يوضّح العهد الجديد أن يسوع هو نبي الله الأسمى والأكمل. فقد كان مؤهَّلاً تماماً لخدمة الله كسفير عهد الله المُفوَّض. فقد تمّم كل أعمال هذه الوظيفة. وفيه تتمّ كل توقُّعات العهد القديم النبوية.

سيركّز مقالنا لموضوع تحقيق يسوع للوظيفة النبوية على الجوانب التي وصفنا بها أنبياء العهد القديم وعملهم، وخصوصاً الشروط اللازمة للوظيفة، وعملها، والتوقُّعات منها. وهو ما ناقشناه في المقالات السابقة.

 

الشروط

وكما رأينا مُسبقاً، كان على الأنبياء الحقيقيين أن يوفوا بأربعة شروط: كان ينبغي أن يكونوا مدعوّين من الله. وينبغي أن ينالوا كلمة من الله لينقلوها إلى الناس. وكان مطلوباً منهم أن يكونوا أوفياء للرب فلا يتكلّموا إلا بما أمرهم به. وكان يجب تأكيد صحة وصدق رسائلهم من خلال تحقيقها. وكما سنرى، فقد وفى يسوع بكل هذه المُتطلبات والشروط. وأولها، أنْ كان يسوع مدعوّاً من الله.

 

الدعوة من الله

 

دُعي يسوع بشكلٍ خاصّ من الله ليكونَ نبيَّه. يمكننا أن نرى هذا بوضوح تامّ في الأحداث التي حصلت في ولادته ومعموديته وتجلّيه. بدايةً، استمع إلى كلمات النبي سمعان الشيخ حين كان يسوع طفلاً في لوقا 2: 30-35:

لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ ... هَا إِنَّ هَذَا قَدْ وُضِعَ ...َلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ... لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ. (لوقا 2: 30-35)

 

أعلن سمعان أنه من وقت ولادة يسوع، دُعي ربُّنا ليكون إعلاناً نبويّاً وعلامةً لشعبه.

وفي معمودية يسوع، أظهر الله الآب والروح القدس أن يسوع دُعي ليكون نبيّاً. ونقرأ في متّى 3 و4، ومرقس 1، ولوقا 3 و4 أن الآب تكلّم بصوتٍ مسموع، والروح القدس ظهر بهيئة حمامة لإظهار أن يسوع هو ابن الله الذي عُيّن للقيام بخدمةٍ خاصّة. في كل هذه الفصول، توضِّح معمودية يسوع أنه أُفرِز لخدمته العلنية، التي هي خدمة المناداة بالرسالة النبوية، رسالة التوبة ومجيء ملكوت الله.

ولكن الأمر الذي أظهر يسوع بصفته نبياً هو حادثة تجلّيه، الذي يُوصَف في متّى 17: 2-3:

وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ [يسوع] قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا ... يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. (متّى 17: 2-3)

 

ظهر يسوع مع أعظم نبيين في العهد القديم: موسى، معطي الشريعة والمقياس للذين سيتكلّمون بكلمة الله لشعبه، وإيليا، صانع المعجزات، الذي دعى في كرازته بيت داود الخائن إلى التوبة. ومجرّد وجود يسوع مع هذين الرجلين أظهر أنَّ يسوع كان نبياً عظيماً. ولكن لاحظ ما حدث بعد ذلك في متّى 17: 4-5:

فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلإيلِيَّا وَاحِدَةٌ. وفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا. (متّى 17: 4-5)

أمر الله بطرس والتلميذين الآخرين بأن لا يسمعوا للنبيَين الآخرَين، بل فقط ليسوع. فكان عليهم أن يصغوا إلى يسوع أكثر من موسى وإيليا. وبهذا، أظهر الله نفسه أن يسوع كان النبي الأبرز في كل الأزمان.

 

من الملفت للنظر في رواية التجلي أن الله أمر أو حث تلاميذه أن يسمعوا ليسوع. أعتقد أنه من المهم أن ندرك أنه لم يعلمهم أن يتخلوا عن موسى أو إيليا، بل أن يعطوا الأولية ليسوع. والنقطة الأساسية برأيي في تلك اللحظة، كانت تأكيد حقيقة أن يسوع المسيح هو ذروة إعلان الله. وكان تقليد اليهود يقتضي باحترام موسى والاعتراف به كتجسيد للشريعة، وإيليا هو أحد أشهر الأنبياء.  ليس بمعنى أن الشريعة من الطراز القديم، أو أن الأنبياء هم كذلك. بالتأكيد نحن لا نريد أن نتخلى عن العهد القديم. لكن التشديد هنا هو على الطبيعة الجوهرية والمتفوقة والأسمى لإعلان يسوع المسيح. فالأمر هو بالحري شبيه بالفصل الأول في عبرانيين حيث تكلم الله إلينا مرات عديدة وبَطُرُق كَثِيرَةٍ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، لكننا الآن أتينا إلى الإعلان الأنقى والأكمل. فالله لم يرسل ملاكاً بل جاء هو بنفسه إلينا. وهذا كما أظن هو الرسالة الضمنية في أمر الله عند التجلي.

 د. غلِن سكورجي

 

نيل كلمة من الله

 

خُذْ على سبيل المثال كلمات يسوع المُدوَّنة في يوحنا 14: 24:

وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يوحنا 14: 24)

وقد تكلّم يسوعُ بكلام مشابه في يوحنا 12: 49-14: 10 وأماكن أخرى. وفي الحقيقة، يُشار إلى يسوع في يوحنا 1 بكونه كلمة الله.

 

إن التعبير "كلمة" المستخدم في يوحنا الفصل الأول، هو الكلمة اليونانية "لوغوس" التي تباحث حولها اللاهوتيون عبر العصور، وقد يكون التفسير بأن المقصود هنا هو الفكر اليوناني الذي ينظر إلى الله كعقل أو حكمة صحيحاً، لكن من الواضح أن المفهوم "كلمة الرب"، أو كلمة الله، هو موضوع رئيسي في العهد القديم. وقد يكون يوحنا يستخدم هنا مفاهيم مستخدمة في الفلسفة اليونانية بشكل جزئي، لكنه في الواقع يشير إلى يسوع ككلمة الله، ومعلن الله الذي قال: "ليكن نور فكان نور"، تكلم فحدث. أراد يوحنا أن يقول ببساطة إنه عندما صار الكلمة بشرا وسكن بيننا، جاء بسلطان الله وإعلانه الذي مارسه أيضاً في كل العهد القديم.

 د. سايمن فايبرت

 

أولاً، يمكننا أن نرى أن كلمة الله هو شخص، هو الرب يسوع المسيح، وثانياً ككلام الله. لكن يوحنا يشير إليه "بكلمة الله" اللوغوس. وما يفعله في هذا المجال هو إبلاغنا أساساً دور ربنا في تعريفنا بالآب. والكاتب العبراني يخبرنا أن لا أحد رأى الرب في أي وقت، لكن يسوع المسيح الذي هو في حضن الله، جاء وأعلنه لنا. إذاً يسوع المسيح هو الإعلان الكامل عن الآب.

 د. لاري كوكريل

 

يوحنا إن كان قصده تبشيريا هنا، فهو يريد أن يعلن أن هذا هو كلمة الله والمساوي لله في طبيعته، ويجب أن يقبل الناس ذلك. بل أكثر، يريدنا يوحنا أن ننظر إلى يسوع كالإله المتجسد، الذي يعلن لنا كلمة الله. ويمكننا أن نثق بكلمته لأنها كلمة الله.

 د. جون ماكينلي

الوفاء لله

أصرّ يسوع طولَ فترة خدمته على أنه كان يتمّم ويعمل مشيئة الآب. فلم يقُل ولم يفعل إلا الأمور التي أمر الآب بها. هذا ما نراه في أماكن كثيرة، مثل يوحنا 5: 19 و30؛ و8: 28.

كما وضّح يسوع أن كل كلامه وأعماله كانت متوافقة مع أقوال وأفعال الأنبياء الذين أتوا قبله. فمثلاً، تكلّم مصادِقاً على خدمة يوحنا المعمدان في متّى 11: 9-14. وأكّد على خدمة النبي يونان في متّى 12: 38-45. ودشن خدمته في لوقا 4 بإعلانه أنه يتمّم كلام إشعياء 61 بمجيء نبي مسحه الله. وفي الحقيقة، أكّد يسوع بشكلٍ متكرّر وثابت على الحقِّ الذي تعلمه أسفار العهد القديم وعلى شرعيتها وصحّتها الدائمتَين. كما قال في متّى 5: 17:

 

لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأكَمِّلَ. (متّى 5: 17)

بهذه الطّرق وغيرها أظهر يسوع أن كلّ ما قاله وفعله كان إثباتاً لولائه الكامل لله. وأخيراً، وفى يسوع بشرط تأكيد صحة وصدق رسائله النبوية من خلال تحقيقها.

 

تأكيد صدق النبوات في تحقيقها

كثيراً ما تُثبت الأناجيل أنَّ يسوعَ نبي حقيقي بالإشارة إلى أن نبواته تحقّقت. وفي بعض الأحيان، كانت كلماته تتحقّق فوراً ومباشرة، مثلما يُرى في نجاحه في السيطرة على الطبيعة، وفي إخراجه الشياطين، وفي شفاء المرضى، وفي إقامة الموتى. في هذه الحالات أطاع مناخ الطبيعة والشياطين والمرض، بل وحتى الموت، أوامره النبوية ذات السلطان فوراً. وفي مراتٍ أخرى، تحقَّقت نبواته لاحقاً، كما هو الحال في تنبّؤاته بشأن المستقبل. على سبيل المثال، في يوحنا 18: 9، كتب يوحنا هذا التعليق:

ليتمّ القول الذي قاله: إن الذين أعطيتَني لم أُهلِك منهم أحداً. (يوحنا 18: 9)

أشار يوحنا هنا إلى أمرٍ قاله يسوع في صلاته الكهنوتية في يوحنا 17: 12، وأشار إلى أن ما قاله يسوع قد تم.

كما أن ما تكلّم به يسوع عن موته الوشيك وإقامته تحقَّق أيضاً، كما نرى في مقاطع مثل متّى 16: 21، و20: 18-19، ويوحنا 18: 32. من خلال مثل هذه التحقيقات لأقواله، أظهر يسوع بأنَّه نبي حقيقي لله.

ولكنْ لم تتمّ كل نبوات يسوع في حياته على الأرض، إذ كثيرٌ منها يتعلَّق بالمستقبل، وفي بعض الأحيان بالمستقبل البعيد. وفي بعض الحالات، نقرأ عن تحقُّق بعض هذه النبوات في مُدوّنات التاريخ. فاستمع مثلاً إلى النبوّة التي أعطاها يسوع في لوقا 21: 5-6:

وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ. (لوقا 21: 5-6)

 

قال يسوع إن هيكل اليهود سيُدمّر لأن اليهود رفضوا التوبة عن خطيتهم، ولكن الهيكل بقي قائماً حين مات يسوع. ولكنّه دُمِّر بعد فترةٍ قصيرة حين حاصر الرومان أورشليم وسلبوها عام سبعين ميلادية.

مِنَ الواضِحِ أنْ لَيْسَ كلُّ نُبُوّاتِ يَسوعَ قَدْ تَحَقَّقَت. فَمَثَلاً، هوَ لَمْ يَعُدْ بَعْدُ لِيَصِلَ بِمَلَكوتِ اللهِ إلى ذُرْوَتِهِ وكَمالِه. ولَكِنْ لَدينا الثِقَةَ التامَّةَ بأنَّ يسوعَ سَيُتَمِّمُ في النِهايَةِ كلَّ وعودِه. لأنَّنا في كُلِّ مَرَّةٍ فَحَصْنا بِها نُبُوّاتِهِ في ضَوْءِ الكِتابِ المُقَدَّسِ وبَقِيَّةِ التاريخِ، كانَتْ صِحَّةُ كَلامِهِ دائماً تَتَثَبَّتُ مِنْ خِلالِ تَحَقُّقِه. وَبِما أنَّ كلامَهُ كانَ صادِقاً دائِماً في الماضي، يَجِبُ أنْ نَتَوَقَّعَ أنْ يَصْدُقَ أيضاً في المُسْتَقْبَل.

 

أظنّ أنّ الثقة التي لدينا هي أنّه بالعودة إلى تاريخ العهد القديم نستطيع أن نرى كيف أنّ الله تمّم وعوده في المجيء الأول للرب يسوع المسيح. بدءاً من أول وعوده في تكوين 3: 15، ثمّ خطوةً خطوة في تاريخ الإعلان النبوي الذي بين أيدينا حين كان الله يستبق مجيء ابنه، المسيح المنتظر. كلّ ذلك قد حصل. كلّ ذلك قد تمّ ألفي عام من اليوم. وحين يقول يسوع بعد مجيئه وإتمام عمله إنّه سيعود وأنّ عودته ستحصل، نستطيع أن نثق من منطلق أنّ الله وفى بوعوده في الماضي أنّه سيستمرّ بالوفي بها في المستقبل.

 د. ستيفين وِلَم

 

بعد أن رأينا أن يسوع وفى بشروط الوظيفة النبوية، صرنا مستعدّين للنظر إلى تتميمه لمهمات وأعمال هذه الوظيفة.

لقراءة هذه السلسة من المقالات ( الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع، العاشر، الحادي عشر)

هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org