
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- طوبي للمساكين بالروح (ج2)
د. إسحق عصام
4/11/23 - ٥ دقيقة قراءة
ناقشنا في المقال السابق أول فكرة عن التواضع وهي أن التواضع يحدثنا عن العدل ونستكمل فى هذا الجزء باقي النقاط...
ثانيًا؛ التواضع يحدثنا عن الحرية:
يحاجي أستاذ الفلسفة بجامعة جلاسجو، "مايكل شون برادي" في أطروحته عن "الكبرياء والتواضع" عن ربما من الأجدر النظر إلى ما يفعله كلًا منهما بنا كأشخاص.
يعطي برادي المثل التالي:
"تخيل أن لك جار دائمًا يُريك صورًا لعائلته وأبنائه وأحفاده، ويتفاخر دائمًا بهم. ربما تشعر في ذلك الوقت أن عليك بعض الشيء نوع من الضغط الأخلاقي لكي ترد بشكل لائق على هذا النوع من التفاخر، خاصةً إن كنت تعلم أنهم ليسوا الأبناء الأكثر عشقًا على هذا الكوكب... ربما إن لم تستطع أن ترد بشكل لائق سيكون ذلك غير مهذبًا. تخيل أن يحدث العكس، لا يذكر لك نفس الشخص أي شيء في تفاخر تام، لا عن أولاده، أو عائلته، أو ممتلكاته، أو سفره...إلخ، يبدو عندها أنك ليس تحت أي نوع من الضغط لإبداء أي إجلال أو تقدير لتلك الأمور أو له. هنا يظهر الفارق بين الكبرياء والتواضع؛ الأخير لا يطلب أي اعتبار أخلاقي في المقابل."[1]
نعم، ربما تقول ليس هناك أي نوع من الإجبار عليّ أن أرد بشكل ما على تفاخره، يحق لي رفض هذا الضغط. لكن فكّر معي أنه بحسب طرح برادي هذا احتمال جائز!
"هذا يعني أنه لو أمكن لنا أن نقدّر أو نجلّ شخصًا ما يتحلى بالاتضاع أنه سيكون لأمر في صورة عطية، أو هدية ممنوحة وليس تكلُفة مطلوبة من جانبنا"[i][2]
"التواضع يُظهر لنا اتساقًا أكثر من الكبرياء، لأنه يمنح لنا الحرية لكي نتصرف بطريقة ملائمة، وليس بطريقة مُلزمة من جانبنا. يسمح التواضع لنا بأن نعطي الإجلال والتقدير للشخص الآخر كهدية ممنوحة، لكن الأكثر من ذلك يمكن لنا أن نفكر أن التواضع يعبر عن مقدار احترامنا لأنفسنا؛ احترامًا لقدرتنا على إظهار ذلك الإجلال بطريقة حرة وطواعيةً. نستطيع بشكل حر سكب ذاك الإجلال على الآخر الذي يستحقه. التواضع يعطي لنا تلك الحرية، ويكشف لنا بقوة صادمة عن اتساقه في مقابل الكبرياء... التواضع ليس أداةً للتعبير عن اللطف، لأن ذلك ممكن الحصول عليه من الكبرياء -كما في المثل-، لكنه أداةً للتعبير عن الاحترام لحرية الآخر في إظهار الإجلال والتقدير كما يريدون هم." [3]
فكّر معي الآن، في هذا الإطار يُمكن أن يكون المسكين بالروح، المُتَّضع، مُتَّسِق مع ذاته من ناحية الملك، والملك أيضًا متسق مع ذاته ومع مَنْ يسكن في مملكته. ماذا لو علم المسكين أن الملك الذي يسكن في مملكته هو الله ذاته، ماذا لو علم أنه هو نفسه "مُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ" (متى 11: 29)؟ لا يطلب في كِبرٍ احترامًا لنفسه، بل يعرف معنى أن تكون حرًا. ربما إن سكب ذلك الانسان طوعًا الإجلال لذلك الملك، عندئذ يكون قد دخل مملكة السماء. ربما أيضًا يصير ذلك الانسان مُتسقًا وقادرًا على محبة غيره بحق، إن احترم حرية غيره بحق.
ثالثًا؛ التواضع يحدثنا عن الرجاء:
في أطروحتها "التواضع ومعرفة النفس" تُحاجي أستاذة الفلسفة، أليساندرا تانيسيني، بجامعة كارديف أنه إذا ما أردنا أن نضبط رؤيتنا للطريقة التي نرى بها أنفسنا وألا ننزلق في فخ احتقار ذواتنا تحت مُسمى "التواضع"، وما بين النظر إلى قيمتنا الذاتية وقدرتنا على أن نكون أُناس قادرة على الإنجاز وتحقيق أنفسها، ربما علينا أن نرتدي عدسة ترى علاقة وطيدة بين التواضع بالرجاء.
