
طبيعة المسيح >
يسوع الملك (ج1)
خدمة الألفية الثالثة
1/3/21 - ٥ دقيقة قراءة
غالباً ما يكتب تاريخ البشرية وفق رأي الملوك الظافرين. سمعنا عن ملوك حكموا مناطق واسعة من آسية، وأوروبا، وأفريقية، وأميركا اللاتينية. بعضهم قهر عدداً كبيراً من الأعداء وامتدت ممالكهم إلى أقصى زوايا الأرض. وقد اشترك هؤلاء جميعاً بأمر واحد على الأقل. فجميعهم رحلوا؛ جميعهم ماتوا؛ جميعهم لم يعودوا في الحكم. وجيوشهم الضخمة تلاشت، وسلطانهم زال.
لكن يوجد استثناء واحدٌ لهذه القاعدة. فهناك ملك واحد سلطانه لم يضمحل، وملكوته لن يزول إلى الأبد. هذا الملك هو يسوع بكل تأكيد.
في هذه السلسة بعد أن ناقشنا يسوع النبي والكاهن سنناقش بُعد جديد وهو يسوع الملك. في هذه السلسة سنعالج كيف تمّم يسوع وظيفة الملك في العهد القديم، وحكَم كابن الله وخادم الله الأمين. أنشأ الله في مراحل مختلفة من تاريخ العهد القديم ثلاث وظائف أدار من خلالها ملكوته: وهذه الوظائف هي وظيفة النبي، ووظيفة الكاهن، ووظيفة الملك. وفي المرحلة النهائية من ملكوت الله، والتي نسميها عادة عصر العهد الجديد، وجدت هذه الوظائف الثلاث تتميمها النهائي في يسوع. في هذه السلسة، سنركّز على وظيفة يسوع كملك.
من أجل أهدافنا في هذا الدرس سنعرّف الملك بأنه:
الإنسان المعيّن من الله ليمارس حكمه بالنيابة عن الله على مملكته.
وكما يدل هذا التعريف، فإن الله كان دائماً وسيستمر الحاكم النهائي على كل خليقته. لكنه عيّن أيضاً بشراً ليخدموه كأوصياء على عرشه. وهؤلاء الملوك البشريون يخدمون تحت إمرته، ويدعمون مقاصد وأهداف مملكته. ونحن إذ نبقي هذا التعريف الأساسي في أذهاننا، سنكتسب بصيرة أعمق في فهمنا لوظيفة الملك الكتابية، وفي كيفية تتميم يسوع لهذه الوظيفة.
أولاً سنفحص خلفية العهد القديم لوظيفة الملك.
ثانياً، سندرس تتميم وظيفة الملك في يسوع.
وثالثاً، سندرس التطبيق المعاصر لمُلك يسوع على حياتنا.
خلفية العهد القديم
في كتابه الجمهورية يزعم الفيلسوف اليوناني أفلاطون بأن أفضل الحكومات الممكنة هي تلك التي يحكمها فيلسوف ملك. فبرأيه، إن الملوك الذين حقاً يفضلون الحكمة على الثروة والسلطة، يقودون بلادهم إلى بركات لا تحصى. وبطريقة مماثلة، يبيّن الكِتاب المُقدَّس أنه عندما كان ملوك إسرائيل يخافون الله ويتبعون وصاياه، كانت بلادهم تزدهر ببركات الله. لكن العكس أيضاً صحيح: فعندما كانوا يتمردون على الله، كانت الأمة برمتها تتألم تحت دينونة الله. بهذا المعنى، كان ملوك إسرائيل العامل الأساسي في رفاهية مملكة الله على الأرض.
سنفحص خلفية العهد القديم لوظيفة الملك عن طريق النظر في ثلاثة مواضيع:
أولاً، مؤهلات وظيفة الملك، ثانياً، وظيفة الملوك؛ وثالثاً، التوقعات التي نشأت في العهد القديم للمُلك المستقبلي في إسرائيل.
المؤهلات
أعلن الله في العهد القديم مؤهلات الملوك على مرحلتين. أولاً، أعلن الله في شريعة موسى معايير المُلك حتى قبل أن يكون لإسرائيل ملك. ثانياً، وفّر عهد الله مع داود مؤهِلاً إضافياً مع حلول الملكية. لننظر أولاً إلى قواعد المُلك المدرجة في شريعة موسى.
شريعة موسى
ما يلفت انتباهك حين تقرأ العهد القديم، لا سيّما الكتب الخمسة الأولى، وتسمّى التوراة، هو التوقّع المسبق لمجيء مَلك. لديك مواصفات المَلك، وما ينبغي أن يفعله وذلك قبل تواجد الملوك بفترة طويلة. لمَ كانت هذه هي الحال؟ أعتقد أنّ الجواب هو بالنظر إلى مقاطع معيّنة وتحديداً إلى تثنية 17، حيث يَرِد توقّع للمَلك، وللأعمال التي سيقوم بها على ضوء المخطّط الإلهي. ولا بدّ هنا أن نعود إلى آدم. كان آدم بمثابة نبي، وكاهن، وملك. لكنّه فقد إلى حدٍّ ما دوره كالسيّد على هذه الأرض، كالحاكم والملك. لكن ما لبث شعب إسرائيل أن استردّ هذا الدور من خلال العهد الإبراهيمي. ففي تكوين 17 وعودٌ بأنّه سيخرج ملوك من نسل إبراهيم. ومنذ ذلك الحين، بدأ هذا الدور يتحقّق في إسرائيل وبصورة فريدة من خلال الملك. وبالرغم من كون الإعلان عن الملوك في العهد القديم قد تمّ قبل سنين عديدة من تصريح موسى في تثنية 17، إلّا أنّه يمهّد الطريق إلى عودة نتائج الخطيّة إلى العالم، وإلى الإصلاح الذي سيأتي عن طريق الملوك المتحدّرين من نسل داود، بل أكثر من ذلك، إنّه يمهّد إلى مجيء الرب يسوع المسيح الذي أتى ليأخذ هذه الأدوار فيتمّم الدور الداودي، ويتمّم دور إسرائيل وآدم إلى النهاية، ويردّنا إلى ما خُلقنا لأن نكونه. ذلك كلّه توقّع مسبق. ذلك كلّه يهيّئنا إلى كشف خطّة الله، ويأتي بنا إلى الموضوع المسيحاني: "هذا ما سيحصل، هذا من سيأتي، هكذا سيتمّم المَلك كلّ تلك الأدوار". وأعتقد أنّ كلّ ذلك كان السبب الذي دفع موسى لأن يكلّمنا بهذه الأمور حتّى قبل أن يوجد ملوك.
د. ستيفين وِلَم
بينما كان موسى يعّد شعب إسرائيل لدخول أرض الموعد واحتلالها، شرح لهم أن الله سوف يعيّن لهم في آخر الأمر ملكاً عليهم. وأشار إلى أربعة قواعد كدليل للملك الذي يعيِّنه الله. استمع إلى ما كتبه موسى في تثنية 17: 14-19:
مَتَى أَتَيْتَ إِلَى الأَرْضِ... وَامْتَلَكْتَهَا وَسَكَنْتَ فِيهَا... فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً... لاَ يُكَثِّرْ لَهُ الْخَيْلَ، وَلاَ يَرُدُّ الشَّعْبَ إِلَى مِصْرَ لِكَيْ يُكَثِّرَ الْخَيْلَ... وَلاَ يُكَثِّرْ لَهُ نِسَاءً... وَفِضَّةً وَذَهَباً لاَ يُكَثِّرْ لَهُ كَثِيراً... يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ نُسْخَةً مِنْ هذِهِ الشَّرِيعَةِ... وَيَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، لِكَيْ يَتَعَلَّمَ أَنْ يَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَهُ وَيَحْفَظَ جَمِيعَ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ وَهذِهِ الْفَرَائِضَ لِيَعْمَلَ بِهَا. (تثنية 17: 14-19)
أشار موسى إلى أربعة قواعد تتعلق بمؤهلات المَلك. أولا، قال إنه على ملك إسرائيل أن يكون مختاراً من الله. فالشعب غير مؤهل ليختار ملكاً يقودهم في الطريق التي يطلبها الله. وليس لهم الحق أن يعهدوا إلى شخص السلطان المفوّض من الله. وحده الله يمكنه أن يفوّض سلطانه الخاص. وهو يعطيه فقط للشخص الذي يختاره.
الأمر الثاني الذي أشار إليه موسى في تثنية 17 أنه يجب أن يكون من شعب إسرائيل. أي يجب أن يكون من شعب الله المختار. وهذا كتحقيق للوعد الذي قطعه الله مع إبراهيم في تكوين 17: 1-8، حيث أقسم الله بأن يكون نسل إبراهيم ملوكاً على شعبه.
أما المؤهِل الثالث في تثنية 17، فهو أنّه يجب على الملك أن يعتمد على الله وليس على المخططات البشرية لتوطيد السلام والازدهار. ويشير موسى إلى أربع نواحٍ يمكن أن يبتعد فيها الملوك عن الاعتماد على الله.
كان محظوراً على الملك أن يجمع عدداً كبيراً من الخيل، على الأرجح بسبب أهميتها بالنسبة لجيشه. فقد كان على الملك أن يعتمد على قوة الله، وليس على القدرة البشرية، في صونه للأمة.
أما تحريم الرجوع إلى مصر فهو يشير إلى الخضوع لمملكة أعظم لتحميه وتدعمه، بل عليه أن يخضع لله.
أما حظر تعدد الزوجات فهو ينطبق بصورة خاصة على الاتفاقات السياسية التي كانت تصاغ من خلال ترتيبات الزواج. وهذه المسألة شكّلت مشكلة ليس لأنها جعلت إسرائيل تعتمد على دول أجنبية بدل اعتمادها على الله، بل أيضاً على الأرجح، لأن الزوجات الأجنبيات سيعبدن آلهة غريبة، ويعرضن الملك إلى أن يحذو حذوهن.
أما الوصية ضد جمع كميات كبيرة من الذهب والفضة، فتشير على الأرجح إلى فرض الضرائب بصورة غير عادلة. لم يكن خطأً أن يكون الملك غنياً، لكنه كان من الجرم أن يصبح غنياً عن طريق ظلم شعب الله.
وبصورة عامة، ضمنت هذه القيود اعتماد الملك على الله في نجاح ملكه وحماية أمته.
أما الأمر الرابع الذي شدّد عليه موسى في تثنية 17 هو أن على الملك ان يكون وفياً للعهد مع الله عن طريق قبوله لشريعة العهد والاحتفاظ بنسخة منها والتأمل فيها. وأريد من هذه الأفعال التشجيع على الوقار الشخصي، والتواضع اللائق، والحُكم الأمين.
كان ملوك إسرائيل ويهوذا يمثّلون الشعب أمام الله. وبالتالي كان لهم حضورٌ مقدّس كممثّلين لله على الأرض، وكممثّلين للشعب أمام الله على حدّ سواء. وهذا الدور الفريد المزدوج الذي لعبه الحكّام كان هامّاً لنفهم كيف كان الله يستجيب للملوك، وكيف كان ينعكس ذلك في النهاية على الأمّة بأسرها. لنلقِ نظرة على تاريخ إسرائيل ويهوذا بكامله. لم يكن هناك ملوك أتقياء في إسرائيل. كلّهم فعلوا الشرّ أمام الله. وكان أوّل سقوط للأمّة سنة سبعمئة واثنين وعشرين قبل الميلاد. ثم بعد ذلك نرى في يهوذا نوعاً من المدّ والجزر في علاقة الملوك مع الله، حيث لديك من جهة ملوكٌ أتقياء فعلوا الصلاح أمام الرب، ومن جهة أخرى ملوكٌ أردياء فعلوا الشرّ في عينيه. وعندما كان الملوك الأردياء يعملون الشر في عيني الرب كان لذلك نتائج وخيمة. وحين يحصل هذا كان الرفض الإلهي يُعلن على الملك وعلى الشعب على حدّ سواء. ويبدو أنّ سلوك الملك أو سلوك الشعب كانا مترابطين وينعكس سلوك كل منهما على الآخر. فإن كان الملك يقيم هياكل للأوثان ويعبد آلهة غريبة، كان الشعب يشترك معه في ذلك، والعكس صحيح. وحين كان هناك إصلاح كما في عهد يوشيا الملك، نرى أنّ استجابة الشعب لله ولشريعته كان لها أثرٌ على مستوى الأمّة ككلّ. إذن، كان للملك دور رئيسيٌّ في تمثيل الشعب أمام الله لكن أيضاً في تمثيل الله أمام الشعب.
د. مارك غينيليت
بعد أن استعرضنا المؤهلات التي يجب أن تتوفر في المَلك كما أعلنها موسى، لننظر إلى مؤهِلٍ إضافي وضعه الله في عهده مع داود.
العهد مع داود
أقام الله عهده مع داود في 2 صموئيل 7: 8-16، ونجد بنود هذا العهد في أماكن مثل المزمورَين 89 و132. وقد ثبّت هذا العهد سلالة داود كملوك دائمين على عرش إسرائيل. وقد أظهر الله لطفاً عظيماً لداود ولشعب إسرائيل عن طريق ضمانه أن سلالة داود ستحكم وسيتمتع شعب إسرائيل بالاستقرار مع استمرارية هذه الخلافة الملكية. استمع إلى وعود عهد الله مع داود في 2 صموئيل 7: 8-16:
أَنَا أَخَذْتُكَ مِنَ الْمَرْبَضِ مِنْ وَرَاءِ الْغَنَمِ لِتَكُونَ رَئِيساً عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ... وَعَمِلْتُ لَكَ اسْماً عَظِيماً... وَعَيَّنْتُ مَكَاناً لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ... وَقَدْ أَرَحْتُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ... أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ... وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ. (2 صموئيل 7: 8-16)
وفق هذا العهد الإلهي، أضاف الله مؤهِلاً جديداً على مؤهلات ملوك إسرائيل: فمن الآن وصاعداً، شعب الله سيكونون تحت قيادة ابن لداود. وبيت داود وحده له الحق الشرعي بالحكم الدائم على الأمة بكاملها.
باكراً منذ زمن كتابة التكوين بارك الله سبط يهوذا بالمُلك على إسرائيل. فقد قال يعقوب في الفصل 49: "لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا". ولما كان داود من سبط يهوذا، فإن وعد الله لداود كان تتميماً لبركته في كتاب التكوين. فقد كان قصد الله باستمرار أن يكون لإسرائيل يوماً ملك من سبط يهوذا. فمن خلال طاعة داود وولائه لله، وعد بأن الله ملك إسرائيل سيستمر إلى الأبد من خلال سلالة داود. ولهذا السبب كان مهماً بالنسبة لكتّاب الأناجيل أن يبرهنوا ليس أن يسوع هو مدعو من الله فحسب، بل أنه كان يتحدر مباشرة من نسل داود وله الحق الشرعي بعرش داود.
لقراءة هذه السلسة من المقالات (الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع)
هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org