مقدمة:

   سنتطرق الآن في الجزء الثاني من حديثنا إلى أول عبارة نطق بها السيد المسيح عمَّن هم في داخل حدود تلك المملكة، صفاتهم، طبيعة شخصيتهم، هل هم مُنعم عليهم ومباركون أم هم تعساء لتواجُدهم داخل تلك المملكة؟

   في السطور التالية من حديثنا سنستعرض معًا "التطويبة الأولى" بحسب البشير متى في إنجيله، سأحاول أولًا تقديم طرح سريع لمعنى كلمة "طوبى"، ثم سأنتقل إلى لُبّ هذا التصريح مَنْ هم "المساكين بالروح"؟ سنذهب في رحلة مع معنى الكلمة نفسها ومن ثم إلى فلسفة ذلك المعنى في ثلاث أفكار رئيسية، وأخيرًا سأحاول أن أطرح سؤال -في ضوء معناها وفلسفتها-، وهو لماذا يوجد هذا التصريح أولًا قبل أي شيء في أول خطاب من الخطابات الخمسة في إنجيل متى عن مملكة السماء.


معنى كلمة "طوبى":

   كلمة " تطويبات" هي ترجمة للكلمة اللاتينية "Beatus"، الكلمة اليونانية نظير الكلمة اللاتينية هي "Makarios". كلا الكلمتين هما ترجمة حرفية لكلمات أخرى يمكن ترجمتهما ل "مُبارك".[1]

  لكن بالعودة إلى اللغة اليونانية سنجد أن الكلمة جاءت في العهد الجديد من جذور كلمتين؛ الجذر الأول للكلمة هو الذي نجده في (إنجيل متى 5 من عدد 3-11) وهو (Makarios). تلك اللفظة اليونانية جاءت في الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم (LXX) بمعنى "يا للمُنعم أو المُبارك الذي..." عادةً تلك الكلمة كانت تشير إلى الشخص الذي يُحبه الله ويُصدّق عليه من جهته (approved).[2]

   الكلمة الأخرى والتي لم ترد بشكل صريح في إنجيل متى، ولكن جذر الكلمة ورد في خمس مناسبات فقط بالإنجيل هي Eulogētós)). الكلمة جاءت أيضًا في الترجمة السبعينية للعهد القديم، وترجمت للكلمة العبرية "بركة". كانت الكلمة مرتبطة أساسًا بالله شخصيًا والمسيح في المرات التي وردت بها استخدام الكلمة في العهد الجديد، باستثناء مرة واحدة فقط في إنجيل متى، كما أنها استُخدمت بذات المعنى في العهد القديم بالترجمة السبعينية.[3]
 

هل تلك التفاصيل المُعقّدة مهمة؟ ربما نعم.

   يطرح أستاذ العهد الجديد دونالد آرثر كارسون:

 "أن محاولة تأويل إحدى الكلمتين إلى معنى سعادة والآخر مبارك لهي محاولة غير مجدية. المعنيان التي وُجدت عليهما تلك الكلمة يتم الإشارة بهما إلى شيء أعمق ألا وهو أن الله يُبارك ذلك الانسان، ويُصدّق عليه، أي يُصدِّق على أصل ذلك الشخص وطبيعته (Makarios والانسان يُبارك الله، يُصدّق على أنه هو الإله الحقيقي المُنعم Eulogētós)). من الصعب ألا نستنتج أن كلا المعنيين، العامل المشترك فيما بينهما هو التصديق من أحدهما للآخر (Approving)."[4]
 

يستطرد كارسون قائلًا:

 "أن المعنى المرتبط ب (يا لسعادة..) ربما لن يجدي هنا فيما يتعلق بالتطويبات. الكلمة اليونانية لا تصف حالة من الشعور الداخلي على كل مَنْ تُطبّق عليه تلك الكلمة، لكنها تصف معنى التفضيل والتصديق في حُكم شخص آخر."[5]
  

يُعلّق الفيلسوف دالاس ويلارد على نفس المعنى:

 "إن التطويبات لهي عن سؤال مَنْ حقًا في وضع أفضل ومن ليس؟ إن الطريقة المستخدمة في التطويبات هي طريقة المقابلة أو قلب المعادلة... قلب المعادلة ما بين مملكة الانسان ومملكة الله (السماء). ربما سيحاول أشخاص منّا أن يجعلوا التطويبات تبدو وأنها شيئًا جذابًا وظريفًا، -وهي بالفعل كذلك-، وسيحاول البعض أن يجعلوا من تلك الحالة التي عليها التطويبات وكأنها أمر مُبارك بشكل خاص، لكنها ليست كذلك إلا في ضوء تلك المملكة فقط، أي: مملكة السماء."[6]
 

ماهية "المساكين بالروح":

   الكلمة اليونانية المُترجمة لمساكين " Ptōchos" تعني حرفيًا أكثر من مجرد فقير، الكلمة تعني مُتسوّل أو مُعدَم. الكلمة تُبيّن لنا حالة من اتكال الشخص بشكل واضح على شخص آخر، لا يستطيع أن يواجه هذا الشخص هذه الحياة بمفرده.[7]

   لكن الأكثر أهمية هو دلالة هذه الكلمة ووقعها على أذن المستمع لتلك الكلمات، الكلمة اليونانية التي شرحناها تم استخدامها بشكل واسع في الترجمة السبعينية للعهد القديم
(LXX)، لكن أحد أهم نصوص العهد القديم في ارتباط هذه الكلمة مع الروح جاءت في (اشعياء 57: 15)

"...وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ، لِأُحْيِيَ رُوحَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ، وَلِأُحْيِيَ قَلْبَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ."

"... إِلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْمُنْسَحِقِ ٱلرُّوحِ.."[8] (إشعياء 66: 2)
 

   لماذا يبدأ أول تصريح لنا من ملك هذه المملكة في أول خطاب له -من ضمن خمس خطابات كبرى، سجّلهم لنا البشير متى-، بحديث عن الشخص المتواضع؟ من هو المتواضع؟، لماذا من المهم أن تكون طبيعة الشخص الذي سيسكن هذه المملكة هي أنه متواضع، يحتاج أن يعتمد على آخر؟ يبدو في نصوص العهد القديم أن هذا الآخر هو يهوه[9].


ثلاث أفكار عن التواضع:

  تناول الفلاسفة القدامى والمعاصرين التواضع على مر العصور كحالة يبدو طوال الوقت متنازع عليها.

هل هي فضيلة؟ أم لا؟ هل هي حالة تشير إلى فضيلة أكبر منها؟

عشرات بل وربما مئات الكتابات التي حاولت أن تصارع مع فكرة التواضع، لكن، بقدر ما استطيع، سأشير إلى ثلاث أفكار عن هذه الحالة التي يوافق ويصادق عليها السيد المسيح الملك في الأشخاص الذين يريدون دخول مملكته.


أولًا؛ التواضع ُيحدّثنا عن العدل:


   يحاجي أستاذ الفلسفة بجامعة كونِكتيكت "بَول بلومفيلد"، في أطروحته "التواضع ليس فضيلة" بأن التواضع ليس في حد ذاته أمرًا نسعى له أو فضيلة في حد ذاته، ربما نتفق أو نختلف فيما يحاول طرحه، لكنه في نهاية حديثه يشير إلى أمر يستحق الانتباه:

"يبدو في وجهة نظر "الفيلسوف كانط" أن الأشخاص المتكبرين هم الذين يفشلون في أن يعطوا الآخرين الاحترام الذي يستحقونه. غالبًا ما يبدو لنا أن الأشخاص المغرورين ينالون احترامًا لأنفسهم أكثر مما يستحقونه مقارنةً بكيف يعاملون الآخر. لكن "كانط" لا يرى أن المغرورين يمتلكون فرطًا في احترامهم لأنفسهم، بل يعرفون كيف يخدعون ذواتهم بذواتهم في أنهم يمتلكون ذلك الاحترام وهم في الواقع لا يمتلكونه."[10]

ويقتبس منه "بلومفيلد" التالي:

"الكبرياء... هو الميل أن تكون دائمًا على القمة، هو نوع من الطموح في أن يُفكر الآخر في نفسه أقل مقارنةً بنفسك. إن كبرياء الشخص يطلب من الآخر نوع من الاحترام لنفسه، لكنه ينكره ويرفضه على غيره."[11]
 

يُعلّق بلومفيلد على كانط قائلًا:

"الكبرياء هو نواة كثير من الظلم الموجود... فكّر في أي ضحية تُعاني من أي ظلم، أنه في الأصل غياب العدل في إعطاء الاحترام الكافي لهذه الضحية."[12]
 

من هنا فكِّر فيها هكذا: ماذا لو كان ذلك الشخص المسكين، المتواضع، يريد أن يعطي الاحترام الكافي لملك هذه المملكة باعتباره ملك. في كل مرة يُفكّر أو يتصرف فيها بكبرياء ضمنيًا يقول:

"أنت أيها الملك لا تعرف كيف يجب أن تُدار الأمور ههنا، أنت بشكل ما مُطالب أن تعطي لي الاحترام الكافي كملك لمعرفتي كيف يُمكن أن تدار الأمور هنا في المملكة."
 

   ربما في هذا الإطار من التواضع، المسكين بالروح لا يريد أن يعيش مخدوعًا في كونه ملك، ربما فقط في ذلك الإطار يستطيع أن يكون عادلًا بحق في أن يعطي المَلِك الحقيقي -أي: الله- الاحترام الكافي له كملك، ويقرر أن يعتمد عليه بالكامل في معرفته بشؤون المملكة وإدارتها، ربما من الظلم أن تسلب المَلِك حقه في ذلك. كما أن ذلك المسكين يكون عادلًا حين يعطي نفسه الاحترام الكافي كعضو في هذه المملكة.


"إن كان الله موجود، حينئذ من العدل أن نتضع أمام ذلك الإله"[13]
 

في ذلك الإطار، نستطيع أن نعقل ربما النص الخاص ب (إشعياء 57: 15؛ 66: 1-2)، حيث يظهر الله الملك قادرًا على أن يسكن في مملكته مع الانسان الذي هو في حالة من الاتضاع، وفي حالة من العدل بإعلانه أن الله هو الملك في مملكته، وليس العكس.

 

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 


[1] Jesus’s Sermon on The Mount and His Confrontation with The World”; By D. A. Carson. Ebook edition created 2018, Published by Baker Books.

[2] The Expositir Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By The Zondervan Corporation. The Gospel According To Matthew By D. A. Carson.

[3]  المرجع السابق.

[4]  المرجع السابق.

[5]  المرجع السابق.

[6] The Beatitudes as Gospel: “The Manner of Jesus’ Teaching” By Dallas Willard, A podcast notes on Converstaio.org.

[7] The Expositir Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By The Zondervan Corporation. The Gospel According To Matthew By D. A. Carson.

[8]  المرجع السابق.

[9]  يهوه: هو اسم من أسماء الله في العهد القديم ويعني إله العهد.

[10] Humility is not a virtue” By Paul Bloomfield; “The Routledge Handbook of Philosophy of Humility” Edited by Mark Alfano, Michael P. Lynch, and Alessandra Tanesini.

[11] المرجع السابق.

[12] المرجع السابق.

[13] المرجع السابق.