
أعمال وتعاليم المسيح >
القصة المسيحية- الموعظة على الجبل- الصدقة (ج2)
د. إسحق عصام
6/1/23 - ٥ دقيقة قراءة
-
الخلفية اليهودية لفهم معني البر:
في السطور التالية سنحاول أن نفهم نوعًا ما معني البر والعدل. نعم، كنت أقصد الرجوع لهما بالتبادل مرارًا وتكرارًا. ربما في اللغة العبرية " צדק , Tzedek "هي الكلمة التي نعنيها بالبر. العقل اليهودي لا يستطيع بشكل كبير الفصل ما بين البر والعدل، ربما نحن في ثقافتنا اليوم لنا مرادفين، من السهل لنا توظيفهما في أُطر مختلفة. لذلك ربما أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع كلمة العدل هو تخيل أُناس تحت سقف أحد المحاكم.
البر في العقل اليهودي الأصيل هو أن تفعل ما هو صحيح تجاه شخص آخر، أي أن تكون في علاقة صحيحة مع الآخر من خلال بعض الأفعال الأخلاقية، عندما تكون تلك الأفعال الأخلاقية في الاتجاه الصحيح. أن تكون في ذلك الموضع هو العدل بذاته. هنا العلاقة مع الآخر ليست فقط صحيحة لكنها عادلة أيضًا.[1]
فكّر في الأمر ستجده بدأ أن يلمع شيئًا فشيئًا، البر مصطلح علاقاتي عن كونك في علاقة صحيحة مع مَنْ حولك في إطار اجتماعي ما[2]، العدل هو أن تلتزم بما يجعل تلك العلاقة تستمر في أن تكون صحيحة مع الآخر. ألا تزدري انسانًا آخر لأنه مخلوق على صورة يهوه[3] مثلك، هذا هو البر. أن تُحاسب إذا ازدريته، فهذا هو العدل الذي يحافظ على أن تظل تلك العلاقة صحيحة. ربما الآن نبدأ أن نفهم لماذا تبدو الكلمتان متبادلتان في أحيان كثيرة.
لكن هناك بُعدًا آخر أريد أن أطرحه، في إطار فكري كالقرن الأول، والتي جاءت فيه الموعظة على الجبل لعقل يهودي يؤمن بعلاقة عهدية مع إلهه يهوه، يبدو أن البر يأخذ هنا بُعدًا ثانيًا وهو أن تكون مخلصًا للشخص الذي أعطيت ولاءك له.[4]
إذًا، فإن جاز لي التعبير فهناك بُعد أفقي للبر مع الآخر، كما شرحناه، يبدأ بالظهور في مقدمة العنوان الأول "المسيح والتوراة" (متى 5: 17- 48) من خلال ستة أمثلة[5] ليست مفادها في المقام الأول قانونًا أخلاقيًا جديدًا، لكن مفادها هو أن يفتح أعينهم على ماهية البر الحقيقي داخل الوصية التي في التوراة. أما البعد الرأسي فيبدأ أن يظهر في مقدمة العنوان الثاني "المسيح والعبادة" (متى 6: 1-18) من خلال ثلاثة أمثلة (الصدقة، الصلاة، الصوم) يريد فيها أن يؤكد على أن ولاءك الأول في إطار عهدي مع يهوه ليس لأن تنال رضى الناس، بل أن تكون في علاقة صحيحة مع يهوه، أن تكون في بر معه. البعد الأول -الأفقي- خارجيًا مع الأفعال، أما الثاني -الرأسي- داخليًا مع الدوافع[6].
في قلب الموعظة على الجبل (متى 6: 1- 18)، ما بين العنوان الأول (المسيح والتوراة) والثالث (المسيح والقضايا المجتمعية) هو العلاقة كما ينبغي أن تكون، العلاقة التي فيها تكون في استقامة مع يهوه الخالق، من له ولاءك الأول والأخير.
