
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- طوبي للودعاء
د. وليد القطّار
4/30/23 - ٥ دقيقة قراءة
«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (إنجيل متّى 5: 5).
استهلال
العِظة أو الموعظة على الجبل، وتُعرف أيضًا بـ “شريعة العهد الجديد"، -كما فهمنا من المقالات السابقة- تتضمّن هذه العِظة مجموعةً من التعاليم تُشكِّل الدّستور الأخلاقيّ، معيار السلوك لكلّ المؤمنين بالمسيح. حيث نجد هذه التعاليم في إنجيل البشير متّى من الفصل الخامس حتّى السابع، كما ذُكِرَت في إنجيل البشير لوقا أيضًا. ومن أشهر أجزاء هذه الخُطبة المُطوّلة هي افتتاحيّتها وتُعرَف بالتطويبات (جمع طوبى)، كما تضمّنت العِظة أيضًا حديثًا عن الصلاة الربّانيّة، ووصايا متنوّعة عديدة.
أمّا أكثر ما ميّز هذه العِظة هو إعلان السيد المسيح فيها بأنّه لم يأتِ لينقُض ما جاء قبله بل ليُكمِّله ويوضّحه، فكان يُردّد فيها (سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ...). لذلك يعتقد بعض مُفسّري الكتاب المُقدّس أنّ الموعِظة على الجبل هي شكل من أشكال التعليق على الوصايا العَشر، بينما يرى آخرون بأنّ هذه الخُطبة تضمّنت النقاط الرئيسة والأساس للتلمذة المسيحيّة.
خلفيّة النص
لنرى عن قُربٍ كيف كان يعمل السيد المسيح بكلّ اتضاعٍ ووداعة. لم يكُن يجمع النّاس من حوله بقدر ما كان هو يجول بينهم، ويصنع خيرًا في وسط بيوتهم وقُراهم. حتى عندما أصبح الجَمع عظيمًا جدًا، لم يختَر وسط المدينة أو ساحةٍ مشهورة فيها، بل قصَد أحد جبال الجليل ليُعلِّمنا ألّا نفعل شيئًا لمُجرّد التفاخُر والاستعراض، ونعزل أنفُسنا عن ضوضاء الحياة العاديّة، حتى نستطيع أن نستقبل الأمور الروحيّة التي نحن بأمسّ الحاجة إلى فعلها. وهكذا نرى أنّ المسيح صعد إلى الجبل وجلس «وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ ...».[1] فهو يُريد أن يتقدّم إليه تلاميذه لكي يسمعوا أمرًا جديدًا، شيئًا يقودهم إلى النموّ والارتقاء في الفضيلة. إذ كانت الناس تلهث فقط خلف المُعجزات، فهم قد اشتاقوا مُنذ تلك اللّحظة أن يسمعوا أمرًا عظيمًا يُغيّر سُلوكهم، ويطبع فيهم هويّة المسيح. وكان هذا فعلًا هو السبب الذي جعله يجلس ليُعلِّمهم، ويبدأ معهم هذا الحديث.
من هُم الودعاء؟
يبدأ السيد المسيح هذه العِظة بالتطويبات، وعددها تسعة.[2] يُذكِّر بها المسيح ما قطعه من وعودٍ لشعب إسرائيل منذ إبراهيم (عليه السلام)، مُكمِّلا إيّاها إلى التمتّع بملكوت الله، مُظهرًا الفُقراء والودعاء والمحزونين والرحماء والساعين إلى السلام كأصحاب السعادة في الأرض وفي المَلكوتَ السماويّ. فيقول الربّ «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ».[3]
ماذا يقصد المسيح بالودعاء؟
قد يظُنّ الناس أنّ الوديع هو الإنسان الفاقد لكلّ شيء، ولكن نرى الربّ يقف على النقيضٍ من هذا المفهوم. فالوداعة في حقيقتها لا تنشد الاستكانة بمفهومها العام، بل هي قوّة الروح الداخليّة بالمفهوم الروحيّ الصِرف. فالوديع بالنسبة للربّ هو من يمتلك خيراته بأمان، لأنّه يعرف أن يمتلك وعود الله بكلّ فرحٍ وسلام. أحداث الزمن وتحديات الحياة لا تُربكه، لأنّه مُعَدّ أن ينظر دائمًا إلى المُجازاة السماويّة في الحياة الأخرى.
