
قصة المسيحية >
القصة المسيحية- الحل في المسيح
كريستين روماني
2/16/23 - ٥ دقيقة قراءة
بعد أن قرأنا في أجزاء سابقة كيف أن الله خلق الإنسان على صورته، في تناغم معه ومع الخليقة في جنة عدن، المكان الذي يلتقي فيه الله بالإنسان ليتقرب منه. ورأينا كيف اختار الإنسان أن ينفصل عن الله ليكون هو مصدرًا لقراراته وإلهًا لحياته، وكيف طُرِد الإنسان من المكان الذي كان يتصل فيه بالله وتشوهت صورة الله فيه. لم يفشل الله في مشروع الإنسانية، بل ظل يقترب من البشر في صورة عهود أتمها مع رجال أختارهم واختاروه، ليكون إلهًا لهم، وليكونوا أنبياؤه.
على مر العصور فشل الإنسان في الثبات على قراره بإتباع الله، وتغلغل الشر في أعماقه، وتوغل التشوه في إنسانيته، فأصبح اقترابه من الله القدوس أصعب يومًا بعد يوم. حاول الله تعليم البشرية من خلال أنبياؤه أنه إله قدوس لا يقبل بالشر ولا يسمح بالتهاون والاستباحة، وأن محبته وعطفه لم ولن تتركهم لفسادهم. الله قدوس وقداسته جميلة، ولكن الاقتراب منها له محاذير[1]، لذا كان الشعب في القديم عليه أن يتطهر ويمارس الكثير من الطقوس حتى يستطيع أن يتقرَّب من الله، ولكن كل محاولات التطهّر هي محاولات شكليَّة فقط، فقد فشل الإنسان في تتميم شريعة الله، وبالتالي فشل في الاقتراب منه.
ولأن الله كان يعرف أن كل محاولات البشر فاشلة، ولا يمكنهم بسبب ضعفهم أن يتقربوا منه، اتخذ الله أكثر القرارات محبة وهو أن يبادر هو بالاقتراب من البشر، ليعرفوه كما هو بدون وسطاء -كالأنبياء-، حتى إذا ما اقترب منهم، استطاعوا أن يقتربوا منه. هذه المبادرة الإلهية هي ما نسميها بالتجسد. فقد أرسل الله كلمته لنا بشرًا سويًا، فلكي يستعيد الإنسان كونه على صورة الله، جاء الله في صورة البشر، فقد اتخذ كلمة الله جسدًا ليُبطل الموت والفساد بموته في هذا الجسد، ويعطيه بقيامته حياة جديدة. ولأن النتيجة الطبيعية لفساد الإنسان هي الموت، بسبب انفصاله عن مصدر الحياة، فكان لابد أن يدخل الله ليُنقذ الإنسان من موته وابتعاده، ويعيده إليه.
"فلقد أدرك الكلمة جيدًا أنه لم يكن ممكنًا أن يقضى على فساد البشرية بأي طريقة أخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير الممكن أن يموت الكلمة، لأنه غير مَائِت... ولهذا اتخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت، حتى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة يُصبح قادرًا ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به."[2]
قد يتساءل البعض، ولما كل هذا ألم يكن كافيًا أن يتوب الإنسان ويعود إلى الله وتعود العلاقة كما كانت فالله غفور رحيم!
أعتقد أن هذا السؤال يحتاج لمراجعة ما سبق ذِكره عما فعلته الخطية في الإنسان وكيف تشوهت صورة الله فيه. فالخطية ليست مجرد فِعل أخلاقي سلوكي، يُمكننا أن نتراجع عنه، وإنما طبيعة متجذرة ما يُعرف ب "النفس الأمارة بالسوء" أو ما نسميه نحن كمسيحين "الإنسان العتيق". فهذه النفس لن تكُف عن الرغبة في الاستقلال بأهوائها وشهواتها مُبتعدة عن الله، ومهما قدم الإنسان من توبة نصوحة ستظل نفسه تأمره بالسوء، وتقوده إليه، فمَن يعيد نفسنا إلى حالتها الأولى المخلوقة عليها لتكون بالقرب من الله وعلى اتصال به، مَن يعيد الإنسان على صورة الله[3]، إلا الله نفسه[4]! كما أن التوبة هي إعطاء وعد بعدم تكرار الخطأ في المستقبل، ولكن مَن يُصلح ما أفسدته في الماضي، مَن يُعيد حقوق من تعدَّت عليهم، وسحقتهم! لذا فإن التوبة وحدها ليست كافية.
ولأن الإنسان لا يقدر أن يفعل شيًء لإصلاح الوضع، -لا التوبة ولا غيرها-، ولم يستطع أن يتحرر بفعل شريعة أُرسِلت من الله مع أنبياؤه، بل زادت الشريعة الوضع سوءًا، حيث فضحت شر الإنسان أكثر، وأثبتت تعديه، وأظهرت بُعده وانفصاله. كان لابد أن يتدخل الله.
لذا فإن كلمة الله الحامل للجوهر الإلهي، اتحد ببشريتنا، مُمَثلة في السيد المسيح، واستطعنا فيه أن نعرف الله، ونقترب منه. عاش بينا كالإنسان الكامل ليرد إنسانيتنا المشوهة ويعرفنا معناها وغايتها، فنراه في اتصال دائم بالله، يقدم الحب والقبول للكل، ينتصر على الشر بقوة ورفقة روح الله معه، فرأينا فيه مُبتغى الحياة التي يجب أن نحياها، ورأينا فيه الصورة الكاملة التي يجب أن نتشبه بها.
لكنه لم يكن مجرد إنسان، بل هو الله الظاهر في الجسد، وهذه الحقيقة التي كثيرًا ما تعرضت للهجوم والنقد، هي أساس إيماننا المسيحي.
لذا ما سيتم مناقشته في الأجزاء القادمة هو سرد لبعض الشُبهات التي تدَّعي كون السيد المسيح مجرد إنسان لا إله بسبب اقتطاعها لأجزاء من آيات الكتاب المقدس، دون فهم للإطار الذي قالها فيه السيد المسيح. كما سنتعرض للمعجزات التي أمتاز بها السيد المسيح، والتي تُعلن أنه ليس مجرد إنسان عادي مؤيد من الله، بل أنه متفرد عمن سواه من الأنبياء، فهي تعلن سلطانه على عناصر الحياة (المادة، المسافة، الكم، الزمن، الطبيعة، الجينات، ونسمة الحياة).
وسنناقش أيضًا وعظته الشهيرة التي جاءت في الانجيل بحسب تدوين البشير متي، والتي نُلقي عليها عنوان "الموعظة على الجبل"، وهي سلسلة من التعاليم التي ترتقي بالإنسانية عما تعودت عليه، بحيث يقدم السيد المسيح معيارًا أعظم للإنسان المتحد بالله، وللحياة التي تسحق أن تُعاش، مُعيدًا صياغة الكثير من التعريفات لدينا، ومُصححًا للمفاهيم المغلوطة التي تشوهت عبر الزمن، لا ليعيد الإنسان لصورة أدم الأوليّة، لكن ليرتقي به إلى صورة كلمة الله المتجسد.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا: