ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟

.

.

.

.

.

.

.

.

هل تبحث عن الإجابة؟

لماذا؟

ألا تعرفها؟

ألست مُلم بالناموس، وحافظ للشريعة، ومُدقق في جميع الوصايا؟

ألا تعلم جيداً ما عليك فعله واتباعه، وما يجب اجتنابه والبعد عنه؟

أيُعقل أنك مُعلم للشريعة، ولا تعرف ما عليك فعله لكي ترث الحياة الأبدية...

تخيل يا عزيزي القارئ لو كان هذا هو رد السيد المسيح على الرجل الذي جاء يسأله:

"يا مُعلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية" (لو 25:10).

   لكن السيد المسيح كان رده مختلفاً عن كل ما سبق، فقد سأل الرجل عن وصايا الناموس التي تعلّمها، فجاءت إجابته كالتالي:

 "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ" (لو 27:10).

 فمدحه السيد المسيح وقال له عش تلك الوصايا التي ذكرتها فتحيا. ولكن مُعلم الشريعة كان يرغب أن يُجرب السيد المسيح، ويُزكي نفسه أكثر فسأل السيد المسيح: ومن هو قريبي؟ لأن الكتبة والفريسيين كانوا يُعلّمون دوماً أن قريبك هو الشخص اليهودي فقط، ومن هو غير يهودي ليس مجرد غريب، بل هو عدو.

   وجاء رد السيد المسيح على سؤال الرجل في صورة قصة تحكي عن شخص يهودي كان مسافر من أورشليم إلى أريحا، وبينما هو في الطريق خرج عليه مجموعة من اللصوص قُطاع الطرق، فجرّحوه وعرّوه من ملابسه، وسرقوا مقتنياته، وتركوه ينازع بين الحياة والموت. وبينما هو مُلقى في الطريق ينزف، مر عليه كاهن من بني شعبه، أي قريبه ولكنه لم يتقدم ليساعده أو حتى ليسأله عما وقع له. ثم بعد ذلك بقليل مر عليه رجل أخر هو أيضاً من أقارب ذلك المسكين المصاب، لكنه لم يهتم بل تركه غارقاً في دمائه واستكمل طريقه إلى حيث يذهب.

   وفي النهاية مر عليه رجل من بلد تُدعى السامرة، سكان وشعب هذه البلدة كانوا في عداء شديد مع اليهود، ولكن كانت المفاجأة أن هذا السامري توقف ليرى ماذا حدث لهذا الرجل اليهودي العدو. ولما رآه مصاباً ومتألماً تحنن عليه قرر أن يساعده، فضمد جراحه بعناية، وحمله على دابته وأخذه إلى فندق لكي يستريح فيه إلى أن يُشفى تماماً. وترك مبلغ من المال لصاحب الفندق، كما أكد عليه أن مهما احتاج هذا الرجل فكل طلباته مجابة إلى أن يتعافى، وأي نفقات أخرى سوف يقوم الرجل السامري بتسديدها لصاحب الفندق حين يعود إليه مرة أخرى ليطمئن على هذا الجريح المتروك من أقاربه.

 

والأن ما رأيك يا صديقي، مَن مِن أولئك الرجال الثلاثة هو الأقرب للرجل المُصاب؟

نعم أنت...

أسألك أنت...

من منهم أقرب للرجل السامري المصاب؟

  هل الكاهن ابن بلدته الذي رآه مصاباً ملقى على الطريق وتركه وعبر؟ أم قريبه الذي تركه غارقاً في دمائه بين ميت وحي؟ أو تعتقد أنه قد يكون عدوه الذي أشفق عليه ودواه وضمد جروحه، ولم يبخل بوقته ولا ماله من أجل ضمان سلامة هذا الرجل الغريب عنه.

   وبعدما انتهى السيد المسيح من رواية قصته، هل تعلم بماذا جاوبه الرجل مُعلم الشريعة، حين سأله السيد المسيح:

 "أَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟" (لو 36:10).

 لقد جاوبه قائلاً:

 "الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ" (لو 37:10)

 فلم يُرد حتى أن ينطق اسم السامري على شفتيه، لأن كما ذكرنا سابقاً كانت هناك عداوة قديمة متجذرة وقائمة بين اليهود والسامريين. وهذا الرجل العالِم في أمور الدين، والذي حاول أن يُبرر نفسه أمام المسيح حين سأله "ومن هو قريبي؟" قد تعالى واستعفى أن ينطق اسم السامري بشفتيه.

   فلم يستره بره الزائف الذي جاء ملتفحاً به متسائلاً عمن هو قريبه. ولم تنعكس في ردة فعله الوصايا التي تعلمها وحفظها عن ظهر قلب منذ حداثته، ولا أسعفته علومه ومعرفته المتسعة بالناموس والشرائع في شفاء ما بداخله من كراهية، ولم تتوارى بغضته الكامنة في القلب خلف قناع البر المخادع. بل نضح قلبه بما فيه (لو 45:6).

