علاقة جديدة مع إله العهد ومع بعضهم البعض،[6] مبنية كليًا على علاقتهم به كمُمَثِّل لإسرائيل وكإله في وسطهم. هذه هي "الخليقة الجديدة"،[7] فهي تتضمن إعادة لتأسيس العلاقة بين الذكور والإناث التي قصدها الله.

 

القرينة الأدبية:

   لفهم هذه الآيات أكثر علينا أن نلتفت إلى الأدب اليهودي في ذلك الوقت فهناك مجموعة متنوعة من النصوص المتناثرة من التوراة والأدب التوراتي الإضافي في فترة الهيكل الثاني، بالإضافة إلى المشنا والتلمود. ليتضح السياق الأدبي اليهودي، فهناك العديد من النصوص التي تحذر من العين، ولكنها لا تتعلق صراحة بالشهوة. يشوع بن سيراخ (٢٣: ٤، ٥) يسأل:

 "لا تعطيني عيونًا متغطرسة وازح عني الرغبة الشريرة"

 وهي صلاة لا تتعلق صراحة بالشهوة الجنسية لكن بالاهتمامات الأخرى المتعلقة بالعيون والقلب، والتي تنعكس بقوة في كتابات الحكمة ففي أيوب (٣١: ١) يقول:

 " عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ، فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ؟"

 ويقول سليمان في سفر الجامعة (١١: ٩)

 " اِفْرَحْ أَيُّهَا ٱلشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ، وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، وَٱسْلُكْ فِي طُرُقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ"

 لكن يختمها بقوله:

 "وَٱعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ ٱلْأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ ٱللهُ إِلَى ٱلدَّيْنُونَةِ".

أما في "وصايا الاثني عشر بطاركة" [8] نجد يهوذا يأسف على علاقته مع تمار (امرأة ابنه المتوفي) لكنه مستعدًا تمامًا لإلقاء اللوم على النبيذ والمرأة، حيث يقول:

 "منذ أن كنت في حالة سكر مع الخمر، لم أتعرف عليها وكان جمالها يغريني بسبب طريقتها في زخرفة نفسها." (عهد يهوذا ١٢: ٣)

 ولا عجب أنه يقول لاحقًا:

 "إني أوصيك ألا تحب المال ولا تنظر إلى جمال المرأة" (عهد يهوذا ١٧: ١)

واستنكر رأوبين اليوم الذي مارس فيه الجنس مع بلهة (جارية والده) بينما كانت في حالة سكر ونائمة. لكننا نواجه هنا اعتقادًا صريحًا بأن النساء مغويات، ويتعين على الرجال حماية أنفسهم ضدهن. نصيحته هي حقًا الابتعاد عن النساء قدر الإمكان. فيقول: لا تهتموا بمظهر المرأة، ولا تعيشوا مع امرأة متزوجة، ولا تدخلوا في شؤون مع امرأة. لأنني لو لم أر بلهة تستحم، لما وقعت في هذا العمل الفوضوي العظيم. (عهد رأوبين ٣: ١٠-١٢)

فالمشكلة هنا ليست مع الرجال - إنها مع النساء أنفسهن، فيقول:

 "لأن النساء شريرات، يا أولادي، وبسبب افتقارهن إلى السلطة أو القوة على الرجل، فإنهم يخططون غدرًا كيف يمكن أن تغريه بأنفسهن من خلال مظهرهن" (عهد رأوبين ٥: ١٠)

فبالنسبة له الحل الوحيد هو:

"الهروب من الاختلاط الجنسي، وتأمر نسائك وبناتك بعدم تزين رؤوسهن ومظهرهن لخداع عقل الرجال" (٥: ٥). و "حماية حواسك من النساء" (٦: ١).

في ضوء هذا السياق الأدبي، يمكننا الآن إلقاء نظرة فاحصة على متى (٥ :٢٨). هذه الوصية الخاصة المقتبسة من خروج (٢٠ :١٤) "لَا تَزْنِ"، لكن السيد المسيح يقترح تعريفًا أوسع بكثير، فالزنا ليس مجرد مسألة سلوك، فالأمر يتعلق باتجاه قلب الشخص.[9] فهو قرار القلب الذي يُرتكب فيه الزنا قبل الفعل الجسدي، فالانتباه إلى "العين" و "القلب" يضع الأمر على أسس مختلفة تمامًا. في حين أن السيد المسيح يستخدم بالتأكيد المواد التقليدية في الآيات ٢٩ - ٣٠ للإشارة إلى أن العين هي البوابة والقلب هو مقر الأفعال الشريرة،[10] فإن تصريحه في الآية ٢٩ أكثر راديكالية؛ بقوله إن الأفعال الآثمة تنبع من القلوب الآثمة والعيون الشهوانية، فالسيد المسيح هنا يهتم بما يدور في القلب وليس ما يفعله المرء.

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 


[1] كان الكتبة هم كتّاب الناموس، وكان الفريسيون طائفة دينية متشددة من اليهود، كانوا يعتقدون أنهم صالحون وكانوا محتقرون للآخرين، ومن هؤلاء الكثيرين كانوا معلمين عامين للآخرين.

[2] Hans Dieter Betz, The Sermon on the Mount: A Commentary on the Sermon on the Mount including the Sermon on the Plain (Matthew 5:3 - 7:27 and Luke 6:20-49), 173.

[3] Betz, 172.

[4] N. T. Wright, Jesus and the Victory of God (London: SPCK, 1993), 290.

[5] Marcus Borg, Conflict, Holiness and Politics in the Teaching of Jesus (New York/Toronto: Edwin Mellen, 1984).

[6] R. A. Guelich, The Sermon on the Mount: A Foundation Jor Understanding (Dallas: Word, 1982), 29.

[7] W. D. Davies and Dale C. Allison, A Critical and Exegetical Commentary on the Gospel According to Saint Matthew, Vol. 1 (Edinburgh: T & T Clark,1988), 159.

[8] عمل ادبي ينسب لأبناء يعقوب الاثني عشر.

[9] Betz, 231.

[10] Davies and Allison, 522.