حين يواجه الناس مشاكل أو تكون لديهم قرارات مهمّة عليهم أخذها والبتّ بشأنها، فإنّهم كثيراً ما يطلبون النصح من الآخرين. فإن كان الموضوع بسيطاً أو مألوفاً، فقد يطلبون النصح من العائلة أو الجيران بشأن ما عليهم عمله. ولكن حين يكون الموضوع كبيراً وله عواقب بعيدة المدى، فكثيراً ما يبحث الناس عن خبيرٍ، شخصٍ يمكن الوثوق به، ليقدِّم إرشاداً مدروساً وواعياً وحقيقياً بشأن ما ينبغي عمله. في تاريخ الكتاب المُقدَّس، كثيراً ما وفّر الله هذا النوع من الإرشاد الذي يمكن الاعتماد عليه تماماً من خلال أنبيائه. كان هؤلاء الرجال والنساء يطبّقون عهود الله بسلطان على الأوضاع التي كان الناس يواجهونها.

سنستكشف في هذه السلسة الطرق التي بها تمّم يسوع وظيفة النبي، مُطبِّقاً عهود الله على حياتنا بسلطان.

فإن الله في العهد القديم عيّن ثلاث وظائف أدار بها شؤون مملكته، وهذه الوظائف هي: النبي والكاهن والملك. وفي المرحلة الأخيرة من ملكوت الله، وندعوها بشكلٍ عام بعصر العهد الجديد، تجد هذه الوظائف الثلاث تتميمها بأسمى أشكاله في المسيح. ولهذا، فإن دراسة أهمية هذه الوظائف وعملها عبر التاريخ يمكن أن تساعدنا في فهم كيفية إدارة يسوع لملكوت الله في الوقت الحالي، وكذلك في فهم بركات أتباعه الأمناء والمسؤوليات المُلقاة على أكتافهم.

معظم الناس حين يسمعون الكلمة "نبي"، يميلون للتفكير بشخصٍ يتنبّأ بشأن المستقبَل. وفي الحقيقة هذا ينطبق حتّى على معظم المؤمنين. ولكنْ، مع أن أنبياء الكتاب المُقدّس كانوا أحياناً يُنبِئون بالمستقبل، فإن هذا لم يكن نقطة تركيزهم الأولى. ولكن الأمر الأساسي والأكثر أهمية هو أن أنبياء الله كانوا سفراءه. فقد كانت مهمتهم شرح عهود الله، وحثّ شعبه على أن يكونوا أمناء له. وقد كان هذا جوهر عمل يسوع النّبوي. انسجاماً مع هذا الفهم لما كان الأنبياء يعملونه، نعرِّف النبي باعتباره:

 

سفير عهد الله الذي يُعلِن كلمة الله ويطبِّقها، ويسعى بشكلٍ خاصّ للتحذير من الدينونة على الخطية، ويحثّ على خدمة الله وعبادته بأمانةٍ وإخلاص مِمّا يؤول إلى اختبار بركاته.

 

هناك ثلاثة مواضيع تتعلَّق بيسوع كنبي: أولاً، فحص خلفية العهد القديم عن وظيفته النبوية. ثانياً، كشف تعليم العهد الجديد حول تحقيق هذه الوظيفة في يسوع. ثالثاً، النظر إلى التطبيق المعاصر لعمل يسوع المسيح النبوي. لنبدأ بخلفية العهد القديم التي توفِّر أرضيةً ننطلق منها لفهم وظيفة يسوع المسيح النبوية.

 

خلفية العهد القديم

حين نفكِّر نحنُ المؤمنين بيسوع المسيح باعتباره نبيّنا، فإنّه ضروريّ ومهم أن نتذكّر أنه لم يكن أول نبي خدم الله وعهده. فعبر التاريخ الكتابي، خدم مئاتٌ من الرجال والنساء كأنبياء للرب. لم يكُن هؤلاء مساوين ليسوع بالسّلطة أو القوّة، ولكنّ خدمتهم كانت بمثابة الظّلّ أو الرمز للكيفية التي تمّم يسوع بها هذه الوظيفة الخاصّة بالملكوت. ولذا، إن أردنا أن نفهم ما عمله يسوع كنبي، فمن المفيد أن نبدأ بالنظر إلى الأنبياء الذين أتوا قبله.

ينقسم حديثنا عن خلفية العهد القديم لوظيفة يسوع النبوية إلى ثلاثة أقسام:

أولاً، شروط وظيفة النبي.

ثانياً، عمل الأنبياء.

ثالثاً، التوقُّعات التي أوجدها العهد القديم بشأن هذه الوظيفة. 

 

الشروط

 

إن أنبياء العهد القديم كانوا سفراء عهد الله أو مبعوثيه. أعلن الله في عهوده عن نفسه بأنه الإمبراطور العظيم لشعبه، وقد عمل أنبياؤه كمبعوثين أو رسلاً مفوَّضين لدى بلاطه الملكي في السماء. فأتوا بكلمة الله لشعب إسرائيل وللأمم الأخرى، وحثّوهم على أن يكونوا أمناء لله باعتباره ملكهم.

وبطبيعة الحال، فقد كان لدى كثيرٍ من الأمم والدول المحيطة بإسرائيل أنبياؤهم الخاصّون الذين كانوا يشابهون أنبياء الله الحقيقيين في بعض الأمور الشكلية السطحية. ولكن هؤلاء الأنبياء الكذبة كانوا يستخدمون الخداع والخرافات والقوى الشيطانية ليمثّلوا آلهتهم المُزيَّفة الكاذبة.

 

كان الأنبياء الكذبة في أزمنة الكِتاب المُقدَّس، سواء أفي فلسطين او في الدول المجاورة، يتكلمون ويفعلون ويشبهون الأنبياء الحقيقين من حيث المظهر والتصرفات، لكن أعتقد فوق كل شيء، أن الأمر البارز عندما تنظر في الكِتاب المُقدَّس في كتب مثل الملوك وأخبار الأيام وكتب نبوية أخرى هو حقيقة أن أنبياء العهد القديم يميّزون أنفسهم كأنبياء حقيقيين من الآخرين، لأنهم يتكلمون باسم الرب نفسه. ولا ينتهكون ما قاله الرب في كلمته. ولا ينتهكون ما قاله الأنبياء الحقيقيون الآخرون، وهم يميّزون أنفسهم بهذه الطريقة. ورغم أنّهم كانوا عادة يتصدون للمعتقدات الشعبية، فقد كانت هناك مع الأسف فترة، لا سيما في شمال إسرائيل، كان فيها الأنبياء يتقاضون أجراً. فعندما قال عاموس في الفصل 7، "لَسْتُ أَنَا نَبِيّاً وَلاَ أَنَا ابْنُ نَبِيٍّ" قصد بقوله لرئيس الكهنة في المملكة الشمالية، أنه لا يتقاضى راتباً من الملك أو من رئيس الكهنة. فأنا لست نبياً، أي أني لا أمتهن النبوة، ولا ابن نبي أي لست في مدرسة الأنبياء. وبالتالي لا تقدر أن تقول لي ماذا أفعل. قال عاموس ذلك هو لأن رئيس الكهنة قال له أن يذهب إلى البيت ويتوقف عن إزعاجهم هناك في الشمال. عد إلى الجنوب. لكن عاموس أجاب لا أقدر لأن الرب أمرني أن أفعل ذلك. وغالباً ما نرى أنبياء مثل إرميا وميخا يواجهون أولئك الأنبياء الكذبة الذين يتقاضون راتبهم من الملك. إذاً الأنبياء لا يتقاضون راتباً من الملك. ولا يتقاضون راتباً من الكاهن. لذا هم يقفون ليشهدوا للرب في وجه أشخاص مثل الملوك والكهنة عندما يسيئون معاملة الشعب بما يمارسون من الشر والجرائم.  د. ريتشارد برات الابن

 

في عالمٍ كثُر فيه الأنبياء الكذبة، كان من المهم أن يكون بنو إسرائيل قادرين على التمييز بين أنبياء الله الحقيقيّين والأنبياء الكذبة. ولذا، حدَّد العهد القديم عدة أوصافٍ وشروط لأنبياء الله الصادقين.

ترد المواصفات المطلوبة التي تحدّد صحة الأنبياء في تثنية 18: 17-22، حيث كتب موسى هذه الكلمات:

قَالَ لِيَ الرَّبُّ... أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ... وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَماً لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ... فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ، فَهُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ. (تثنية 18: 17-22)

 

نستطيع أن نرى في هذا المقطع أربع مواصفات أو شروط على الأقلّ لأنبياء الله الحقيقيين. فكما علّم موسى هنا، فإن الأنبياء الحقيقيين مدعوّون من الله. وأُعطي هؤلاء كلمة الله ليكلّموا الناس بها. وأظهروا ولاءهم لله بالتكلُّم باسمه فقط بحسب أوامره. وقد تأكّدت صحة خدمتهم من خلال تحقيق رسالتهم.

ستركّز هذه المقالات على شروط أنبياء العهد القديم على كلّ واحدةٍ من المتطلّبات الأربعة التي ذكرها موسى: أولاً، ينبغي أن يكون الأنبياء الحقيقيون مدعوّين من الله. ثانياً، ينبغي أن ينالوا كلمةً من الله لينطقوا بها. ثالثاً، ينبغي أن يكون الأنبياء أوفياء لله بحيث لا يتكلّمون إلا بحسب أمره. رابعاً، ينبغي أن يتم تأكيد صحة وصدق خدمتهم من خلال تحقيق رسالتهم. وسننظر إلى كل واحدٍ من هذه المعايير والامتحانات بتفصيل أكثر، بدءاً من حقيقة أن الأنبياء الحقيقيين مدعوّون من الله.

 

لقراءة هذه السلسة من المقالات ( الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع، العاشر، الحادي عشر)

 

هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org