تقول تانيسيني:
"إذا تبنّى شخص موقفًا أو سلوكًا مُفعمًا بالأمل بأنه هناك أمر إيجابي ما سوف يحدث، ذلك السلوك يفترض أن ذلك الشخص يقر ويعترف أن ذك الأمر الإيجابي ليس شيئًا يقينيًا، وأنه أمرًا غير مضمون تحقيقه. إذًا، الأمل هنا يفترض أنه هناك حدود لقدرات ذلك الشخص، وأن تلك الحدود لا تضمن له شيئًا، ولابد له أن يعتمد على البيئة من حوله ومساعدة الأشخاص الآخرين لكي يؤمَّن بشكل ما ذلك الأمر الإيجابي المرجو. بهذه الطريقة، الشخص الذي يمتلك الرجاء لا بد أن يتضع أمام ذلك الإحساس بالمحدودية، ويُقرّ بأن لديه ما يحده وأنه لا يستطيع بالكامل الاعتماد على ذاته بالكامل."[4]
تخيّل معي أنك تريد أن تعمل في وظيفة ما مرموقة. اعتلائك لتلك الوظيفة أمر إيجابي ترجو أن يحدث، ورجاءك هذا يعني أنك تعلم أنه شيء غير يقيني، أي أنه غير مضمون الحدوث على الاطلاق. في تبنيك لموقف الرجاء هنا ماذا تفعل؟ تقوم بأمرين؛ أولهما هو أنك ضمنيًا تُقر أنك محدود ولا تستطع أن تعتلي تلك الوظيفة بكل قدراتك، وإلا لكنت ذهبت الآن بكل ثقة وجلست في مكتب تلك الوظيفة بدون أن يسألك أي شخص ماذا تفعل هنا؟ الأمر الآخر الذي تقوم به هو أنه بالرغم من عدم اليقين في حصولك على تلك الوظيفة، إلا أنك تبني نوع من الثقة واليقين بداخلك، وذلك عندما تحاول أن تصل لأشخاص ذو أهمية في تلك الوظيفة لكي يساعدوك ومن قبلها ترتاد الجامعة ذات الصيت الكبير التي تساعدك على تقوية موقفك، هنا أنت بالرغم من عدم اليقينية إلا أنك تضع في رجاءك نوع من الثقة التي تبرره.
أتعلم ماذا فعل الرجاء بك هنا؟
"الرجاء هنا هو الثقل على الناحية الأخرى من الميزان الذي يمنعك من الانزلاق إلى التشاؤم والعدمية."[5]
الرجاء وضعك وجهًا لوجه أمام حقيقة محدوديتك، لكنه أيضًا وضعك وجهًا لوجه أمام نزعتك لأن تبني موضوع رجاءك على ثقة ما بأن ذلك الأمر يُمكن أن يحدث.
في هذا الإطار يُمكن للمسكين بالروح أن يتقابل مع حقيقة محدوديته بالفعل، -كما تشير كلمة "مسكين بالروح" في اليونانية-، لكن يُمكن أيضًا لذلك المسكين بالروح أن يتقابل مع الملك، وأن يصير ذلك الملك، هو موضوع رجاءه وثقته. ماذا أيضًا لو علم ذلك المسكين أن ذلك الملك الذي يسكن وسط مملكته، عاش واثقًا في الآب وقت تجسده (يوحنا 4: 34)، مات واثقًا الآب (لوقا 23: 46) وقام وصعد واثقًا الآب (يوحنا 20: 17) يمكن حينئذٍ أن يكون موضوع رجاءه مبررًا أمام مَنْ هم خارج هذه المملكة.
التطويبات أكثر من مجرد شرائع:
ربما إذا استمعنا لنصيحة الفيلسوف الأمريكي "دالاس ويلارد" وبدأنا أن نتغذى ونحاول هضم ما قاله السيد المسيح في التطويبات أو الموعظة على الجبل، ندرك أن الأمر أكثر من مجرد مجموعة من الشرائع أو القوانين الأخلاقية التي علينا الالتزام بها. ربما يبدأ أن يظهر لنا من خلفهما هو نفسه، الملك، المُبارك الأعظم، الذي يُصادق يهوه عليه وتُصادق مملكته عليه، ربما يبدأ أن يتولد بداخلنا كون السيد المسيح ملكًا، وهو الملك المتواضع بعدل (يوحنا 8: 28) وبحرية (متى 11: 28-30) وبرجاء (يوحنا 12: 24).
خاتمة:
في الجزء الأول والثاني من حديثنا، حاولت أن أطرح كيف يمكن لنا أن ننظر إلى الموعظة على الجبل عمومًا والتطويبات خصوصًا كأولى الخطابات الكبرى لخمسة خطابات يسردهم لنا إنجيل متى عن الملك يسوع المسيح في ضوء ميلاده، وحياته، وموته، وقيامته، وصعوده. حاولت أيضًا، على قدر الاستطاعة، طرح مفهوم البركة من قِبَل الملك ومن قِبَل الانسان الذي يخضع لهذا الملك، وأخيرًا حاولت أن أُقدّم كيف يمكن أن نفهم أول تصريح في التطويبات على أنه تصريحًا يبدو عقلانيًا وله معنى رئيسيًا نستطيع أن نلمسه في ضوء ثلاث أفكار؛ أعتقد من دونهم يصعب الدخول إلى باقي التطويبات، ومن ثم الموعظة على الجبل، بل وأيضًا الأربعة خطابات الكُبرى الأُخرى المُقدّمين في الإنجيل بحسب البشير متى.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] Pride and humility” By Michael S. Brady; “The Routledge Handbook of Philosophy of Humility” Edited by Mark Alfano, Michael P. Lynch, and Alessandra Tanesini
[2] المرجع السابق
[3] المرجع السابق.
[4] Pride and humility” By Michael S. Brady; “The Routledge Handbook of Philosophy of Humility” Edited by Mark Alfano, Michael P. Lynch, and Alessandra Tanesini
[5] المرجع السابق.