لم يستخدم السيد المسيح سلطانه على الطبيعة وعلى الحياة في الإثارة، وإلَّا كُنت تراه يقول: شاهدوني سوف أشفي مريض الآن! لكنَّه في بعض الحالات طلب مِمَنْ شفاهم ألا يُخبروا أحد (مر43:5). ولم يكن ايضًا لاكتساب أتباع جُدد لأنه كان يعلم أنَّ إتّباعه تحت تأثير دهشة المعجزات هو إتَّباع سطحي لن يصمُد أمام الصعاب.
لكنه استخدم سلطانه في تسديد الإحتياجات فهو العليم بمعاناة الإنسان وألمه، والتعاطف فقط لن يُفيد شيئًا، بل شفىَ، وأطعمَ، وأشبَعَ، وأقامَ. ليقول أنا هُنا لذلك لن تظل الأمور كما هي. ويُرنا لمحة من المملكة التي جاء ليؤسسَّها. كما يقول تيموثي كِيلر:

"لماذا نُفكَّر فى المعجزات على إنَّها تعليق للنظام الطبيعي، لكن السيد المسيح قَصَدَها لتكون استعادة للنظام الطبيعي. يُخبرنا الكتاب المقدس أنَّ الله لم يخلق العالم في الأصل به المرض، والجوع، والموت. لقد جاء السيد المسيح ليفتدي الخطأ ويشفي العالم المُنكسر. إنَّ معجزاته ليست أدلة فقط على أنه يملُك السلطان لكنها نموذج رائع لما يفعله بهذا السلطان. إن معجزات السيد المسيح ليست مجرد تحدٍ لأذهاننا، بل هي وعدٍ لقلوبنا بأن العالم الذي نريده جميعًا آتٍ."[1]

رأينا في الجزء السابق سلطان السيد المسيح على الطبيعة في معجزة تهدئة العاصفة والبحر. والآن سنرى سلطانه على الحياة وعلى الخلق بمعجزتين أُخريَيَن.


1- معجزة المولود أعمى (يو1:9-41):


   هذا الشخص لم يُذكر اسمه، لم يتبع السيد المسيح من قبل، لم يُحضره أحد للسيد المسيح، ولم يطلب هو الشفاء. لا يعرف ما معنى أن يرى فهو مولود أعمى عاش حياته يستعطي من المارَّة. منبوذًا دينيًا فرجلٌ في مثل حاله لابد أن يكون أخطأ هو أو أبواه حتى يُولد أعمى. لكن على الجانب الأخر تكشف لنا القصة عن ذكاء، وبصيرة لا يملُكها البصير. وقدرة على التحليل والتفكير المنطقي تُحيَّرنا. وأخلاق وشخصية لم يبنِها إلَّا الله وحده.
ذهبَ له السيد المسيح وطَلَى بالطين عينيهِ. وقال له اِذهب اِغتسل في البِرْكة. فمضى واغتسلَ وأتى بصيرًا. يا لطاعة هذا الشخص أن يترك نفسه بين يدي الخالق يصنع بها ما يشاء.
   كانت المعجزة فى يوم السبت وأن تصنع طين وأن تشفي فهذه أفعال تمنعها تقاليد اليهود، لكن يسوع قرر أن يكسر تقاليدهم، ويعمل الأعمال التي جاء لأجلِها. فهو رب السبت (مت8:12). قَبِلَ الأعمى هذه الأفعال بل وذهب ليغتسِل! مُدركًا أنَّ طاعة هذا الإنسان أهم من طاعة التقاليد البشرية.
   ما أن تم شفاء هذا الشخص وخُلِقت عينين جديدتين له وبدأت المشاكل تتوالى. كان يتمنى أن يفرح الجميع له لكن يوجد شيءٌ أسوء من العمى هو أن ترى فقط ما تريد أن تراهُ! كان المشهد الذي يحاول أن يُريه لنا الوحي هو كيف يتصرف شخصٌ أعمى مُقابل تصرَّف الأشخاص المُبصرينَ.


 -الجيرانِ: في البداية لم يعرفوه حتى أقرَّ أنا هو. ثم سألوه كيف انفتحت عيناك؟ أجاب بأن انسان يُقال له يسوع هو من شفاني.
 -الفريسيون: سألوه كيف أبصرتَ؟ فأخبرهم بما حدث. فقالوا: هذا الإنسان خاطئ لأنه لا يحفظ السبت.
قال لهم: أنا أرى أنه نبي. فشكَّك القادة في كونه مولود أعمى من البدء إذ لم يحدث في التاريخ كله شفاء مولود أعمى. فأحضرا أبوي الأعمي ليتأكدا. فأقرَّا بأنه ابنهم وهو وُلِدَ أعمى. أما عن كيف أبصرَ فلم يُجيبا إذ خافا من اليهود حتى لا يُحرما من المجمع!
فسأله الفريسيون ثانيةٌ قائلين: كيف فتَحَ عينيك فهو إنسان خاطئ؟ -أجابهم بشجاعة، وسخرية لم يتعلَّمها من أبويه- قُلتُ لكم ولم تسمعوا. ألعلَّكم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟ فشتموه قائلين إنه تلميذ ليسوع، وأما هم من تلاميذ موسى. قال لهم:

"نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ، فَلِهَذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ اللَّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً. .أَجَابُوا وقَالُوا لَهُ: فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً[2]."

- السيد المسيح:

"فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟ أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ! فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ!. وَسَجَدَ لَهُ."

   قال القديس يوحنا ذهبي الفم على فعل الفريسيين هذا: لقد أخرجه اليهود خارج الهيكل، ولكن رب الهيكل بحث عنه ووجده.
كان تعليق يسوع على إيمان هذا الشخص:

"لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ. فَسَمِعَ هَذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ.[3]"


   لاحظ أنَّ الأعمى في كل دفاعه الذي بدأ ب "إنسانٍ يُقال له يسوع"، ثم "هو نبي"، ثم "هو من الله". لم يكن حتى تلِكَ اللحظة رأى السيد المسيح، إذ اغتسل في البركة وأبصر ولم ير من هو هذا. والمُبصرين من الفريسيين والقادة كانوا يرون يسوع على أنه خاطئ وكاسر للسبت وليس من الله!!

هاتان المعجزتان تضعنا أمام منطقين:

+ منطق الأعمى حتى بدون أن يرى يسوع بعد:

1- شفي يسوع عيني (فهو نبي)
2- لا يسمع الله للخطاة (لذلك لا يمكن أن يكون يسوع خاطئًا). 
3- هذه معجزة لم يُسمع بها من قبل (لابد أن يكون من عند الله ليعمل المعجزة التي لم تحدث من قبل).
 

+ منطق المُبصرين الذين رأوا يسوع وسمعوا تعليمه باستمرار:

1- هذا الإنسان ليس من الله (لأنه كاسر للسبت)

2- إنسان خاطئ (لا نعلم من أين هو).
3- شتموا الأعمى حين جادلُهُم.
4- أهانوا الأعمى بقولهم إنه خاطئ بجملته وجاهل حتى يُعلَّمُهُم وأخرجاه من المجمع.

 

 حسنًا قال يوحنا عن يسوع:

"كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.[4]".


 وبوجوده كالنور، يُصبح السيد المسيح شخصية مُستقطبة تجذِب أولئك الذين يبحثون عن الله، وتصدُّ اولئك الذين يرغبون في الاحتفاظ بطريقتهم الخاصة في الحياة بينما ينكرون الحقيقة الواضحة التي تُحدُّق بهم في الوجه. أولئك الذين يبتعدون عن النور هم حقًا عميانً.

لم يأتِ السيد المسيح ليُدين، ولكن تجاهل النور هو الدينونة في حد ذاتِها

"وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً"[5].
[6].

علّق القديس أغسطينيس على هذا المقطع بقوله:

"إذا أخذنا في الاعتبار أهمية هذه المعجزة، فسنرى أنَّ البشرية هي الرجل الأعمى ..."


   يُمكن أن تتجاهل سلطان السيد المسيح في الخلق، وتفترض أنه يفعل المعجزات بإذن الله، وتتمسكَ بالتعاليم والتقاليد التى نشأت عليها. أو تخشى أن تقول كلمة حق مثلما فعل والدي المولود أعمى. إذا فعلت ذلك لن تخسر مكانتك الإجتماعية وستظل فى نظر المجتمع عاقل ومُتدين. لكنَّك ستكون فى نظر السيد المسيح من العميان روحيًا حتى ولو كنت مُبصرفهذه ليست معجزة عادية هي خلق من جديد. لم يفعلها نبي من قبل، هى تكوين أنسجة، وخلايا، وأعصاب يستحيل أن توجد من العدم دون الخالق وحده.
 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 

[1] Timothy Keller, The Reason for God (New York: Dutton, 2008), 95-6.
tollelege.net/2009/05/02/the-purpose-of-biblical-miracles-by-timothy-keller/

[2] (يو31:9-34)

[3] (يو39:9-41)

[4] (يو9:1-10)

[5] يو19:3

[6] Dr. Ralph F. Wilson, Healing Blindness (John 9:1-41), https://www.jesuswalk.com/john/18_blindness.htm#_ftnref118