مقدمة:

   نمر كبشر في كثير من المواقف المؤلمة التي لا نعرف كيف نتعامل معها، ولا نعرف سببها! هل الله قصد تلك الأمور لتشكيلنا أم أن ابليس هو المسئول عنها، أم أنها ظروف الحياة التي يمر بها كل إنسان من بعد السقوط، لذا في جزئي المقال سنناقش ما نسميه بالتجربة، والفرق بينها وبين الامتحان، وكيف نتعامل مع تلك المواقف، وكيف نري في السيد المسيح الكلمة المتجسد الحل لما نمر به في مواقف حياتنا المختلفة. 

 

  في بعض النصوص تأتي كلمة δοκιμάζω بمعنى "امتحان"، مثلما نقرأ في:

"لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ،"

(1 بط 1: 7)

 أما كلمة πειρασμῷ تأتي بمعني التجربة.

"لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ." (1كو 10: 13)

وفي البعض الأخر تتقاطع الكلمات في الاستخدام بنفس المعني.

ويُفرق البعض بين التجربة والامتحان، لا من حيث تصنيف الموقف، ولكن في دافع الموجِّه للموقف. الله يمتحن ايماننا، وإبليس يُجربنا لنسقط في الشرور.[1]

 

ماهية التجربة:

   التجربة هي المواقف التي يتم استخدامها للإغواء لفعل الشر والتمرد بشكل صارخ، أو ناعم. بشكلٍ صارخ، حين تُسِّول للإنسان نفسه فعل المعصية، ويخطئ فاعلًا الإثم والفجور، وبشكلٍ ناعم حين يتمحور حول ذاته مُفتعلًا الأعذار على أفعاله المؤذية، متصدرًا لدور الضحية البريء.

ويأتي السؤال هنا: ماذا عن الآلام والضيقات التي نتعرض لها! ألا تعتبر تجارب؟

في اعتقادي الشخصي، تعتبر الضيقات واقع حياتنا البشرية كنتيجة من نتائج السقوط،[2] حيث يُخبرنا الكتاب المقدس أن:

"كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ" (رو 8: 22)

لكن قد يستخدم الشيطان تلك الضيقات ليُفقدنا سلامنا، ويجعلنا نشُك في صلاح الله، ويغوينا للتمرد على الله وعدم الثقة في كونه إله متحكم، ويستحق العبادة. هنا تتحول الضيقات لتجارب. وهذا ما حدث مع أيوب، فالكثير على مر العصور تعرضوا لخبرات من الفقد والحرمان والمرض، ولكن تم تسليط الضوء على تلك الأمور في قصة أيوب على أنها تجربة، لأن الشيطان قصد أن يُشكِّك أيوب في ايمانه بصلاح وقدرة الله.[3]

 

من المسؤول عن التجربة؟

   يصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن يمكن أن نقول إننا لا نؤمن بالثنائية[4] حيث توجد قوتان متساويتان (قوي الخير) و(قوي الشر)، والقوتان تتصارعان والإنسان فريسة فيما بينهما، لا حول له ولا قوة، ولن نعرف مَن المُنتصر إلا في النهاية. في ايماننا المسيحي نؤمن أن قوى الشر لا تُعادل قوة الله اطلاقًا، فالله أعظم من أي كيانات مخلوقة، كما أنه هو المنتصر بالفِعل فالقضية محسومة، وكل ما تحاول قوي الشر فعله الآن هو مجرد محاولات يائسة لتهدم المشروع الإلهي، وتجذب الإنسان معها لمصير الهلاك الأبدي المُعدّ لها، فبحسب ما أفهمه من سرد الكتاب المقدس، أن المُجرِّب هو الشيطان، وليس الله، فمكتوب:

"لا يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ" (يع 1: 13)

هذا لا يعني أن الشيطان يتدخل لإغوائنا، دون حدود فنقع فريسة في يده متروكين من الله، فهو لا يقدر أن يفعل أي شيء إلا بإذن وسماح من الله، فنحن نؤمن بسيادة الله الكاملة على كل شيء.  

 

كيف أتعامل مع التجربة؟

  • بادئ ذي بدء علمنا السيد المسيح أن نصلي لكيلا ندخل في تجربة، وأن نقول

"لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ" (مت 6: 13)

لأن الله يعلم يقينًا أننا أضعف من أن نواجه الإغواء، علمنا أن نصلي كي يحمينا الله من تجارب الشيطان، ولا يسمح له بذلك.

ولكن ماذا إن وقعنا في تجربة؟

  • يُعلمنا الرسول يعقوب هذه الكلمات:

"اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ" (يع 1: 2)

قد نتعجب حين نقرأ تلك الكلمات، فإن كانت التجربة تعني الإغواء، والإغواء شر، فلما قد نفرح حين نتعرض لها؟!

أعتقد أن هذا ما يُكمل الرسول يعقوب مُعلمًا إيانا عنه، حيث يقول:

"عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا." (يع 1: 3)

وللتقريب بمثال: إن كنت تتبع حمية غذائية، ولم يكن حولك من المُغريات التي تتحدي إرادتك، ستُكمل في حميتك، ولكن قد تسقط مع أول وجبة سريعة تُعرض أمامك، لكن إن كان حولك الكثير من الأطعمة غير الصحية والتي تعتبرها شهية، ثم قررت أن تضبط نفسك ولا تأكل، ثم اجتمع الأصدقاء ليأكلوها وأنت مستمر في صبرك وضبطك لنفسك، هذا التدريب يُحفز إرادتك، بل ويجعل منك إنسان أكثر التزامًا وانضباطًا، فما يحدث لك وقتها هو نوع من التدريب الذي يُشكل في نوع شخصيتك وليس فقط في حجم جسدك.

مع كون وقع التجربة أصعب من المثال المطروح، فإن التعرض للتجربة والتدريب على الصمود أمامها وعدم الانصياع وراء الشهوات والرغبات، يقوي الصبر والانضباط، فلنفرح لأن هذا ما يجعلنا أشخاص أفضل، أقوي، وأكثر نضوجًا.

ولكن هل الأمر متروك للإنسان وتدريب إرادته فقط! أين الله في كل هذا!

  • يخبرنا الكتاب المقدس، أننا نحتاج أن نطلب حكمة مِن الله تُعيننا على التعامل في وقت التجارب، فنحن أضعف من أن نعرف دائمًا ما يُمكننا فعله.

"ِإنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ " (يع 1: 5)

  • يجب أن نعلم يقينًا أن الله لن يتركنا لتجربة فوق طاقتنا البشرية، هذا لا يعني أنه لن يتركنا نختار أن نخطئ بسبب الإغواء، فلكل منا حرية إرادته التي تتشكل وتتقوي بالتدريب، بالخطأ والمحاولة مرة أخري، لكنه لن يترك الشيطان يُرهقنا فوق احتمالنا. احيانًا قد نظن أن هذه هي طاقتنا وأننا لا يُمكننا أن نحتمل، ولكن ثقتنا أن إلهنا إله حكيم، كلي العلم، فهو يعرفنا أكثر مما نعرف نحن أنفسنا، وفي حكمته وعلمه، قد يسمح لنا بأن نجتاز في بعض الأمور، وهو ليس عنا ببعيد، بل يُعين ضعفنا، ويُقاوم عنا.

"لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلكِنَّ اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ" (1كو 10: 13)

 

خاتمة:

   لا تنتهي القصة هنا، فنحن نؤمن بإله لم يعطينا فقط بعض الإرشادات في قائمة من الممنوعات والمحظورات، ويعلم أننا ضعفاء فيرسل لنا عونا في التجربة، لكنه إله أقرب من ذلك بكثير، ففي المسيحية نؤمن بإله مُتجسد، أرسل كلمته لنا بشرًا سويًا، وعاش بيننا كإنسان كامل، مُجرَّب في كل شيء مثلنا، ماعدا الخطية. المسيح هو كلمة الله، الحامل للجوهر الإلهي. جُرِّب السيد المسيح من الشيطان، وسُجلت هذه الخبرة لنا في كلمة الله -الوحي المكتوب-، وفيه لنا مثال نقتدي به.

بل ولنا في المسيح أكثر من مُجرد مثال لإنسان اجتاز التجربة دون أن يُخطئ، أو يقوي عليه الشيطان، فكم من أمثلة حولنا من البشر نتخذها قدوة لنا، ولكن الاقتداء بهم لا يعفينا من الوقوع. ما لنا في المسيح هو اتحاد بذاك الذي مات موتنا لنحيا حياته، فباتحاده بنا صارت لنا طبيعته المٌقدسَّة التي تميل لفعل الخير، واستبدلت نفسنا الأمارة بالسوء -الإنسان العتيق-، بطبيعة أخري، كما أن لنا روح الله القدوس الذي نؤمن أنه يسكن في أرواحنا كمؤمنين.

وهذا ما سنستفيض في شرحه في الجزء الثاني من المقال...

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 


[2] المقصود بالسقوط: حين عصي أدم ربه، وطُرد من الجنة، وفسد من بعده طبيعة جنسنا البشري، وتأثرت الخليقة كلها.

[3]  أيوب 1

[4] Howard Robinson, Dualism, Stanford Encyclopedia of Philosophy:

https://plato.stanford.edu/entries/dualism/