ثمة طرقٌ كثيرة يمكننا بها تلخيص التزامنا بالخضوع لإرادة الله المُعلَنة في الكتاب المُقدَّس، ولكنّنا في هذه السلسلة نريد النظر إلى هذه المواضيع من منظور وظيفة المسيح النبوية.

سنركّز على الفكرتين اللتين طالما شدّد عليهما الأنبياء: التوبة عن الخطية لتجنّب عواقب الإخلال بالعهد، والإيمان بالله لنوال بركات العهد.

 

التوبة عن الخطية

كما تذكرون، فإن أحد أعمال الأنبياء الرئيسية في العهد القديم كان التهديد بوقوع دينونة العهد، وذلك لدفع الخطاة إلى التوبة. كما كان هذا جزءاَ من خدمة يسوع في العهد الجديد. استمع إلى الطريقة التي لخِّص بها متّى كرازة يسوع في متّى 4: 17:

مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ". (متّى 4: 17)

 

في الحقيقة، يمكن رؤية هذا الموضوع في كل العهدين القديم والجديد. إنه أحد أكثر المواضيع شيوعاً في كلّ الكتاب المُقدَّس. ولأنّ كُلَّ جزءٍ في الكتاب المُقدَّس يعلن إرادة الله لنا، فإن التوبة عن الأمور التي عجزنا فيها عن العيش بحسب مشيئته هي تطبيقٌ صحيح لكل مقطع كتابي.

وكما نعرف جميعاً، فإن التوبة هي التحوّل من التمرّد على الله، نحو الخضوع لإرادته. فنحنُ نتحوّل عن الخطية، وفي الوقت نفسه نتحوّل نحو الله بالإيمان. التوبة الأولية تحدث حين يأتي الإنسان إلى المسيح بالإيمان، الإيمان المُخلِّص، إذ نسمع كلمة بشارة الإنجيل ونتوب عن خطايانا. ولكن ينبغي أيضاً أن تحدث التوبة في كل جوانب حياتنا كمسيحيين.

ركّز المُصلِح البروتستنتي مارتن لوثر على هذه الفكرة في أطروحاته الخمس والتسعين التي كتبها وعلّقها عام ألف وخمسمئة وسبعة عشر. استمع إلى ما قاله:

 

حين قال ربُّنا وسيِّدنا يسوع المسيح "توبوا"، كان يريد أن تكون حياة المؤمنين بكاملها حياة توبة.

 

أدرك لوثر أن البشر ساقطون ويرتكبون الخطايا باستمرار، ولذا حتّى المؤمنون كانوا بحاجة لجعل التوبة مُمارَسةً يومية.

إحدى طرق الحثّ على التوبة هي اتّباع نموذج يسوع وأنبياء العهد القديم، أي إعلان بنود عهد الله. فبإخبارنا الناسَ بما يريده الله ويطلبه، نحثّهم على ترك خطاياهم للنجاة من دينونة الله. وحين نسمع نحنُ المؤمنين كلمة الله ونكتشف تقصيرنا وسقطاتنا، فعلينا نحنُ أيضاً أن نتوب. طبعاً، لا يحتاج المؤمن الحقيقي لأن يقلق ويخشى الوقوع تحتَ دينونة الله الأبدية، فيسوع أنهى هذه المسألة حين مات على الصليب عنا ومن أجلنا. ولكن، مع هذا، يؤدّبنا الله لأننا أبناء عهد، كما نرى في مقاطع مثل عبرانيين 12: 5-11.

بالحث على التوبة وممارستها في حياتنا اليومية، يكرِم المؤمنون عمل المسيح النّبويّ ويسعون للحصول على بركات عهد الله. ولكن بعملنا هذا، ينبغي أن ندرك أن التوبة الصحيحة ليستْ الانغماس في اليأس والبؤس والكآبة بسبب خطيتنا. مع أن الاعتراف بذنبنا يسبّب الحزن، فليس الهدف منه أن يؤدّي إلى اليأس والبؤس، بل استردادنا إلى العلاقة بالله والفرح فيها. هذا ما نقرأه في 2 كورنثوس 7: 10:

 

لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً للِخَلاَصٍ لا رجوع عنها. (2 كورنثوس 7: 10)

 

أظنّ أنّ كلّ مسيحي مدعوّ للسلوك في حياة توبةٍ مستمرّة، وذلك بالاعتراف بخطايانا والمثول أنقياء أمام الرب. يسوع دعانا إلى أن نحمل صليبنا كلّ يوم، وفي ذلك إشارة إلى أنّه لا يُفترض بنا أن نكون مستعدّين لنتألّم فحسب، بل أن نسير على درب الصليب أي أن نموت عن خطايانا ونلتمس غفران الله، هذا هو معنى الصليب. وبالرغم من أنّها حقيقة رائعة، أنّه حين يأتي أحدهم للمرّة الأولى إلى الرب ويعترف بذنوبه، يصير إنساناً جديداً، وينقّى من خطاياه، تلك حقائق رائعة نحتاج أن نتمسك بها. وإذا أردنا أن نكون أنقياء كالثلج علينا أن نعود ليطهّرنا ويجدّدنا. وتوجد أعداد واضحة من العهد القديم تقول، كما تعلمون، توجد بركاتٌ عظيمة لأولئك الذين يتوبون ويرجعون إلى الرب، على الذين لا يرضون بالإثم ولا يخبّئونه في قلوبهم، أو كما جاء في المزمور الثاني والثلاثين، "طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً". وترون في هذا المزمور فرحاً عظيماً لأنّ هذا التائب في الواقع وجد المغفرةً. وهذا اختبارٌ يمكن أن يعيشه المسيحيون يوماً فيومٍ، فرح غفران الخطايا. فلنا بركات لا تحصى حين نسلك هذا المسار، مسار التوبة نحو حياةٍ جديدة.

 د. بيتر واكر

 الإيمان بالله

لقد حثّ يسوع والأنبياء الآخرون الناس على الثبات في الإيمان بالله والطاعة لعهده حتى ينالوا بركات الله. وينطبق هذا المبدأ على المؤمنين في زمننا الحالي. إن كنا نرجو ونأمل أن ننال بركات الخلاص حين يأتي ملكوت المسيح بكماله، فإنه من المهم لنا أن نثبت ونثابر في الإيمان، وأن نُظهِر إيماننا بطاعتنا لعهد الله. نرى هذا في أماكن كثيرة في كل العهد الجديد، مثل أفسس 2: 8-10، و2 تسالونيكي 1: 4-12، وعبرانيين 12: 1-11، ويعقوب 2: 14-18. وكمثالٍ على ذلك، استمع إلى كلمات رسالة 1 يوحنا 5: 3-4:

فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ اللهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ. وَوَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً، لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا. (1 يوحنا 5: 3-4)

كما علّم الرسول يوحنا هنا، فإن الإيمان المسيحي الحقيقي يغلب (أي يثبت) في التزامه وتكريسه لله، وفي تعبيره عن طاعته لأوامر الله ووصاياه.

نعترف بأن الثبات في الإيمان والطاعة بينما نحنُ ننتظر أن يحقّق الله وعوده إنّما هو صراع وجهاد. ولكنَّ هذا التحدّي نفسه واجه شعب الله في كل العصور والأزمان. فقد واجه المؤمنون في العهد القديم، وفي العهد الجديد، وفي كلِّ تاريخ الكنيسة. ولكنّنا نعرف أن وعود الله أكيدة ومضمونة، وبأن المسيح سيعود في النهاية ليكمِل ما بدأه.

 

إنّ بولس واضحٌ جدّاً في رسائله حول دافعنا لنكون أمناء للمسيح. هذا الدافع ينشأ حين نتذكر ما عمله المسيح من أجلنا، وكيف خلصنا. هذا هو الدافع الأساسي. لكنّكم تعلمون أنّ الكتاب المقدّس يحرص أيضاً أن يخبرنا عن دوافع أخرى. كيوم الدين الذي لا مفرّ منه. ويجب أن يكون ذلك دافعاً لنا لنكون أمناء. وأيضاً لدينا الصورة الأشمل، وهي أنّ سعادتنا الكبرى تكمن في طاعتنا الكاملة. إذاً لمَ نسلب أنفسنا متعة السعادة في حين نعلم أنّ دافعنا ليس فقط بغية أن نجنّب أنفسنا عقاب ودينونة الله بل لننعم بالبركات التي يمنحها الله لنا إن نحن أطعنا؟ والكتاب واضحٌ أيضاً بالنسبة إلى أمرٍ آخر. حياتنا مكشوفة أمام أعين العالم، ومصداقيّتنا كشهودٍ مسيحيين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإمكانية أن يظهر للعالم ما إذا كنّا نعيش المسيح بأمانة. وذلك يزيد الأمر خطورةً ويذكّرنا بأن لنا دوافع متعدّدة لنكون أمناء للمسيح.

 د. آلبرت مولر

 

ويوماً ما، ستثبت صحة موضوع إيماننا حين يعود يسوع وننال كل البركات التي أنبأ بها. ستكون التوبة أمراً يخصّ الماضي، وسيُكافأ إيماننا. في ذلك الوقت، سنحيا جميعاً في ملكوت الله المكتمِل والمُتحقِّق على الأرض مستمتعين بكل بركات عهده. ولكن حتّى ذلك الوقت، ينبغي أن تتّصف حياتنا في العهد مع الله بالتوبة عن الخطية، وبالثبات في الإيمان. وحين نحيا بالأمانة والإخلاص لربّنا، سيكون تأديبنا في الحاضر أقل، وستزيد البركات التي سننالها في المستقبل.

 

الخاتمة

رأينا في هذه السلسة كيف تمّم يسوع وأنجز وظيفة النبي. فدرسنا وظيفة النبي في العهد القديم كخلفيةٍ لبحثنا. ونظرنا إلى تحقيق هذه الوظيفة في يسوع، وأشرنا إلى أنه وفى بشروط هذه الوظيفة، وقام بكل أعمال هذه الوظيفة، وبأنه حقّق توقُّعات العهد القديم فيما يتعلَّق بهذه الوظيفة. واستكشفنا التطبيق الحالي لهذه الأفكار بالتركيز على مدى ومحتوى إعلان يسوع المسيح النبوي في الكتاب المُقدَّس.

فَهْمُ وَظيفةِ المسيحِ النَبَوِيَّةِ مُفيدٌ جِدّاً لِكُلِّ مُؤْمِنِ. فَهُوَ يُساعِدُنا في تَوجيهِ أَنفُسِنا إلى مَلَكوتِ اللهِ وأهدافِه. وهو يُعَلِّمُنا بأنْ نَسْتَمِعَ ونَخْضَعَ لِتعاليمِ يسوعَ في كلِّ الكِتابِ المُقدَّس. إنَّهُ يُعْطينا إطاراً لِفَهْمِ إعْلانِهِ لَنا، وَهُوَ يُطَمْئِنُنا وَيُؤَكِّدُ لَنا أنَّ اللهَ سَيُتَمِّمُ في النِهايةِ كلَّ نُبُوّاتِ يسوعَ عِنْ مَجيئِهِ الثّاني وخَلاصِنا الأَبَدِّي.

 

لقراءة هذه السلسة من المقالات ( الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع، العاشر، الحادي عشر)

 

هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org