يُعلّق أيضًا أستاذ العهد القديم ويليام دايرنيس على هذا المفهوم قائلًا:
"...البر هو مصطلح علاقاتي، يفترض ضمنًا مسئوليات تأتي في إطار هذه العلاقة... هذا هو المعني بالبر، أن يُظهر طبيعة ما تدعو إليه كل علاقة... البر له شخصية واضحة وصلبة؛ أنه تغيير خارجي (البعد الأفقي)، كما أنه تغيير داخلي (البعد الرأسي)."[7]
من هنا نبدأ أن نفهم لماذا يبدو ما يطلبه المسيح في العدد الأول من الإصحاح السادس معقولًا، ما هو صحيح، وما هو بر في إطار هذه العلاقة ما بين يهوه والانسان، ألا يسعى الأخير في المقام الأول لرضى الناس، بل لقبول ومصادقة يهوه عليه قبل أي أمر آخر كما هو مفهوم من التطويبة الأولى.[8]
إذًا ماذا حدث؟ إذا كان من المفترض للإنسان اليهودي الذي يعيش في القرن الأول أن يكون بالطبيعة يفعل ما حاولنا طرحه؟
يطرح أستاذ العهد القديم ويليام دايرنيس قائلًا:
"في فترة ما بين العهدين، خضع مفهوم البر لتغيّر هام. مفهوم ورؤية الأنبياء يبدو أنها تحوّلت إلى نوع من الطاعة العمياء، العدل أيضًا أصبح مفهومًا فرديًا، كل شخص يفعل ما يراه مناسبًا طبقًا لرؤيته للشريعة... في غضون هذه الفترة، أصبح معنى البر بالنسبة للشخص هو أن يعطي صدقته فقط في حدود ما في الشريعة، مع عدم الأكل والشرب بأيادٍ غير نقية... أمام هذا التضييق في مفهوم البر، تكلم المسيح بشكل صارخ في متى 5: 20."[9]
لذا قال السيد المسيح:
"إن لم يزد ولاءكم ليهوه الذي أنت معه في عهد عن الكتبة والفريسيين لن تستطيعوا أن تكونوا في مملكة السماء هذه."[10]
إذًا فما قاله المسيح عن الصدقة ليس في المقام الأول عن طاعة الوصية، لأنه يفترض أنه فعل حادث في الأساس بقوله "فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً.." وليس "إذا صنعت صدقة". لكن لمَنْ ولاءك وأنت تقوم بإعطاء الصدقة. هل لمصادقة الناس عليك أم لمصادقة يهوه؟
بغض النظر عن كم هو واسع معنى
"فَلَا تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي ٱلْأَزِقَّةِ.."
البعض يقترح أن التعبير هو لغة بلاغية، أما الأكثر فيعتقد أنه ربما كان هناك صناديق في الهيكل على شكل قرن -كان القرن هو الآلة التي يُبوَّق فيها- يعطي صوت المال وهو يدخل من خلاله رنينًا يُلفت الأنظار إليه، أو الرأي الآخر الذي يشير إلى أنه بالفعل كان هناك أوقات يُصوّت فيها بالبوق للصلاة قائمين في الشوارع لأجل المطر، وفي مثل هذه المواسم كان إعطاء الصدقة -مع الصوم والصلاة- يمنح مجالًا أكثر للظهور والتباهي ونوال القبول والمصادقة من الناس. يبدو أن الشرح الأخير يعطي تصورًا شاملًا عن وجود الثلاثة أمثلة (الصدقة والصلاة والصوم) كصورة حية يتقابل معها السامع لهذه الكلمات مع حقيقة اختلاس ولاءه من يهوه إلى الناس.
بغض النظر عن إلى أي شرح تميل هنا، فالسؤال الأعمق يظهر فيهم كلهم.[11]
سأختتم حديثنا ببعض الكلمات عن تلك العبارة الهامة "كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ.." التي وردت في النص. قدَّم أستاذ الفلسفة روجر كريسب ومعه كرسيتوفر كوتون أطروحة تستحق الانتباه بعنوان "الرياء والجدية الأخلاقية" فيها أعطيا لنا شرحًا لمعنى الكلمة في اللغة اليونانية ـوهي نفس الكلمة المستخدمة هنا في النص بحسب البشير متى[12]- ثم شرحا أربعة أشكال مختلفة للرياء. لكن في نهاية حديثهم ذكرا طرحًا رائعًا عما هو المشترك بين الأربعة أشكال؟ وعن كيف يُمكن لنا، إن جاز التعبير، أن نجد ترياق واحد لهم جميعًا؟[13]
فيقولا الآتي:
"يمكن لنا أن نتجنب كل أشكال هذا الفشل (الرياء) إذا أخذ الشخص على محمل الجد العلاقة بين نفسه والقانون الأخلاقي... هذا يشرح كثيرًا عما هو حقًا سيء في الرياء... المكتفين بذاتهم أو الراضين عن أنفسهم هم مراؤون لأنهم يحمون رضاهم واكتفاءهم بذاتهم من النقد... قانونهم الأخلاقي - سأضع هنا البر المُمثّل في الصدقة كما شرحناه- هو بالنسبة لهم جزء في الحياة. مجموعة من الواجبات التي تؤدَى كالواجبات المنزلية. هذا ليس معناه بالضرورة أنهم غير مُخلْصين، بل على العكس يبدو لهم أن ما يفعلوه، يفعلوه بنية جادة وأصيلة. لكن ما يجعل اهتمامهم رياء هو طبيعة قانونهم الأخلاقي (برهم) السهل والبسيط الذي لا يطالبهم بالكثير ولا يجعلهم راغبين (بعمق) للتأمل والتفكير فيه."[14]
أعتقد أن هذا الطرح في غاية العبقرية. المسيح يُحذّر هنا من الانشغال بالضجيج الذي يأخذ أعين الناس عليك. ستأخذ ما تريد إذا كان كل ما أردته هو الرضا عن نفسك من أعين الناس
"إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!"
لكنه يدعو لأن تكون في السر بينك وبين يهوه الذي ولائك له.
"لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ"
ربما أكثر ما يميز الخفاء هو الهدوء. في هذا الهدوء يمكن أن تكتشف بالفعل إذا كنت صادقًا أم لا، في هذا الهدوء يمكن أن يبرز ويلمع أمامك يهوه، وتبدأ أن تسأل الأسئلة الأعمق في الحياة؟ الأسئلة الأكثر تعقيدًا؟ لمن ولاءي حقًا؟ ربما البر الحقيقي من خلال هذه الصدقة التي في الخفاء يُقرّبني أكثر فأكثر مما هو صحيح، وما يجب أن يكون في علاقتي بيهوه. ربما في الخفاء أكون نفسي أكثر، أكون الانسان المُبارك والمُصادَق عليه داخل هذه المملكة [15]، وربما عندئذ تكون تلك هي المكافأة
"فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ."[16]
في النهاية أطلب منك أن تذهب إلى كلمات كورديليا في مسرحية " الملك لير" في مقدمة حديثنا بالجزء الأول. أقرأ هذه الكلمات بتمعُّن مرة آخرى، ولكن فكّر في أن تلك الكلمات الآن حديثها موجه لكل ما يحاول أن يسرق ما هو بر وما هو عدل.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] Jon Collins & Tim Mackie; “Justice P4”; “Justice Q+R”; Podcast Date: December 20, 2017;
[2] Jon Collins & Tim Mackie; “H2R Law E6 Final” ; “Law Q&R” transcript ; Podcast Date: June 3, 2019;
https://d1bsmz3sdihplr.cloudfront.net/media/Podcast%20Transcripts/TBP%20Transcripts/h2r-law-e6law-qr-transcript.pdf
[3] اسم من أسماء الله في العهد القديم ويعني (الإله حافظ العهد).
[4] المرجع السابق
[5] الست أمثلة هم: "القتل، الزنا، الطلاق، القسم، مقاومة الشر، محبة العدو ستجدهم في (متى 5: 21- 48(
[6] The Sermon on The Mount by Dale C. Allison Jr; Inspiring the Moral Imagination; The Crossroad Publishing Company, NewYork 1999.
[7] “Themes in Old Testament Theology” by William Dyrness; InterVarsity press USA 1977.
[8] هنا اقترح أن تعود إلى مقالتين بعنوان التطويبة الأولى "طوبى للمساكين بالروح" فيها تكلمت باستفاضة عن فلسفة وطبيعة العلاقة بين يهوه والانسان في هذه المملكة، مملكة السماء التي يدعو إليها المسيح في الموعظة على الجبل.
[9] “Themes in Old Testament Theology” by William Dyrness; InterVarsity press USA 1977.
[10] “H2R Law E6 Final” ; “Law Q&R” transcript ; Podcast Date: June 3, 2019;
https://bibleproject.com/search/#?cludoquery=Righteousness%20&cludopage=2&cludorefurl=https%3A%2F%2Fbibleproject.com%2Fpodcast%2Fjustice-q-r%2F&cludorefpt=Justice%20Question%20%26%20Response&cludoinputtype=standard
[11] The Expositor Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By The Zondervan Corporation. The Gospel According To Matthew By D. A. Carson.
[12] كلمة "مراؤون" أو رياء المستخدمة في إنجيل متى والأطروحة هي الكلمة اليونانية (hypokrites) والتي تعني مُمثِّل على خشبة المسرح. بحسب دَيل كارسون "مَن يلعبون الأدوار وكأن العالم هو خشبة مسرحهم".
بحسب أستاذ العهد الجديد أر تي فرانس فإن النقد لأي دور تمثيل يأتي من الجمهور بالدرجة الأولى، وليس من صاحب الدور وهذا يتماشى مع أطروحة روجر كريسب وكرسيتوفر كوتون. هذا عكس ما أراده المسيح من فكرة الخفاء والهدوء التي شرحناها.
للمزيد من التفاصيل يمكنك الرجوع إلى:
*The Expositor Bible Commentary, Volume 8 (Matthew, Mark & Luke) 1984 By The Zondervan Corporation. The Gospel According To Matthew By D. A. Carson.
*The New International Commentary on The New Testament; “The Gospel of Matthew” by R. T. France (2007)
[13] Crisp, R., & Cowton, C. (1994). “Hypocrisy and Moral Seriousness”. American Philosophical Quarterly, 31(4), 343–349. http://www.jstor.org/stable/20009796
[14] المرجع السابق
[15] هذه الفكرة في مقالتين بعنوان التطويبة الأولى "طوبى للمساكين بالروح"
[16] هنا يقترح دَيل كارسون أن كلمة "علانية" جاءت بالتضاد لتوضيح الفكرة مع كلمة "في الخفاء"، لكن في الأصل، النص يقف عند "يُجازيك". دلالة هذا الأمر هو أن المسيح لم يحدد طبيعة وشكل المكافأة، الكلمة اليونانية المستخدمة هنا لكلمة يُجازيك هي (apodidomai) مختلفة عن كلمة "استوفوا أجرهم" في العدد الثاني. يُجازيك هنا تحمل الفاعل في الصورة، يهوه، والفعل يحمل نوع من المقايضة، على عكس الفعل في العدد الثاني والذي يعطي معنى أُجرة مأخوذة نتيجة فعل ما. للمزيد من التفاصيل يمكنك الرجوع إلى:
The New International Commentary on The New Testament; “The Gospel of Matthew” by R. T. France (2007)
اقترح أن معنى المقايضة هنا في هذا الفعل، هو أن هناك أمرًا ما ستسترده، مكافأة في نظر المسيح، أن صرت في علاقة صحيحة مع يهوه، وربما في إطار الموعظة على الجبل ككل، تكون المكافأة أنك ستدرك مدى مجازاة أنك انسان داخل مملكة السماء هذه شيئًا فشيئًا.