استهلال

   يقوم الإيمان المسيحيّ على أساسٍ جوهريٍّ وثابتٍ وهو كلمة الله المُقدّسة. والكلمة المُقدّسة هي التي تُشكّل لنا إيماننا، وتبني عقيدتنا، وتصوّرنا عن ماهيّة الخالق، وتُعلن لنا وصاياه وتعاليمه ومشيئته لنا. فالكتاب المُقدّس يحوي عدّة كتابات من حقبٍ زمنيّةٍ مُختلفة، إذ سجّل لنا بداية الخلق وتعامُلات الله مع الخليقة مُنذ آدم وحتّى بعد صعود المسيح، بما يتضمّن رحلة الله مع شعب إسرائيل. ينقسم الكتاب المُقدّس إلى جُزئين، الأوّل وهو العهد القديم، أي كلّ الأحداث والتعاليم وتعامُلات الله مع شعبه وأنبيائه مثل نوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان، وغيرهم من الأنبياء (سلام الله عليهم). يتكوّن الجزء الأوّل من التوراة وهي أسفار موسى الخمسة، وقصص الأنبياء وتعاليهم لأقوامهم. أمّا العهد الجديد يتكوّن من إنجيل المسيح الذي تضمّن قصّته وتعاليمه وأفعاله، وكتابات صحابته وتابعيه.

 

ترابُط العهدين

   كمسيحيّين نؤمن بوحدة هذا الكتاب المُقدّس، بعهديه القديم والجديد ككيانٍ واحدٍ يُكمّل بعضه البعض، ويشرح بعضه البعض. فالمسيح أتى في ثقافةٍ يهوديّةٍ تؤمن بالعهد القديم، بل هو نفسه أكّد على أهمّية العهد القديم، وأوضح أهدافه، وأغنى تعاليمه للنّاس. لذلك لا يُمكننا الفَصل بين العهد القديم والعهد الجديد، أو أن نتجنّب العهد القديم بزريعة أنّه قديم، وأنّنا في العهد الجديد، عهد المسيح. بالعكس، فالعهد القديم وجوده بمثابة شاهد عيان عن صدق إيماننا في المسيح. فكلّ عقيدةٍ حول المسيح في العهد الجديد لها أساس قويّ مُرسّخ في العهد القديم، وهو ما نطلق عليه (النبوءات)، أي تنبّؤ الأنبياء السابقين عن مجيء المسيح وصفاته وأعماله. وعندما نقرأ العهدين معًا نستطيع بوضوحٍ التلامُس مع تحقيق النبوءات القديمة في شخص المسيح وحده؛ وهذا ما سنتطرّق إليه في هذا المقال.

 

شهادة المسيح على النبوءات

   في نصوصٍ عديدةٍ داخل العهد الجديد أكّد المسيح بنفسهِ -وليس على لسان تابعيه- بأنّه هو المقصود حقيقةً بنبوءات العهد القديم. وتأكيد المسيح هنا كنوعٍ من التّذكير للنّاس، فكان المسيح يستخدم عبارات مفتاحيّة بمثابة (كلمة السرّ) وهي مثل: (مكتوب) أو (قيل) أو (سمعتم) ويقصد بها هنا أنّه مكتوب في العهد القديم كذا وكذا عنّي... أو قيل في العهد القديم كذا وكذا عنّي... أو سمعتم في العهد القديم كذا وكذا عنّي... ونأخذ على سبيل المثال عدّة نماذج ممّا أورد المسيح عن نفسه تحقيقًا لنبوءات العهد القديم عنه.

 

ظهور ما بعد القيامة

   يحكي لنا الإنجيل أنّه عندما ظهر المسيح في يوم قيامته من القبر للتلميذَين المُسافرين إلى منطقة فلسطينيّة تُدعى عمواس دون أن يعرفاه، فبكّتهُما على تشكيكهما في أخبار قيامته، فَقَالَ لَهُمَا:

«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ».[1]

فهنا أعاد المسيح لهما الذّاكرة من جديدٍ، بمعنى تذكّروا ما ورد عنّي في الكُتب السابقة، إنّه قد تحقّق في تألُّمي وصلبي وموتي وقيامتي.[2]

 

عبارة ابن الله

   يحكي لنا إنجيل البشير متّى عند إحدى حوارات المسيح مع اليهود، حيث كان قد أعلن للتوّ أنّه ابن الله.[3] وكان ردّ فعل اليهود غير المؤمنين أنّهم اتهموه بالتجديف، وهي تُهمة عظيمة، لأنّه قال: إنّه ابن الله (الآية 33). بعد ذلك اقتبس المسيح من (مزمور 82: 6)

«أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ»،[4]

مذكّرًا اليهود أنّ الناموس يُشير إلى البشر – إن كانوا أصحاب سُلطة ومركز – بأنّهم "آلهة". كان المسيح يُريد أن يقول هنا: أنتم تتهمونني بالتجديف لأنّني استخدمت تعبير "ابن الله"؛ بينما كُتبكم (العهد القديم) تستخدم نفس التّعبير للإشارة إلى الحُكّام بصورةٍ عامة. إذا كان يُمكن أن يُعتبر من يشغلون منصبًا مُعيّنًا من الله أنّهم "آلهة"، إذًا كم بالحري الشخص الذي اختاره الله وأرسله.

لذلك أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ».[5]

فالمسيح وضع أمامهم الحجّة، بأنّ استخدامه لعبارة ابن الله، ليس تجديفًا كما اتّهموه، لأنّ العهد القديم نفسه الذي استشهد به استخدم كلمة (آلهة) للبشر. الشاهد هنا هو ارتباط المسيح بنصّ العهد القديم، وذلك باستخدام عبارة (أليس مكتوبًا؟) وبالتالي (لا يُمكن أن يُنقَض المكتوب).

