
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- طوبي للرحماء
صوت اونلاين
4/2/23 - ٥ دقيقة قراءة
استهلال
من منّا يحتاج للرّحمة؟
سؤالٌ يبدو في غاية البساطة، والإجابة عليه تلقائيّة بـ (نعم الجميع يرُيد الرّحمة). بالطبع تُعتبر الرّحمة بكلّ تجليّاتها ومظاهرها هي الاحتياج الأهمّ المُلِحّ لعالمنا المليء بشتّى أشكال وصنوف الشّرور، من مجاعات وأوبئة ومظالِم ومفاسِد وحروب واعتداءات. فحتّى الطُغاة الذين نمتلئ بمشاعر الكُره والانتقام والغضب تجاههم يحتاجون للرّحمة؛ بل أكثر من غيرهم. نحتاج للرّحمة أوّلًا من الله لأنفسنا، والرّحمة من الآخرين؛ ونحتاج أن نُمارسها تجاه الآخرين، بل وكلّ الخليقة وكائناتها.
مدخل للخُطبة على الجبل
لا يختلف مُجتمعنا الآن وما نُعانيه عن مُجتمع المسيح قبل ألفيّ عام. فالشرّ له أشكاله المُتعدّدة في كلّ الأزمنة نتيجة سُقوط الإنسان، وصراعه الدّائم ضدّ النّفس الأمّارة بالسوء، وضدّ قوى الشرّ الشيطانيّة. فذات يومٍ وقف المسيح أمام جمعٍ غفير من أتباعه وتلاميذه واعظًا إيّاهم بأهم خُطبةٍ في التاريخ البشريّ، والمعروفة بــ (الموعظة على الجبل). تحتلّ الموعظة على الجبل مكانةً عظيمةً في الإيمان المسيحيّ والتي تُشكّل خُلاصة وجوهر الأخلاق المسيحيّة. لقد رسّخ المسيحُ من خلال كلماتها البسيطة أعمق المعاني والقيم الإنسانيّة الممزوجة بالطابع الإلهيّ. في هذا المقال سنُركّز على إحدى القيم التي رسّخها المسيح في تلك العِظة الجوهريّة من إنجيل البشير متّى.
هنيئًا للرُّحماء
يستهلّ إنجيل البشير متّى فصلَه الخامس بالتِفاف الجموع في حضرة السيد المسيح، راجينَ القُرب منه، والمودة إليه، والمعرفة منه، والخلاص والشفاء من يديه، متشوّقين لكلمة تسُدّ حاجتهم، وتُشبع وجدانهم؛ بعدما تيقّنوا ماهيّته وجوهره الإلهيّ الفريد. اعتلى المسيح الجبل، ووقف أمام الجموع في مشهدٍ يُعيدنا بالأنظار للتّجليّ الإلهيّ على الجبل مع نبيّ الله موسى كما تذكُر لنا التوراة. فبدأ المسيح عِظته للجموع بمجموعةٍ فريدةٍ من التطويبات أو المُباركات أو التهنيئات. فبارك المساكين بالرّوح، والحزانى، والودعاء، والجياع والعِطاش للبرّ والإحسان؛ ثمّ في التطويبة الخامسة باركَ الرُّحماء وقال:
«طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ».[1]
لا يخفى على أحد أنّ العهد الجديد كُتب باللّغة اليونانيّة، لُغة ذلك العصر، والكلمة الأصليّة التي تُرجمت إلى لُغتنا العربيّة (رحيم أو رحماء أو الرحمة) تحمل في جذرها اليونانيّ بُعدًا أعمق في المعنى -لا توصله اللّغة العربيّة إلينا بكامل دقّته- وتعني (الكريم في القيام بمُمارسة أعمال التحرير). فالرّحمة المقصودة هنا تعني القيام بعملٍ يُحرّر الإنسان الآخر من الحاجة أو العبوديّة. الرّحمة وِفق هذا النصّ تتفوّق على الغُفران أو التسامُح كما نعتاد فهمها، وإنّما تذهب إلى بُعد التحرير، تحرير الآخر من شيءٍ ما يستعبده، أو حاجةٍ ما تُقيّده. وقد أتت الرّحمة في سياق تحرير العُصاة من الخطيّة، واستردادهم لطريق الحقّ والتوبة كما ورد في إنجيل البشير متّى:
«فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ».[2]
كما وردت أيضًا في سفر الأمثال -بالعهد القديم-، بلُغة تُشبه على نحوٍ قريب كلمات المسيح في عِظته على الجبل:
«مَنْ يَحْتَقِرُ قَرِيبَهُ يُخْطِئُ، وَمَنْ يَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ فَطُوبَى لَهُ».[3]
فيظهر جليًا أمامنا أنّ التعليم الإلهيّ عن الرّحمة يشمل الكتاب المُقدّس بعهديه، والوصايا الإلهيّة بالرّحمة بكلّ أشكالها يصعُب حصرها لكثرتها.[4]
الرّحمة هي صفةٌ ذاتيّة، وجوهرٌ أصيلٌ من طبيعة الله التي يتعامل بها مع خليقته. وكون الإنسان مخلوقٌ على صورة الله فهو يحمل نورًا من الطبيعة الإلهيّة. فالإنسانُ يُحاكي الله حينما يُمارس الرّحمة، ويرحم إنسانًا آخر، أو كائنًا حيًّا، أو أيّ مظهرٍ من مظاهر الرّحمة. إحدى خصائص الرّحمة أنّها عملٌ تكمليٌّ للخليقة، وبدون مُمارسة الرّحمة من الله إلينا، أو مع بعضنا البعض لاستحالة الحياة. يُصوِّر لنا البشير متّى مشهدًا تتجلّى فيه حاجة الإنسان الماسّة للرّحمة، وتجاوب المسيح مع هذا الاحتياج بإظهار عظيم الرّحمة فيه:
«وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولاَنِ: «ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ!». وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هذَا؟» قَالاَ لَهُ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ!». حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلًا: «بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا...».[5]
فكلّما مارسنا الرّحمة بكلّ أشكالها وتجلّياتها مع الأخرين نكون بذلك قد جسّدنا طبيعة الله الرّحيمة؛ لأنّ عمل الرّحمة فينا هو فيضٌ من رحمة الله العظيمة لنا وبنا.
أشرنا أنّ الرّحمة تتجاوز الغُفران، لكنّها مُرتبطة به، لأنّه -الغُفران- جزءٌ منها، أو إحدى تجلّياتها. ففي الصلاة الربّانيّة علّمنا المسيح أن نُصلّي هكذا:
«وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا».[6]
وهنا رسّخ السيد المسيح فينا مبدأ المُبادرة الذّاتيّة تجاه رحمة الآخرين وتحريرهم وغُفرانهم، حيث أكمل قائلًا:
«فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ».[7]
وهنا تظهر أهمّية مُمارسة الرّحمة والتي يعود جزاؤها وبركاتها علينا في نهاية المطاف. فغُفراننا للآخرين هو انعكاسٌ لغُفران الله لنا، وكما نُبادر بتقديم الرّحمة لهم، هكذا يفعل الله بنا.[8]
الخُلاصة
تُعتبر خُطبة المسيح الشهيرة التي دوّنها لنا البشير متّى وصفًا شاملًا للإنسان الذي يُريده الله في مملكته، إنسان الملكوت الإلهيّ الذي يعكس الطبيعة الإلهيّة، ويشترك مع الله في استرداد الخليقة مرّة أخرى إلى الفطرة الحسنة التي فطَر اللهُ الخليقة عليها. إنسانُ الملكوت الإلهيّ الذي يُجسّد ويعكس رحمة الله في كلّ أعماله تجاه الآخرين المُحتاجين للانعتاق من العبوديّة والاحتياج والعوز. إنسانٌ يرحم دون شرط، يعفو عمّن ظلمه، يغفر لمن يُسئ إليه، يُبارك من يلعنه، يتودّد لمن يُبغضه، يتراءف على المُنكسرين، يتحنّن على المُتألّمين والمجروحين، يُظهِر الرّحمة الإلهيّة بكلّ أشكالها في كلّ مكانٍ يحلّ فيه، يحمل سلام الله أينما كان للجميع دون تمييز.
عند النّظر إلى عالمنا الجريح الآن، نشهد الآلام بكلّ أنواعها وأشكلها في كلّ مكانٍ حولنا، حروب مُستمرّة، دماء تسيل، أطفال مُشرّدون في شوارعنا، والمجاعات تُهدّد أوطاننا. كلّ هذه فُرص هائلة لنا كبشر لنُظهر رحمة الله تجاه الخليقة، ونُظهِر الجانب الإلهيّ فينا لأوطاننا التي تفتقد للسّلام والرّحمة والحُبّ. الفُرصة أمامنا لنرحَم ونغفر ونُسامح ونعفو ونتجاوز كما يفعل الله معنا، ولأنّنا جميعًا بحاجةٍ أيضًا لأن نُرحَم ويُغفَر لنا، ولكي يُجازينا الله خير الجزاء.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (إنجيل متّى 5: 7)، انظر أيضًا (إنجيل متّى 12: 7).
[2] (إنجيل متّى 9: 13).
[3] (سفر الأمثال 14: 21).
[4] غِلن هـ، ستاسن ودايفد ب. غاشي، أخلاقيات الملكوت: اتباع يسوع بأسلوب مُعاصر (لبنان: دار منهل الحياة، 2012)، 39.
[5] (إنجيل متّى 9: 27 -30).
[6] (إنجيل متّى 6: 12).
[7] (إنجيل متّى 6: 14 -15).
[8] متّى المسكين، الإنجيل بحسب القديس متّى، دراسة وتفسير وشرح (وادي النطرون: مطبعة دير القديس أنبا مقار، 1999)، 222 – 223.