
طبيعة المسيح >
القصة المسيحية- مُعجزات- سلطان السيد المسيح على المادة
صوت اونلاين
3/9/23 - ٥ دقيقة قراءة
استهلال
يَنظرُ الإيمان المسيحيّ للمُعجزات التي أجراها السيد المسيح بسُلطانه ليس باعتبارها إظهارًا للقوّة، أو التّعالي بالقُدرات الخارقة لإبهار النّاس. في واقع الأمر المُعجزات لها أهداف عدّة من منظور الإيمان المسيحيّ، فمنها دفْعُ النّاس للتدبُّر والتعمُّق في دوافع وأبعاد وحيثيّات الآية أو الحادثة نفسها؛ ومنها أيضًا دفْعُ النّاس للإيمان بالسُلطان الإلهيّ المُطلق على كلّ شيء، وأيضًا تقديم العَون والنّجاة ورفع البلايا عن النّاس كمُعجزات الشّفاء وإبصار الأضرّاء التي أجرها السيّد المسيح. في هذا المقال المُبسَّط سنتطرّق إلى جانبٍ هامّ من أهداف المُعجزات، وهو إظهار الجانب الإلهيّ في المسيح؛ وذلك من خلال التدبُّر في أولى مُعجزاته التي ذكرها لنا إنجيل البشير يوحنّا.
السرد الكتابيّ للمُعجزة:
بينما كان المسيح والسيّدة مريم، حاضرين إحدى الأعراس في منطقة الجليل بأرض فلسطين، حدث أن فرَغت الخمر التي كانت تُقدّم للنّاس من باب واجب الضيافة. يبدو أنّ هذا العُرس كان لفئةٍ بسيطةٍ من النّاس، وذلك لعدم توافر المشروبات لكي يُقدّموها لضيوفهم. لاحَظت السيّدة مريم هذا -أنّ الخمر قد فرَغت-، وهو أمر مُحرج وقد يصل إلى حدّ العار في تلك الثّقافة آنذاك. تجدُر الإشارة هنا إلى أنّ الخمر حينها هو المشروب المُميّز الذي يُقدَّم في الولائم والأعراس ويُعبِّر عن حُسن الضيافة والكرَم.
نظرَ المسيح وإذا بستّة أجران فارغة أمامه، فقال للحاضرين من الخَدم:
"«امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ». ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا، دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ. وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلًا، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!»".[1]
فلمّا ذاقَ رئيسُ المُتّكأ الخمر تعجّب من لذّتها ودعاها (الخمر الجيّدة)، وركّز يوحنّا على أنّ الرجل لم يعلم بأنّ المسيح حوّلها من الماء، ولم يعلم مصدرها من الأساس
"وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ."
فدعا الرئيسُ صاحبَ العُرس ولامَه لِظنّهِ أنّه يُخفي الخمر الجيّدة عن ضيوفه. ونُلاحظ هنا أنّ المسيح لم يمَسّ الأجران بيديه، ولم يُشارك في ملئها بالماء، بل وحتّى لم يقترب منها، وإنّما الخُدّام هُم من صبّوا الماء فيها، وهُم من صبّوها لرئيس المُتّكأ لتذوّقها.[2] أمّا الإشارة الثانيّة هي تأكيد البشير يوحنّا على ملء الأجران بـ(الماء) دون إضافة أيّ مادّة أخرى. ثمّ يختَتم البشير يوحنّا -الذي انفرد بذكر هذه المُعجزة في بشارته- قائلًا:
"هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ."[3]
يظهر جليًّا أنّ الدّافع وراء إقامة المُعجزة، والتي تتمثّل في سُلطان السيّد المسيح المُطلق على المادّة إذ حوّل الماء خمرًا، حيث غيّر من خصائص ومكوّنات الماء إلى خصائص ومكوّنات أخرى؛ وهو إظهار مجده وسُلطانه وقُدرته. ويقول الكاتب واللّاهوتيّ "هربرت لوكير" مُعلّقًا:
"النتيجة الثانية للمُعجزة أنّ تلاميذه آمنوا به. لقد كانوا بالطبع مؤمنين به من قبل، وإظهار قوّة ربّنا قد ثبَّت الإيمان بلاهوته. لقد برهَنت المُعجزة الأولى على قُدرته على أن يُجريَ أيّ مُعجزة. فإذا كان في مقدوره أن يُحوِّل الماء إلى خمرٍ بإرادته إذن فهو يستطيع أن يفعل أيّ شيء وكلّ شيء".[4]
كما نُلاحظ في هذه المُعجزة سُلطان المسيح المُطلق، بكامل إرادته الإلهيّة في إحداث الآيات والعجائب دون وسيطٍ أو مُشيرٍ أو وسائل مُساعدة. فالمسيحُ أجرى المُعجزة هنا بإرادةٍ حرّةٍ خالصة. هنا ارتَقت نظرة الجميع إليه وخاصة تلاميذه وأتباعه جرّأ تلك المُعجزة. فتيقّنوا أنّ من يمتلك مثل تلك القُدرات فوق الطبيعيّة حتمًا ليس برجلٍ صالحٍ أو مُتعبّدٍ زاهدٍ، أو حتّى ساحر، وإنّما تلك الآيات لا يقدر عليها إلّا الله، خالق الطبيعة ومُسيّرها ومُطوّعها.
عند التمعُّن في هذه المُعجزة الفريدة، نجد أنّ البشير يوحنّا أورَد عمدًا عبارة غاية في الأهمّية في ختام حديثه عن المسيح، وهي: (أظهرَ مجدَهُ). هنا نتوقّف ونتأمّل قليلًا. فعندما نعود للعهد القديم نجد أنّ آيات ومُعجزات سائر الأنبياء مثل موسى وإيليا وغيرهم أظهرَت مجد الله. أمّا هنا فنجد عبارة البشير يوحنّا حيث يقول عن المسيح (أظهرَ مجدَهُ)، والهاء ضمير عائد على المسيح. بعد هذه المُعجزة ظهر مجد المسيح جليًّا أمام أتباعه، والذي ظلّ محجوبًا عن أعينهم قُبيل تلك اللّحظة ولذلك قال:
(فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ).[5]
الخُلاصة
تُظهِر لنا هذه المُعجزة والآية العجيبة البديعة سُلطان المسيح المُطلق كالعادة في كلّ مُعجزاته. فالمادّة لم تُعجِزه، إذ بسُلطانه غيّر خصائص الماء الطبيعيّة إلى خصائص الخمر من لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ وتأثيرٍ دون أن يمَسّها أو يقترب منها. كما أفضت المُعجزة في نهاية المطاف إلى ترسيخ الإيمان به وبقُدرته وبلاهوته في قلوب الحاضرين. كما انعكست أثار تلك المُعجزة على الجانب الاجتماعيّ لدى أصحاب العُرس، فقد انتشلهُم المسيح من مأزق العار أمام ضيوفهم، ورفع عنهم الحرَج. في النهاية كلّ مُعجزات المسيح تهدُف إلى إظهار الجانب اللّاهوتيّ منه، وترسيخ الإيمان في قلوب الحاضرين، بل وأيضًا نفعِهم على المُستوى الماديّ مثل الشفاءات وغيرها.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (إنجيل يوحنّا 2: 7 – 10).
[2] هربرت لوكير، كل المُعجزات في الكتاب المُقدّس، ترجمة إدوارد عبد المسيح، (القاهرة: دار الثقافة، 1999)، 194.
[3] (إنجيل يوحنّا 2: 11).
[4] لوكير، كل المعجزات في الكتاب المُقدّس، 194.
[5] ويليم إيدي، الكنز الجليل في تفسير الإنجيل، الجزء الثالث شرح إنجيل يوحنا (بيروت: الناشر مجمع كنائس الشرق الأدنى، 1973)، 33.