
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- طوبي للحزاني
شادي بهاء
4/10/23 - ٥ دقيقة قراءة
مقدمة:
المعاناة والحزن تجعل أرواحنا تتقلص بشكل غريزي فأرواحنا بطبيعتها تسعى إلى مجتمع مبتهج وسعيد، فالحزن بغيض ومزعج للطبيعة البشرية، ولكن في إنجيل متى الإصحاح الخامس والآية الرابعة يقول المسيح في إحدى أشهر وعظاته والتي تشتهر باسم الموعظة على الجبل: "طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ."
يقدم نصنا حالة شاذة غريبة لغير المؤمنين، ومع ذلك فهي موسيقى حلوة لكل مؤمن. والسؤال هنا إن كانوا "مُباركين"، فلماذا "يحزنون"؟ وإن كانوا "يحزنون" فكيف يكونون "مُباركين"؟
فقط السيد المسيح هو مَن لديه مفتاح هذا التناقض.
(طوبى للذين يحزنون) هو قول مأثور يتعارض تمامًا مع منطق العالم. لقد اعتبر الناس في جميع الأماكن وفي جميع الأعمار أن الأغنياء الذين ينعمون في رخاء هم السعداء، لكن المسيح يحمل الخبر المُفرح لمَن هم مِن الفقراء -المساكين- في الروح والذين يحزنون.[1]
ويتبادر إلى أذهاننا السؤال الأول وهو "ما هو نوع الحزن المُشار إليه هنا؟"
إنه الحزن الذي من أجله يَعِد السيد المسيح بالتعزية، وينطبق هذا على ما هو روحي. فالحزن المُبارك هو نتيجة إدراك قداسة الله وصلاحه الذي يصدر بإحساس من فساد طبائعنا، والذنب الهائل لسلوكنا، إنه الحزن الذي من أجله يَعِد السيد المسيح بالتعزية الإلهية، هو حزن على خطايانا هو الحزن الإلهي، أي: الذي بحسب مشيئة الله.
إنه حزن على ما تشعر به حالتنا الروحية مِن فقر روحي، وعلى الآثام التي فرقت بيننا وبين الله؛ الحزن على الأخلاق ذاتها التي تفاخرنا بها، وعلى البر الذاتي -أي: أعمالنا الصالحة- الذي وثقنا فيه؛ الحزن على عصيان الله، والعداء لمشيئته؛ ومثل هذا الحزن يسير دائمًا جنبًا إلى جنب مع فقر الوعي الروحي.
يمكننا أن نرى توضيح وتمثيل مُذهل للحزن الروحي الذي على أساسه أعلن المُخلص -السيد المسيح- هنا عن كونه حزن مُبارك في (لوقا ١٨: ٩-١٤). فنجد في مَثل الفريسي والعشار تباين واضح يتم عرضه في وجهة نظرنا. أولاً، يَظهر لنا فريسيًا بارًا يتطلع إلى الله ويقول:
"اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ."
قد يبدو أن الفريسي[2] بار ومُحق في كل ما قاله، لكن هذا الرجل نزل إلى منزله في حالة إدانة. فبالرغم مِن أن مظهره الخارجي يبدو في أحسن صورة، إلا أنه مِن الداخل فقير روحيًا، لا يُدرك خطاياه. ثم يظهر لنا العشار[3]، وهو يقف بعيدًا، والذي كان -بلغة الكاتب-، مُنزعجًا جدًا من إثمه لدرجة أنه لم يكن قادرًا على النظر إلى خطيته[4]. لم يجرؤ على رفع عينيه نحو السماء، بل ضرب على صدره. ومِن شدة إدراكه لنبع فساده الداخلي، صرخ:
"اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ."
نزل ذلك الرجل إلى بيته مُبررًا، بلا لوم على ذنبه أمام الله، لأنه كان فقيرًا بالروح وناح على خطيته.
على الرغم من أن الإشارة الأساسية الأولية هي للحزن العميق الذي يُطلق عليه عادةً التبكيت على الخطية، إلا أنه لا يقتصر على ذلك بأي حال من الأحوال. فهناك الكثير مما يجب على المؤمن أن يحزن عليه، ونجد قلبه يصرخ:
"وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ!" (رومية ٧: ٢٤).
"وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ" (عب ١٢: ١).
والتي هي -بحسب النص- أكثر من شعر رؤوسنا، وتسبب حزن دائم لنا.
كلمة حزن، “ πενθέω، “pentheō هي أيضًا نفس الكلمة الموجودة في (إشعياء ٦١: ٢)
"لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ".
ففي سياق (إشعياء ٦١)، يستند الحزن على حقيقة أن
"الصديقون يتألمون، لأن الأشرار يزدهرون، ولأن الله لم يتصرف بعد لتغيير الوضع".[5]
ويترتب على ذلك أن الحزن الذي عانى منه المؤمنون لا يقتصر على الحزن على الخطية الشخصية، فإن المشاركين في ملكوت الله حزنوا حقًا من الاستبداد العام للخطية الذي يميز هذا العصر الشرير. هنيئًا للمؤمن الذي يُمكن أن يحزن حقًا بسبب عداء العالم وتمرده ضد تحقيق إرادة الله. في تعبير عن اليأس والحزن الشديد، يتوق المؤمن إلى أن يعمل الله لتصحيح الأمور -(راجع إشعياء ٦٦: ٢، ١٣؛ رؤ 21 )-[6] إن عقم حياتنا وعدم جدواها يجعلنا نتنهد ونبكي. بُعدنا عن السيد المسيح، ونقص الشركة معه، وضحالة محبتنا له تجعلنا نستسلم لأحزاننا.
إن الشر الفظيع في العالم، واحتقار السيد المسيح، والآلام البشرية التي لا توصف، تجعلنا نئن داخل أنفسنا، وكلما كان المؤمن أقرب إلى الله، زاد حزنه على كل ما يُسيء إليه.
إن عبارة "سوف يتعزون" تُلقى أيضًا اكتمالًا مستمرًا في اختبار المؤمن. على الرغم مِن أنه حَزَنَ على خطيته واعترف بها لله، إلا أنه يشعر بالارتياح من خلال التأكيد على أن دم السيد المسيح -الله المُتجسد لنا بشرًا سويًا-، يُكَفِّر ويطهِّر من كل خطية (يوحنا الأولى ١: ٧)، فهو يشعر بالارتياح من معرفة أن اليوم يقترب بسرعة عندما يُلقى الشيطان في الجحيم إلى الأبد وعندما يحكم القديسون مع السيد المسيح في
"سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ."(٢ بطرس ٣: ١٣).
على الرغم من أن يد الله توضع عليه في كثير من الأحيان، وعلى الرغم من أنه مثل قول الرسول بولس:
" كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ، بَلْ لِلْحَزَنِ." (عب ١٢ :١١)
يمكن للمؤمن الذي هو في شركة مع ربه أن يقول:
"كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ." (٢ كورنثوس ٦: ١٠)
إن المُعزي الإلهي[7] يُرسل تعزية الآن للحزانى من خلال خدامه ويرسل كلمات تشجيع من خلال الرفقاء حولهم، ومن خلال الوعود الثمينة للكلمة، فمكتوب:
" إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ. " (رومية ٨: ١٧)
عندئذٍ ستتم كلمات الصوت السماوي العظيم في (رؤيا ٢١: ٣، ٤)
"هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ. وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ.." [8]
الله سيعزي وإن التعزية الموعودة هنا ليست أي عزاء يمكن معرفته في العالم، بل هي بالأحرى فرح ورضا آخران يتحققا فقط بمجيء ابن الإنسان إلى العالم. فإن نعمة الله لا تكمن في حالة الحزن في حد ذاته، ولكن على أولئك الذين يحزنون على الخطية التي تفسد العالم ولا تحقق مشيئة الله.
إن الحزانى المُعزون مُباركين لأنهم سيختبرون في النهاية خلاص الله، وعزائه مِن خلال مشاركة الله المباشرة في توفير الراحة لشعبه. وحتى الآن، فإن الحالة المُباركة لمَن هم في الملكوت،[9] تستند إلى إدراك أن تعزية الله قد اقتربت بالفعل في السيد المسيح (لوقا ٢: ٢٥)، مما يجلب الفرح الداخلي والتعزية على الرغم من الظروف الخارجية للمؤمن. ففي النهاية، سوف يجلب ملك الله العظيم راحة أبدية تليق بالعصر الأبدي الآتي في نهاية الزمان. [10]
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (متى ٥: ٣)
[2] الفريسي: هو معلم يهودي، مُحافظ.
[3] العشار: هو جابي ضرائب يهودي لصالح البلد المُحتل (الرومان) في هذا الوقت.
[4] لأَنَّ شُرُوراً لاَ تُحْصَى قَدِ اكْتَنَفَتْنِي. حَاقَتْ بِي آثَامِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُبْصِرَ. كَثُرَتْ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي وَقَلْبِي قَدْ تَرَكَنِي. (مز ٤٠: ١٢)
[5] Davies, W. D., and Dale C. Allison, Jr. A Critical and Exegetical Commentary on the Gospel According to Saint Matthew. London: A Continuum, 1991, 1:448.
[6] Garland, David E, Reading Matthew: A Literary and Theological Commentary On the First Gospel. New York, Crossroad, 1993., p. 56.
[7] المُعزي الإلهي: يُقصد به الروح القدس ونؤمن أنه روح الله ذاته.
[8]Pink, Arthur Walkington: The Beatitudes and the Lord's Prayer. Bellingham, WA. Logos Research System, Inc., 2005, S.
[9] الملكوت: أي كل مَن يملك الله على قلبهم من خلال الإيمان بالسيد المسيح.
[10]Chouinard, Larry: Matthew. Joplin, Mo.: College Press, 1997 (The College Press NIV Commentary), S. Mt 5:4