 

حجز الزاوية المرفوض

   يحكي لنا إنجيل البشير مُرقس، عن حوارٍ آخر بين المسيح واليهود. فينما يُحاول المسيح مرّات عديدة يُعلن لهُم عن ماهيّته، يواجه بالرّفض وعدم القُبول من البعض، فأعاد بذاكرتهم لمفهوم في غاية الأهميّة في العهد القديم، وورد في أكثر من نصٍ، وهو مفهوم (حجر الزاوية) وقال:

«أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟».[6]

حجر الزاوية هو الحجر الرئيس الذي يوضع في زاوية البناء، والذي من خلاله يوجّه العُمّال إلى مسار البناء، وبدونه يفشل البنّاؤون في بنائهم تمامًا. لذلك الكتاب المُقدّس يصف المسيح بأنّه حجر الزاوية الذي ستُبنى عليه كنيسته. إنّه الأساس. بمُجرّد وضع حجر الزاويّة، يُصبح الأساس في تحديد كلّ قياسٍ في باقي البناء؛ ويتمّ ضبط كلّ شيء وفقًا له.[7]

فبالعودة إلى نصوص العهد القديم نجد أنّ المسيح قد اقتبس هذا المفهوم من سفر إشعياء النبيّ، والذي يقول:

«لِذلِكَ هكَذَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: «هأَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرًا، حَجَرَ امْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيمًا، أَسَاسًا مُؤَسَّسًا: مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ».[8]

أيضًا نبيّ الله داود يُكرّر هذا المفهوم بحرفيّته ويقول:

«الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ».[9]

إلى الآن تكلّم المسيح عن نفسه باعتباره حجر الزاوية الذي ورد في نصوص العهد القديم. سننتقل معًا إلى شهادة الاتباع حول مفهوم حجر الزاوية.

 

شهادة الأتباع

   نمُرّ في عُجالةٍ إلى شهادة أتباع وتلاميذ المسيح عنه بخُصوص هذا المفهوم. بعد صعود المسيح وفي مشهدٍ مهيبٍ قام بُطرس -أحد صحابة المسيح- ونهَر اليهود موبّخًا إيّاهم على قتل المسيح، ويُذكّرهم قائلًا:

«هذَا هُوَ: الْحَجَرُ الَّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا الْبَنَّاؤُونَ، الَّذِي صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ».[10]

الرسول بولس أحد أتباع المسيح، شجّع المؤمنين المُضطهدين المنبوذين في مُجتمعهم الذي يرفضهم مثلما رُفِض المسيح قائلًا:

«فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلًا مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا للهِ فِي الرُّوحِ».[11]

هذا النصّ الأخير بالتأمُّل فيه يتجلّى لنا بوضوحٍ حقيقة المسيح، الذي تحقّقت فيه إشارات ونبوءات الأنبياء في العهد القديم. اللّافت للانتباه هنا: أنّ أزمنة الكتابة مُختلفة، الكُتّاب مُختلفون، إشعياء لم يرَ داود، وداود لم يرَ المسيح، وبُطرس لم يرَ إشعياء ولا داود، وبولس الرّسول لم يرَ إشعياء ولا داود ولم يُعاصِر المسيح. بالرّغم من ذلك نجد الترابُط والتركيز على أنّ شخص المسيح هو حجر الزاوية، الذي تحقّق فيه المكتوب في العهد القديم.

 

خُلاصة

   يُعتبر هذا المقال جُزء مُبسّط لموضوعٍ طويل، وفي غاية العُمق، وفي الجزء الثاني سنُكمل رحلتنا حول تحقيق نبوءات العهد القديم في شخص المسيح. لكن إلى ما انتهينا إليه يُمكننا استخلاص وبوضحٍ ارتباط شخص المسيح بنبوءات العهد القديم، وأنّ هذا الترابُط بينهما ليس نتاج تأويلات أو تفسيرات أو تخيُّلات البعض، وإنّما حقيقة موثّقة ولها حججها الدّامغة التي تدعمها. فكما رأينا استشهاد المسيح عن نفسه بنصوص العهد القديم، كما أيضًا تلاميذه وأتباعه. ممّا يؤكّد لنا أنّ المسيح أعظم من كونه نبي، وإنّما تأخُذنا هذه النبوءات إلى حقيقة ألوهيّته التي تتجلّى بوضوحٍ في كلّ تعاليمه وأعماله.

 

 

 لقراءة الجزء الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد


[1] (إنجيل لوقا 24: 25 - 27).

[2] القسّ شنودة ماهر إسحاق، المسيح في نبوءات العهد القديم (القاهرة: مطبعة الأنبا رويس، 2022)، 7.

[3] (إنجيل يوحنّا 10: 25-30)

[4] (مزمور 82: 6).

[5] (إنجيل يوحنّا 10: 34 – 35).

[6](إنجيل مُرقس 12: 10).

[7] مقال تحت عنوان (ما المقصود بأنّ يسوع المسيح هو حجر الزاوية؟) على موقع إلكتروني gotquestions. تمّ الاضطلاع على الرابط في 11/5/2023 https://2u.pw/wgPihx

[8] (سفر إشعياء 28: 16).

[9] (مزمور 118: 22).

[10] (أعمال الرُّسل 4: 11).

[11] (رسالة أفسس 2: 19 -22).