يقول الوحي المُقدّس عن النبيّ موسى:
«حَاسِباً عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ».[4]
فلقد أدار ظهره لخزائن مصر. فوداعة الإيمان أهّلته لرؤية كنوز مصر الخياليّة، غير مُجديةٍ في ضوء الحياة الأبدية مع الله. وهكذا اختار أن يُكابِد صنف العار نفسه الذي سيُعاينه المسيح فيما بعد، لأنّه يعلم أنّ هذه الأمور، لا سواها، هي التي ستبقى لها قيمتها بعد دقيقةٍ واحدةٍ من موته.[5]
هكذا نرى أنّ أنبياء العهد القديم مثل داود غالبًا ما قالوا
«أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ».[6]
فبفضل الوداعة أصبحت نعمة الصبر والانتظار مُتاحة في حياتهم فوق كلّ الظروف. لذلك استحقوا أن يرثوا المواعيد والبركات المُعدّة لهم. يقول الرسول يعقوب في رسالته:
«هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ».[7]
فالوداعة هي التي تكتفي بالخير الذي يمنحه الله وتَسعد بحمده ورضاه، وأصحابها هم الذين لا يتذمّرون ولا يشكون من شيء، ولا ينظرون للجانب المُعتم؛ بل دائمًا يُفسِّرون مصائب الحياة بما يُشجِّع ويُقوّي ويُفرِح. هُم الذين عمرت قلوبهم بالإيمان، وانشغلت أيديهم بأعمال الرّحمة والإحسان.[8]
ما المقصود بـ "يرثون الأرض"؟
رأينا الله يُعِدُ شعبه منذ أيام نبيه إبراهيم بإعطائهم أرضًا جديدةً، ولكنّ الهدف من ذلك كان لأجل عبادة الله. فأرض الميعاد لم تكُن وسيلةً ليعيش فيها الشعب عيشًا هنيئًا فحسب، بل قبل أيّ أمرٍ ليَتمكّنَ من عبادة الله بحُريّة. فنرى نبيه موسى في سفر الخروج -في التوراة- يطلُب من فرعون مصر بطلبٍ من الربّ
«قَلْبُ فِرْعَوْنَ غَلِيظٌ. قَدْ أَبَى أَنْ يُطْلِقَ الشَّعْبَ، فاذهبْ إلى فرعونَ في الصباح وقُلْ له: الرَّبُّ إِلهُ الْعِبْرَانِيِّينَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ قَائِلًا: أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي فِي الْبَرِّيَّةِ».[9]
وكلّنا يعلم أنّ اختيار الله لشعبٍ مُعيَّنٍ ليس ليُسيطر على سائر الشعوب، بل ليَعبُدَ الله، وينشر في العالم حقه وعدله وسلامه. انطلاقًا من هنا، اتّخذ تشتّتُ اليهود معنَا جديدًا وإيجابيًّا، حيث كان شعب إسرائيل مُشتَّتًا في العالم، حتى تنتشر معرفة الله في كل الأرض، ويتمم هدف الخلق. فإذا كان هناك مَن خلق، فلأنّ ﷲ شاء أن يُبدِع مكانًا يستجيب فيه الناس لحُبّه، ويكون موطنًا تسود فيه الطاعة له. شيئًا فشيئًا، ومن خلال الإخفاقات والنجاحات التي تُرصِّع تاريخَ علاقات شعب إسرائيل بالله، تَوسَّعَ مفهومُ الأرض وتعمّق، ولم يعُد المقصود امتلاك وطنٍ بقدر ما صار شموليّة حقّ الله على العالم، ونشر السلام بين جميع النّاس. ويقول لنا الربّ في نهاية المطاف، إنّ الأرضَ هي للودعاء، لصانعي السلام، ويجب أن تُصبح وطن مَلِك السلام.
ومن ثمّ، مع مجيء السيد المسيح، لم تعُد أرض الميعاد مكانًا ماديًّا يحلم أبناء الشعب المختار باحتلاله، بعد أن يطردوا منه السُكّانَ الذين عاشوا فيه مدّة قرون. أرض الميعاد هي ملكوتُ الله، أعني حضور الله في العالَم. والخروج من عبوديّة فرعون والدخول إلى أرض الميعاد، تلك الأرض التي يرثُها الودعاء، يتحقّق هذا في العهد الجديد بالتخلّي عن الاستعباد للشهوات، ولا سيّما شهوة العُنف، والدخول إلى الاتّحادِ بالله والحياةِ معه، حياة نعبد فيها الله بحُريّة، حياة يسكُنها السيد المسيح (كلمة الله الأزليّ)، وتُنقّيها الله بقُدرة روحه القُدّوس.
ما علاقة الودعاء بهذه المُكافأة؟
ثمّة وعدٌ في الكتاب المُقدّس يقول:
"يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ الصِّدِّيقُ وَكَثْرَةُ السَّلاَمِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ الْقَمَرُ».[10]
ثمّ يتكلّم عن عددٍ مُحدّدٍ من الصدّيقين الأبرار في الأرض، يزهرون فيها كما لو كانوا سيرثونها، فيقول الكتاب
«تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي الأَرْضِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ. تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا وَيُزْهِرُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ الأَرْضِ».[11]
وبما أنّ الله أمين لكلامه، فسيحرص على أنّ الميراث الموعود به لن يكون مُتاحًا فحسب، بل سيُرَدّ بكلّ بهائه أيضًا. كما تُخبرنا أيضًا كلمة الله أنّه في العالم الجديد الموعود به أنّ الله
«سَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ».[12]
ولكن من سيحظون بهذا الميراث الرائع؟ تأمّل فيما قاله السيد المسيح مرة أخري:
«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ».
الخُلاصة
الوديع هو الذي يقبل بتواضعٍ مقاييس الله في كلّ مجالات حياته الخاصة. فهو لا يُصرّ على العمل وفق منظوره الشخصيّ، أو آراء الناس الآخرين، بل هو مُتمسِّك بالله وبوعوده. والوداعة فضيلة نتدرّب عليها في الحقّ، فتقودنا إلى السلوك في طُرق الله، ومن ثمّ تحقيق وعوده. يقول النبي داود:
«يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَه».[13]
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] (إنجيل متّى 5: 1).
[2] (إنجيل متّى 5: 1 – 12).
[3] (إنجيل متّى 5: 5).
[4] (رسالة العبرانيين 11: 26).
[5] وليم ماكدونالد، تفسير رسالة العبرانيين، تمّ الاطلاع عليه في 14/4/2023. متاح على، https://2u.pw/vwQFHV
[6] (مزامير النبيّ داود 37: 11).
[7] (رسالة يعقوب 5: 11).
[8] وليم مارش. السُنن القويم في تفسير العهد القديم، تفسير سفر المزامير، تمّ الاطلاع عليه في 14/4/2014. مُتاح على، https://2u.pw/Tt2oDP
[9] (سِفر الخروج 7: 14 -16).
[10] (مزامير النبي دواد 72: 7)
[11] (مزامير النبيّ داود 72: 16).
[12] (سِفر الرؤيا 21: 4).
[13] (مزامير النبيّ داود 25: 9).