   ولعل هذا الرجل لم يكن ليسأل هذا السؤال، إذ تهادت إلى مسامعه تعاليم السيد المسيح التي قدمها في الموعظة على الجبل يوم التطويبات (مت 5)، لأن في ذلك اليوم قام السيد المسيح بدعوة الجموع ليسلكوا بمحبة ذات مستوى أسمى مما يدعو له الكتبة والفريسيين:

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (مت 43:5-44).

   فبعدما كان الشعب يسمع دوماً من الكتبة والفريسيين أن أي شخص غير يهودي هو عدو، وبالتالي بغضته واجب يُوصي به علماء الشريعة. جاء السيد المسيح ليأخذ قلوبهم نحو محبة الجميع، حتى الأعداء. وليُصحح في داخلهم مسارات الحب التي كانت تقتصر فقط على أبناء جنسهم وديانتهم، لتستقيم وتشمل حتى أولئك الذين يلعنوهم ويُبغضوهم ويُسيئون إليهم ويطردونهم.

   قد يبدو أن السيد المسيح يطلب أمور عثرة أو صعبة التطبيق. وفي حقيقة الأمر أننا لو نظرنا لكلمات السيد المسيح بطبيعة ذواتنا الضعيفة، ودوافعنا التي تميل تارةً هنا وتارةٌ هناك حسب أهوائنا، لوجدنا أن هذه المحبة صعبة التطبيق بالاعتماد على النفس. فهي تحتاج إلى معونة ونعمة إلهيّة من ذاك الذي أحبنا فضلاً وبذل نفسه من أجلنا.

   هذا الرجل الذي جاء يسأل السيد المسيح من هو قريبي؟ كيف له أن يعيش وصيّة كتلك التي أعلنها السيد المسيح عن محبة الأعداء، وهو نشأ طيلة أيامه يتعلم أن أي غريب هو عدو له، فلما نضج وأصبح هو بدوره مُعلم للشريعة، بات يُنادي بذات البُغضة، أن مَن هو دون جنسك وديانتك عدو لك. إلى أن جاء السيد المسيح ونقل مفهوم المحبة للسمو الإلهي الذي يرجوه من كل أبناءه.

 "وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ" (لو 32:6).

   ومن هنا نعلم أننا لكي نحيا ونسلك بوصايا وتعاليم السيد المسيح، نحن نحتاج أولاً السيد المسيح نفسه، صاحب الوصايا. نحتاجه أن يُغيرنا، ويُجدد أذهاننا، ويشفي دواخلنا من كل محبة غريبة، وكل بُغضة ترسخت في أعماقنا. أن يمنحنا قلوب مُحِبَّة تتأنى وترفق، قلوب تحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء (1كو 13). فلا الحفظ الذهني للوصايا والشرائع والنواميس، أو ترديدها سيجعل أحدهم يعيش تلك المحبة بمعزل عن السيد المسيح نفسه أبو المحبة، الذي يفيض بها أولاً في قلوبنا فنحياها.

ولكن...

أليست المحبة بهذا الشكل مجرد طريقة أتقي بها شر أعدائي الذين لا أقدر على مواجهتهم؟

سؤال جيد، ولكن دعنا نرى الإجابة من تعاليم السيد المسيح...

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ." (مت 38:5-41).

   حين نتعامل مع الأخرين وبشكل خاص الأعداء، أولئك الذين يضايقونا ويضهدوننا. لا نعتمد في تعاملنا معهم على ماهيتهم، أو ما يفعلوه ضدنا. بل نتصرف ونسلك معهم من خلال ماهيتنا نحن، فنقابل تعدياتهم بالمحبة، لنُعلن عن كوننا أبناء لله (مت 45:5). فلا نرد الشر بشر، ولا نقدم المحبة لأننا نخشى مواجهتهم أو الاحتكاك بهم. بل لأن وصية السيد المسيح تحثنا أن ننقل الحب الذي في قلب الله الآب لهم. فكما أحبنا المسيح ونحن بعد خطاة وأعداء لله، ومات لأجلنا (رو 8:5، 10). نحن أيضاً علينا أن نعكس صورة هذا الحب الإلهي.

   ومن خلال حياة حقيقية مُعاشه في شركة حية وفعالة مع السيد المسيح، يُمكننا أن نُقدم خطوات تصاعدية ثابتة ومتأصلة على سُلم المحبة بشكل تدريجي. فمن درجة محبة للأعداء، بالمثابرة يمكننا أن نصعد درجة أخرى في سُلم المحبة نحو مباركة مَن يلعنوننا، بل نقطع ميلاً أخر، ودرجة جديدة من درجات الحب الإلهي لنُقدم الإحسان والمعونة لمُبغضينا، ونرتقي في درجات الحب حتى نُصلي ونطلب من أجل الذين يُسيئون إلينا ويطردوننا.

"لِكَيْ نَكُونُ أَبْنَاءَ أَبِينا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 45:5).

   والسيد المسيح يريد منا، ومن مُعلم الشريعة الذي سأله أن نُدرك جميعاً:

(أنه ليس عدوك، بل هو أيضاً قريبك، أحبه، باركه، أحسن إليه، وصلي من أجله).

 

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد