الغفران المسيحي ليس ضعفًا:

 

المسيح هو الرسالة

   لأنَّ كلّ القضايا الدينيّة في كلّ الأديان تبدأ بالنصوص المقدسة، فإنَّ المسيحيّة تأثرتْ بهذا التوجه، بل تأثرتْ أيضًا ببعض المفاهيم الدينية الأخرى عن الوحي على أنَّه نصٌ حرفيٌّ محفوظٌ مُنزلٌ رأسًا مِنْ الله، وما على الإنسان سوى أنْ يحاول تفسيره والعيش به في هذه الحياة ليُرضي الله. لكنَّ الفَهم الأصيل للّاهوت المسيحي يختلف تمامًا عن هذا التوجه. فالمسيحيّة تؤمن أنَّه عندما أراد الله أنْ يتكلم للإنسان أرسل اللوجوس "Logos" ليتجسدَ بين الناس. و"اللوجوس" في الأصل اليونانيّ لا يعني مجردَ كلمةٍ كما هو شائعٌ، بل "كلمةُ الله" أي عقلُ الله وجوهره، فقد "كَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ."[1] ولأنَّ "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ،"[2] فإنَّ "الابْنُ الْوَحِيدُ (اللوجوس) الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ." لذلك يتغنى المسيحيون، على الدوام:

 "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ."[3] 

    هذا هو تميز المسيحية عن أي دينٍ آخر. فأهمُ ما في الدين، أيُّ دينٍ، هو النصُ المقدس، أما المسيحيّة، فتُعلِن بوضوحٍ شديد، أنَّ إعلان الله للإنسان كان الله ذاتُه الذي أرسل كلمته وجوهره وعقله متجسدًا في إنسانٍ مثلنا – المسيح

 "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ."[4]

  المسيحُ، إذًا، ليس مجرد نبيٍ أو حاملٍ للرسالة، بل جوهرُ الله الذي جاء مُجَسِدًا فكر وحياة الله ومبادئ ملكوته. أما الكتبُ المقدسة فقد كُتِبتْ بإرشادِ روح الله القدوس لتشهد بكلماتٍ إنسانيّة لكلمته الحي المتجسد – المسيح. الحقيقةُ التي لا يًمكِن لمُنصفٍ تَجَاهُلِها هي أنَّه في الوقت الذي تمتلك جميع الأديان وحيًا شفويًا (التواتر) ووحيًا مكتوبًا (الكتب المقدس)، تمتلكْ المسيحيّة وحيًا فريدًا هو الوحيُ المُتَجَسِد.

    هنا تبدو مصداقيّة المسيحيّة وحقيقيتُها. فالتعليم المسيحيّ نستقيه مباشرة مِنْ إنسانٍ حقيقيٍ جاء في الزمن وشهد عنه التاريخ بأسره. ولم يُقدِم المسيح للبشريّة تعليمًا إلا ما عَاشَ بالفعل، ولم يقدم رسالةً، بل كانت حياتُه التي شهد عنها العالم ويشهد حتى اليوم، هي الرسالة. لذلك يقول يوحنا، احدُ تلاميذه (حواريه)

 "الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيح."[5]

 

الغفران أسلوب حياة

   أما الغفران بالنسبة للمسيح فلم يكن مجرد تعاليمٍ نظريّة مثاليّة كبعض المصلحين والفلاسفة، إنّما كان حياةً وجوديّة جسّدها بين الناس. يقول عنه أحد حواريه

 "الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل."[6]

قال له تلميذه يوحنا الملقب برسول المحبة وأخوه يعقوب أنْ يُنزِل نارًا لتَحرِق المقاومين لرسالته، فما كان مِنْه إلا أنْ

"الْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ."[7]

 وقد ظلَّ يقدم الحب والاحتواء والدعم لـ يهوذا أحد تلاميذه، الذي باعه للموت، بل ظلّ يحاول بوداعةٍ تنبيهه للجريمة التي ينوي أنْ يقومَ بها. حتى بعد أنْ أسلمه لقاتليه، عاتبه بكلّ مودة وحزنٍ

 "أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟"[8]

وعندما قام بطرس بتهورٍ بقطع أذن أحد الجنود، أنتهره المسيح وقام بشفاء أذن الجندي. بينما وصلتْ سماحتُه وغفرانُه لأعظم صورةٍ عندما قال على الصليب

 "يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ."[9]

    وقد كانت تعاليم اليهود توصي أنْ يغفر الإنسان لأخيه حتى إلي ثلاث مراتٍ في اليوم. لذلك وقف بطرس يسأل المسيح

 "يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟"[10]

وكأنما أراد أنْ يقول للمسيح هأنذا لا أعيش وصيّة الشريعة فقط، بل أعيشها بوفرةٍ وكمالٍ، مثلما يشير الرقم (٧) عند اليهود. لاحظ أنَّ الرقم (٧) يعادل ضعف ما أوصت به الشريعة (٣) مضافًا إليه (١). في رأيي، كان بطرس محقًا في إحساسه بالزهو وهو ينتظر مدحًا مِنْ سيده لهذا الالتزام العظيم بالشريعة. لكنَّ المسيح كان كعادته مدهشًا في إجابته، "بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ."[11] ومِنْ يعرف جيدًا منهج المسيح في التعليم يعرف أنَّ الأرقام الحسابيّة لم تكنْ هدفًا له، بل استخدمها دائمًا لتقديم شرحٍ مبسّطٍ لمبادئه. فما أراده بالرقم سبعين سبع مرات هو أنْ يُؤكِد على أنَّ الغفران ليس أمرًا رقميًا يخضع للجمع والطرح والضرب، إنما أسلوبُ حياةٍ ينبع مِنْ قلبٍ ملئ بالحب والاستعداد الدائم لترك الدين لمَنْ أساءَ والتخلي عنْ أي رغبة في الانتقام من.  

 

الغفران، الشفاء، والمصالحة

   والغفران في الإيمان المسيحي ليس مجرد مشاعرٍ طيبةٍ لشخصٍ منكسرٍ يُضرَبُ فيقول لضاربه "الله يسامحك،" بينما يمتلئ قلبُه بالضغينة والغضب والاستعداد للانتقام إذا ما سنحت له فرصةً. وليس الغفران صمتَ الضعيف المغلوب على أمره الذي لا يستطيع أنْ يَرُد الإساءة بالإساءة. وليس الغفران محاولةَ نسيان الإساءة بينما تعتصر قلوبنا ألمًا ورثاءً للذات. إنَّما الغفران قرارٌ إراديٌ واعٍ بالتحرر مِنْ أي رغبةٍ في الانتقام والالتزام بعدم ردّ الشر بالشر، قرارٌ بإسقاط الدين عمَنْ أساء، فلم يعد بعد عين بعين وسن بسن، والاستمرار في حب المسيء والاستعداد المستمر لعمل الخير له كلما سَنحتْ الفرصة لذلك.

    هل يعني هذا أنَّني أستطيعُ أنْ أغير مشاعري المجروحة أو أتحرّر مِنْ الألم الداخلي والجروح والغصب مرات! ليس الأمر بهذه البساطة، فالمشاعر المجروحة لا يشفيها قرارٌ، بل الشفاء الداخلي رحلةٌ طويلة وجهدٌ مضني. هل أستطيع أنْ أتخِذَ قرارًا بعدم الانتقام وترك الدين وفعل الخير ومشاعري مجروحةٌ تنزف المًا! نعم أستطيع، "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي."[12] ما يساعدنا هنا هو التفريق الحقيقي والواضح بين الغفران، الذي يمكن أنْ يتم بقرارٍ إراديٍ في وقتٍ قصيرٍ والشفاء الداخلي الذي لا يمكن أنْ يتم إلا في رحلةٍ طويلة وعملٍ شاق.

    أما المصالحة فهو فعلٌ ثالث يختلط علينا الأمر فيه مع الغفران والشفاء. المصالحة تعني ضبط العلاقات. لا أظن أنَّ العلاقات بعد الجروح والإساءة تعود كما كانت. فهناك علاقاتٍ قريبة لا يمكن أنْ تستمر قريبة إذا ما كانت الإساءة فعلًا متكررًا، فالله الذي يعلمني التسامح يعلمني أنْ أحب نفسي واحترمها واضع حدودًا لمَنْ يسئ لها. وهناك علاقاتٌ تعود إنّما بعد وضع حدودٍ واضحةٍ. فالمسيح الذي علمَّ بوضوحٍ

  "إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا ... وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ ... وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ،"[13]

هو نفسه الذي علمَّ بوضوحٍ أيضًا:

 "وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ."[14]

أي تُمكِن له المحبة مثل المسيح، مع وضع حدودٍ واضحةٍ للعلاقة كيلا يستمر في إيذائك.

 

التمتع بغفران الله منصة الانطلاق

   لكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا، "هل اتخاذ قرارٍ بترك الدَّين والتخلي عن أي رغبةٍ في الانتقام، بل وفِعل الخير للمسيء، أمرٌ ممكنٌ! في الحقيقة هو أمر شديد الصعوبة. ولأنَّ المسيح كان يدرك ما يحتاج فِعل الغفران مِنْ قوةٍ، لم يقدم مجردَ إجابةٍ بسيطةٍ لسؤال بطرس، بل قدم تعليمًا رائعًا مع تصويرٍ عبقريٍ أطلق عليه الشراحُ "مثل العبد غير المسامح."[15] وكان هذا العبدُ مديونًا بعشرة آلاف وزنةٍ، أختلف علماء التفسير في حسابها. منهم مَنْ قال تساوي ستةَ آلاف دينار مقابل مئة دينارٍ. ومنهم مَنْ رأي أنّها تعادل أكثر مِنْ مليوني دولار مقابل خمس دولاراتٍ. ومنهم مَنْ قال أنَّها تعادل مليارات كثيرة لا تعد. لكنْ لأنَّ الأرقام لا تعني المسيح كثيرًا، فإنَّ ما أراد أنْ يقول هو أنْ ديون العبد كانت خياليّةً للدرجة التي يستحيل عليه سدادها.

    أما العبد فقد كان غبيًا للدرجة التي ظنَّ فيها أنَّ بإمكانه أنْ يجمع كلَّ هذا الدين، لذلك طلبَ لسيده

 "تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ."[16]

وغباء العبد لم يكمُن فقط في حجم الدين الرهيب، بل أيضًا في تجاهل حقيقة أنَّه عبدٌ يعمل مقابل غذائه ونومه ولا يكتسب مالًا. لكنَّ السيد كان عظيمًا في نعمته لدرجة أنْه سامح العبد وترك له الدين وأطلقه حرًا. أيُ نعمةٍ شملتْ هذا العبد المديون البائس، حتى أعطته أكثر كثيرًا جدًا مِنْ غباء طلبته!

    لماذا أمسك هذا العبد رفيقه مِنْ عنقه وألقاه في السجن فقط لأجل مئة دينارٍ، إذًا، بالرغم مِنْ أنَّ طلبة العبد رفيقه كانت نفسه طلبته لسيده

"تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ!"[17]

لقد كان دينُ رفيقه له يعادل واحدًا مِنْ خمسمئة ألفٍ مِنْ الدين الذي تركه سيده له، كيف فَشَلَ في مسامحة رفيقه بدينٍ لا يساوي شيئًا مقابل دينه الرهيب الذي أسقطتْه نعمة سيده! والإجابة بكلّ بساطةٍ لأنَّ هذا العبد الأول البائس لم يصدق أنَّ سيده قد سامحه وترك له كلَّ الدين ولم يتمتع بهذا العتق الذي لا تَصفْ المفردات عظمته، بل ظنَّ أنَّ عليه أنْ يجمع ما له مِنْ فُتات الديون عند الآخرين ليسددَ دين سيده. هذا جوهر التعليم الذي يريد المسيح أنْ يصل لسامعيه وقارئيه، أنَّ مَنْ لم يختبر غفران الله ويتمتع به يستحيل عليه أنْ يشمل الآخرين بأي نوعٍ مِنْ الغفران حتى علي أبسط الزلات. فقط مَنْ فتح أبواب كيانه لنعمة الله فأدرك تحرير الله له مِنْ جميع الديون وتمتع بهذا العتقِ العجيب، وحده القادر على ممارسة فِعل الغفران مع كلّ إنسانٍ مهما كانت عظمة ديونه.

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 


    [1] يو ١: ١.

    [2] يو ١: ١٨.

    [3]١تي ٣: ١٦.

    [4] بط ٢: ٢٢.

    [5]١يو ١: ٣.

    [6]١بط ٢: ٢٣.

    [7] لو٩: ٥٥-٥٦.

    [8] يو٢٢: ٤٨.

    [9] لو٢٣: ٣٤.

    [10] مت ١٨: ٢١.

    [11] مت ١٨: ٢٢.

    [12] في ٤: ١٣.

    [13] مت ١٨: ١٥-١٧.

    [14] مت ١٨: ١٧.

    [15] مت ١٨: ٢٣-٣٥.

    [16] مت ١٩: ٢٦.

    [17] مت ١٩: ٢٦.