"طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ." (مت ٥: ٦)

مقدمة:

   هذه التطويبة تعتبر التطوبية المركزية الرابعة المتوِّجة لجميع التطوبيات السابقة، وفيها يُدرك التلاميذ (أي: الحواريون) احتياجهم للبر حتى يكونوا على أتم الاستعداد لعمل بقية التطوبيات الثلاثة السابقة. ومن القراءة الدقيقة للنص نجد أن التطوبيات متدرجة، وموجهه للتلاميذ أولًا ثم الجموع. وتلك التطويبة تحدث عنها السيد المسيح بصيغة الجمع الغائب، أي إنها ليست للمستمعين على الجبل فقط.  بل موجهه لجميع من يقرأ فيما بعد. وبفحص النص يتحدث السيد المسيح على الملأ وجمهور كبير حاضر، فمنهم مَن سَمِع وتَبِع السيد المسيح، وتَفكّرَ في قلبهِ بكلام السيد المسيح، ومنهم من شارك في صلب السيد المسيح، وربما الإثنين معًا، حيث سمعوا كلامهِ وأمنوا به كما آمن الجمع، ويوم الصليب قالوا مع الجمع أصلبه اصلبه. رغم أن هذه التطوبية موجهه للتلاميذ، ثم للجموع، فهي تطويبة فردية تثني على الباحث عن الحق والعاطش إلى معرفة الله الحقيقي.

 

ما معنى البِر؟

  البِر هو تغيير القلب بما يناسب الحياة الجديدة التي خلقنا الله لنعيشها وليس نوعية الحياة العادية التي نختارها نحن. هي حياة السيد المسيح التي يجب أن نعيشها مثله، بعمل الروح القدس، وهذه الحياة تأتي نتيجة للإيمان بالسيد المسيح.

   البر أيضًا هو الاشتياق إلي مُلك الله في حياتنا (متى 6: 33)، أن يكون الله هو قائد حياتنا وليس نحن. أن يصير الله هو مركز حياتنا وليس نحن أو الناس. ففي الصلاة مثلا، يأمرنا السيد المسيح حين نصلي أن نغلق الباب لأن الله الذي يرى ما هو في الخفاء هو المُجازي علانية، لا أن نصلي في زوايا الشوارع حتى يقول الناس أننا أبرار. يقول الكتاب المقدس عن هؤلاء أنهم قد استوفينا أجرهم عند الناس، ولا يكون لهم أجر عند الله.

   البِر في معجم المعاني يعني الخير، الإحسان، الطاعة، العطاء، الصدق، العدل. والكتاب المقدس يخبرنا أنه ليس هناك بار واحد، أي ليس هناك ولا واحد لا يحتاج إلى تبرير الله.

كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:

"أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ." (رو ٣: ١٠)

   يفكر البعض أن التبرير هو محو المعاصي والذنوب. ولكن المفهوم المسيحي للتبرير مختلف فالتبرير ينقل الإنسان من مُنفصل عن الله إلى شخص قريب من الله. والله يسمع له دائمًا كما كان مع إبراهيم وموسى. والتبرير ينقل الإنسان من كونه عبد إلى ابن. فكل من يتبرر بالتأكيد ستمحى له المعاصي والذنوب لكن ليس ذلك فقط، بل ايضًا يصير ابنًا، ويستطيع أن يتقرب لله.

   لقد صمم الله طريقته للتبرير وليس في مقدورنا اختراع طرق أخرى لا تُرضي الله. فإذا ذهبنا إلى الله بدون السيد المسيح، حتى لو قدمنا له كل حياتنا، سنكون كمَن قَدَّم أجمل ما في الدنيا بأيدي غير نظيفة. فالبر ليس أعمال صناعة الإنسان من الخير والعدل.. إلخ، فليس في مقدورنا أن نكون صالحين أو مُبررين بدون عمل الله الذي عمله السيد المسيح بالكامل على الأرض حين مات وقام عنا وبنا وفينا. فإن البر هو بالكامل صناعة إلهيّة. هو طريقة الله لتبرير الإنسان. هو الاتكال على السيد المسيح وحده وعمله الكامل، هو بر الله المكنون بالإيمان بالسيد المسيح.

   كيف يتبرر الإنسان في المحكمة؟ يتم إطلاق سراحه، لكن البر بالمسيح مختلف، فهو اقتراب المخطئ، بمعنى إطلاق سراح المتهم (إلى) حضور الله، وليس (من) المحكمة الإلهية. ويضاف بر السيد المسيح الكامل إلى رصيد الإنسان بالإيمان بالسيد المسيح.

حتى لا يتفاخر أحدنا ببره الذاتي، ولا يتجاسر آخرين في صنع الشر.

 

الجوع والعطش إلى البر:

   عندما يقول السيد المسيح إن الجوع والعطش إلى البر مُسدَّد، لم يقصد الزيادة في التشدد الديني.  فالبر الذي يطلبه السيد المسيح هنا مختلف تمامًا عن بر التطبيق الخارجي للشريعة. فهو بر التغيير الداخلي للطبيعة الإنسانية. يظن البعض أننا نولد على فطره حسنة، ولكن الواقع يُخبرنا عكس ذلك فنحن نولد بطبيعة فاسدة، نفسًا أمارة بالسوء. بر السيد المسيح وعمله الكامل وحده هو البر المُغيِّر للطبيعة والقلب. فقط هو البر الذي يُسدَّد بفعل الروح القدس عندما نجوع إليه ونعطش.

 

كيف نجوع ونعطش إلى البر؟

  الجوع إلى مُلك الله على حياتنا وعمل مشيئتهِ. الجوع إلى التشبُّه بالسيد المسيح في جميع ما نقول ونفعل، إلى جلسة في الحضرة الإلهية. العطش إلى كلمة الله وإلى شركة المؤمنين، والسعي وراء القداسة.

"أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا! ... لْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ" (إشعياء 55: 1-2).

 

وهنا لدينا بعض الملاحظات على الموعظة يمكنها صُنع فارق في فهم الأية.

"وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ." (مت ٥: ١)

  1. بينما اجتمع الجموع صعد السيد المسيح إلى الجبل لكي يُعلمهم، ما يقوله الإنجيلي متى إنه فتح فاه (وعلم تلاميذه) بمعنى أن الكلام موجه للجميع، لكن لا يستطيع فعله إلا التلاميذ.
  2.  هذه الشريعة قيلت على الجبل حتى تُذكرنا بالشريعة الأولى التي قيلت على الجبل لموسى نبي الله. وهذا التفكير يقودنا أن الجبل مكان مناسب عالي يمكننا هناك تلاقي الله، ثم يمكننا أخذ شريعته. وبعد ذلك نستطيع بمساعدة السيد المسيح عملها، ولكن الفارق مهيب الآن، فقد كلم الرب نبيه موسى وحده. ولكن الآن التلاميذ ثم الجموع، وهو متجسد لأجلهم ومعهم بلحم ودم في جسد تواضعنا.
  3. يرد في الخطبة 17 مرة كلمة "آب"، وتقودنا هذه الملاحظة إلى ما في قلب الله نحو الناس من جميع الفئات. فالله ليس فقط السيد ونحن العبيد، ولكن الله في المفهوم المسيحي للعهد الجديد أب، أب بكل ما تحويه الكلمة من معنى. الآن يُمكننا الصلاة والتقرب من الله مِن منطق الأبناء وليس منطق العبيد. في القديم كان موسى وحده يتسلق الجبل ليتحدث إلى الله ثم يخبر الشعب، يدخل الكاهن الهيكل ليصلي عن الشعب. لكن الآن الأمر مختلف، فقد صار لكل إنسان الحق في التقرب لله من خلال السيد المسيح بدون قيود، وفي أي وقت، وفي أي مكان. يمكننا رفع القلب لله والتحدث معه كأب.

 

خاتمة:

   ربما يكون إنسان اليوم جائع لرغيف الخبز، وعاطش للماء أكثر من الجوع والعطش للبر. فلنتذكر تعاليم البار السيد المسيح أن الله يعرف احتياجاتنا تمامًا. وسيسددها بالتأكيد. ولكن ما علينا أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره، أي أن يملك هو على حياتنا وحين يملك سيوجه فكرنا في طريق الصواب، لعمل كل ما هو صالح، وحين يحدث ذلك سنتحرك تجاه بعضنا البعض لنسدد احتياج أحدنا الأخر والله بكرمه سيُغني.

"لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ." (مت ٦: ٣٣)

 

المراجع:

  • كتاب إنجيل متى بدايات كون
  • الخولي بولس الأفغاني (الجزء الأول والثاني)
  • كتاب إنسان الملكوت اوسم وصفي
  • تفسير الكتاب المقدس ابونا تادرس يعقوب

 

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد