
طبيعة المسيح >
القصة المسيحية- مُعجزات- سلطان السيد المسيح على المسافة
صوت اونلاين
3/9/23 - ٥ دقيقة قراءة
استهلال
يرتكز الإيمان المسيحيّ بشكلٍ جوهريّ على الإيمان بالمسيح (الكلمة الأزليّ) أو الإعلان الإلهيّ الكامل في الهيئة البشريّة. فمنظومة الإيمان المسيحيّ عامّة تقوم على ألوهيّة السيّد المسيح، المُترافقة مع ناسوته أي العُنصر البشريّ. فالمسيحُ يحمل الطبيعة الإلهيّة الكاملة والطبيعة البشريّة معًا. والجدير بالمُلاحظة هنا أنّ الإيمان بألوهيّة السيّد المسيح لا يتشكّل نتاج آيةٍ واحدةٍ تقول ذلك، أو بواسطة رأي أحد العُلماء، أو باتفاق بعض الكنائس، وإنّما تقوم ألوهيّة المسيح على منظومةٍ عقائديّةٍ كاملة، لها ركائز عدّة تدعمها وتُشكّلها. في هذا المقال المُبسّط سنُسلِّط الضوء على إحدى هذه الركائز، وبالتحديد الآيات والعجائب التي أقامها.
السرد الكتابيّ لمُعجزة شفاء ابن خادم الملك
يُخبرنا إنجيل يوحنّا عن مُعجزة شفاء فريدة من المُعجزات التي صنعها المسيح مع النّاس. فقد أبرأ المرضى، وأقام الموتى، ووهب البصر للأضِرّاء، بل والبصيرة للغافلة قلوبهم أيضًا. تأتي هذه المُعجزة عقِب أولى المُعجزات التي أقامها المسيح، والتي تتجلّى فيها قُدرته على المادّة؛ حيث حوّل الماء خمرًا. عِلمًا بأنّ الخمر كان مشروبًا مُميّزًا يُقدّم في الأعراس والولائم آنذاك. فكان المسيح في مدينة الجليل فجاء إليه خادم الملك آنذاك، وتوسّل إليه لشفاء ابنه حيث كان مُشرفًا على الموت من شدّة المرض، وكان يعيش في منطقةٍ أُخرى وهي كفر ناحوم.
فبدأ المسيح حديثه بعبارة لافتة، فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:
«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ».[1]
وهنا المسيح يُخاطب الجانب الحسّيّ الماديّ لدى الإنسان، الذي يأبى الإيمان إلّا إذا رأى شيئًا، وأدركه بحواسة الماديّة مثل الآيات والمُعجزات التي تُذهِل العقل وتُحيّره. فالمسيح يعلم الطبيعة البشريّة التي تُريد التحقُّق الماديّ من الأمور لتُصدِّق. ثمّ يُكمل لنا الإنجيل ردّ خادم المَلِك إذ قال:
«يَا سَيِّدُ، انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي»[2].
هنا نجد دقّة وصف يوحنّا البشير في إظهار لهفةِ الرجل على ابنه الذي شارف على الموت، وهو أيضًا يُصارع الزّمن والمسافات لعلّه يُنقِذ ابنه. فيا تُرى ما الذي سيفعله المسيح أمام لهفة هذا الأب المسكين؟!
فنجد أيضًا لافتة هامّة وهي هدوء المسيح مُقابل لهفة الرجل على ولده. أيضًا تظهر رغبة الرجل في الحصول على مُعجزة شفاء لابنه، وليس بهدف أن يؤمن بالمسيح بالرغم من توسُّله إليه. ولا شكّ أنّ الهدف الأساس لصُنع الآيات والعجائب هو تحقيق الإيمان وترسيخه في القلب. وهنا يُعلّق الكاتب هربرت إذ يقول:
"كان هناك البحث عن الإيمان، لا بدّ أنّ بذرة الإيمان كانت موجودة في قلب هذا الرجل الذي دفعته حاجته الملحّة إلى المسيح. لا بدّ أنّه يمتلك قدرًا من الإيمان جعله يعتقد أنّه إذا استطاع أن يجذب الشافي إلى بيته فإنّ ابنه سوف يُعافى".[3]
استجاب المسيح لاستغاثة الأب الملهوف على ولده، فقَالَ لَهُ يَسُوعُ:
«اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ».[4]
وهنا تتجلّى سُلطة المسيح الفريدة في عدّة جوانب، أولًا: في قدرته اللّامحدودة على شفاء ابن خادم الملك بمجرّد كلمة بسيطة (ابنُك حيّ). ثانيًا: في قُدرة المسيح المعرفيّة حيث إنّه يعلم علم اليقين بأنّ الولد حيّ ولم يمُت بعد. ثالثًا: في حُضوره الكامل في كلٍ مكان حيث إنّ الولد في مكانٍ بعيد عنه وشفاه.
يُكمل لنا البشير يوحنّا ويقول:
«فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ».[5]
هنا ينتقل الرجل من المستوى الذي أخبر عنه المسيح، وهو المستوى الحسّيّ الماديّ إلى مستوى الإيماني الأرقى، وهو الإيمان بالكلمة والوعد والثّقة التامّة في كلمة المسيح (ابنُك حيّ). هكذا يُريدنا المسيح أن نؤمن لا من أجل آيةٍ تحدُث معنا، أو من أجل منفعةٍ تتحقّق لنا، وإنّما من أجل إيمانٍ كاملٍ يرقى فوق المادّيات وتحقيق المنافِع. إيمان تامّ بأنّ المسيح مُطّلع وكليّ الحضور ويعلم كلّ شيء، ولديه السلطان المُطلق على سدّ احتياجاتنا وشفاء أمراضنا، لأنّه الحُضور الإلهيّ الكامل.
الوحي المُقدّس يُغني سرد المُعجزة لنا بتفاصيل هامّة، تؤكّد على دقّة التوقيت الإلهيّ، حيث يقول عن خادم الملك:
«وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ».
هنا أول إشارة تُطمئن الرجل، أنّ ابنه حيّ
"فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى"
هنا تظهر رغبة الرجل في التحقُّق من الأمر بشكلٍ أعمق، ربّما ليتأكّد إن كان الشفاء تمّ بواسطة المسيح حقًا أم أمر طبيعيّ.
"فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسِ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى». فَفَهِمَ الأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ».
هنا تأتي الإشارة الثانية وهي دقّة التوقيت حيث شفاه المسيح وأخبره أنّ ابنه حيّ.
"فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ."[6]
تسبّبت تلك المُعجزة الإلهيّة بإيمان الرجل بالمسيح، بل وأيضًا أهل بيته جميعًا جرّاء ما صنعه لابنهم.
الخُلاصة
تبعُد المسافةُ بين الجليل وكفر ناحوم قُرابة العشرين ميلًا،[7] وهذا التباعُد لم يُشكّل حاجزًا أمام سُلطة المسيح اللّامحدودة. على الرّغم من أنّ الكتاب المقدّس يحكي لنا عن عدّة مُعجزات أُخرى، حيث نجد فيها المسيح يطلب من النّاس أن يأتوا بالمرضى إليه، ومنهم من ذهب هو إليهم. لكن في هذا المُعجزة التي ينفرد بها إنجيل يوحنّا دون غيره، أعلن فيها المسيح سُلطانه وتجلّت قُدرته على المسافات، إذ أقام ابن خادم الملك من مرض الموت، دون أن يراه، أو يكُن حتّى بجواره. لذلك فعندما نتأمّل مُعجزات المسيح يظهر لنا لاهوته جليًّا دون ريب. ففرادة مُعجزاته تُسلّط الضوء على الجانب الإلهيّ فيه، والذي يفوق كلّ التصوّرات البشريّة، ونماذج المُعجزات التي أجراها الله على يدِ أنبيائه في العهد القديم.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد