ولّد العهد القديم الكثير من التوقعات حول الملوك المستقبليين، لا سيما حول الملك المسيحاني المميّز الذي أنبئ أنه سيحقق هدف الله في تأسيس ملكوته على الأرض. وبالطبع، يكشف العهد الجديد أن هذا الملك المسيحاني هو يسوع. من هنا، يجب أن ننظر إلى توقعات العهد القديم هذه مع بعض التفصيل.

سنتناول التوقعات بملك مستقبلي في إسرائيل والتي نشأت من مصدرَين:

الأول، التطور التاريخي للملكية في العهد القديم؛

والثاني، النبوات المحدّدة المتعلقة بملك مستقبلي على إسرائيل. 

 

التطور التاريخي

سنبدأ بالنظر إلى الدور الحيوي الذي لعبته وظيفة الملك البشري في خطة الله قبل المَلَكية في إسرائيل، من زمن الخلق إلى زمن قضاة إسرائيل.

 

قبل الملكية.

عندما خلق الله العالم، وضع آدم وحواء في جنة عدن ليخدماه كممثلين له فوق الخليقة. وقد أشار الله إلى هذا الدور للجنس البشري في تكوين 1: 26-27، حيث خطّط وخلق آدم وحواء على صورته.

في زمن العهد القديم كانت تعابير مثل صورة الله، شبه الآلهة، وابن الله مستخدمة بصورة عامة للإشارة إلى الملوك والأباطرة. وتعبّر هذه المصطلحات عن الاعتقاد بأن الملوك هم ممثلون أرضيون أو مندوبون عن آلهتهم. وكان دور الملك أن يضمن تتميم إرادة الله على الأرض. فعندما يدعو الكِتاب المُقدَّس آدم وحواء صورتين لله، فهذا يعني أمراً واحداً وهو أن الله عيّن الجنس البشري كله ليكونوا كممثلين له على الأرض. وبالمعنى الأوسع، خُلق كل البشر ليعيشوا كملوك، كملوك خدام لله يضمنون تتميم إرادته على الأرض. وهذه الفكرة أن الصور الإلهية تشير إلى ملوك، تساعدنا لنفسّر تكوين 1: 28، حيث أعطى الله هذا التفويض لوالدَينا الأَولَين:

 

وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ. (تكوين 1: 28)

 

أراد الله أن يحوّل الأرض بأكملها إلى ملكوته. فعيّن ممثلين له، الجنس البشري، ليملأوا العالم بممثلين إضافيين لله، وليمارسوا سلطانهم أو حكمهم على الخليقة بأكملها. وهذه الوصية تُسمى غالباً بالتفويض الحضاري لأنها تأمرنا أن نبني ملكوت الله عن طريق تأسيس حضارات وثقافات في كل العالم.

بعد سقوط آدم وحواء في الخطيّة، ابتعدا هما ونسلهما عن مسؤولياتهم الأصلية بحيث دان الله البشرية الخاطئة في طوفان نوح. لكن بالرغم من ذلك، لم يُلغِ الله الدور الملكي للبشرية في العالم. فبعد خروج نوح وعائلته من الفلك، أعاد الله التأكيد على التفويض الحضاري، آمراً كل ممثليه الملوك أن ينشروا الحضارة التي تكرّم الله في العالم.

لكن هذا التمثيل لله تبدّل بطريقة هامة في أيام إبراهيم. فقد فدى الله إبراهيم وجعله أباً لشعبه المختار، إسرائيل. وعلى الرغم من أن كل البشر كانوا ما زالوا ممثلين لله بالمعنى العام، فقد اختار الرب إبراهيم ونسله ليكونوا البكر بين كل عائلات الأرض. وقطع الرب عهداً خاصاً مع إبراهيم في تكوين 15 و17، مُشيراً إلى أن إسرائيل لها الدور الملكي الخاص في بناء أمة مقدسة لله. وهذه الأمة يجب أن تكون نقطة البداية لإعلان إرادة الله لكل الأمم الأخرى.

لاحقاً في التاريخ، بدأ الله في تتميم وعوده لإبراهيم عن طريق إرسال موسى ثم يسوع ليقودا بني إسرائيل. وخلال حكمهما، خلّص الله شعبه من عبودية مصر، وقواهم ليحتلوا كنعان، أرض الموعد، حيث سيصيرون أمة عظيمة من المفديين، ممثلي الله القديسين.

مع الأسف، فشلت إسرائيل في إتمام احتلال كنعان. لذلك بعد موت يشوع، تفككت الوحدة الوطنية وقاد الأسباط قضاة ولاويون مختلفون في فترة من الاضطراب الشديد. وعلى الرغم من أن الله بارك إسرائيل خلال تلك السنين، فإن قيادة القضاة واللاويين لم تكن مناسبة لتنقل إسرائيل إلى النجاح كالأمة القائدة لممثلي الله الملوك؟ ويوضح كاتب القضاة ذلك في كل كتابه. استمع إلى السطر الأخير في كتاب القضاة 21: 25:

 

فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ. (القضاة 21: 25)

وترد تعليقات مماثلة في قضاة 17: 6، و18: 1، و19: 1. وهذا التكرار يشدّد على أن إسرائيل يمكنها أن تتقدم نحو الأمام كشعب الله المختار فقط تحت قيادة ملك بار يخدم كممثل مميّز عن الله.

 

في الحقيقة يبدو أنّ كتاب القضاة هو الأساس المنطقي لمجيء الملك. هناك حلقة تتكرّر في كتاب القضاة؛ يقوم قاضٍ، وتكون الأمور حسنة لبعض الوقت، ثمّ يقع الشعب في الخطيئة ويصرخون إلى الله فيقيم الله آخر مكانه. ومن الواضح أن الكاتب يريد أن يشدّد على أنّه هناك حاجة إلى ما هو أكثر استقراراً وأكثر اطمئناناً، ويتوق إلى حاكم وقائد بحسب قلب الله. وبالطبع تنطبق هذه الصفة تحديداً على داود، الملك الذي بحسب قلب الله، والذي كان بمثابة نموذج لما ينبغي أن يكون عليه الملك، ليس فقط لشعب إسرائيل حينها، لكن في الواقع للطريقة التي يمارس فيها الله حكمه على شعبه. كتاب القضاة هو إذاً نوعٌ من الجدل حول الحاجة إلى ملك، ملك يحكم تحت سلطة الله، ملك يرينا كيف يحكم الله على شعبه في ذلك الوقت وفي أيّامنا هذه.

 د. سايمن فايبرت

 

من المهم أن نضع كتاب القضاة ضمن خطّة الله الكاملة، على طول قصّة الخليقة بدءاً من تكوين وصولاً إلى مجيء يسوع المسيح. ويلقي كتاب القضاة نظرة إلى الوراء، إلى الإعلان السابق، عندما كان آدم بمثابة رمزٍ ملكيّ وعندما كان إبراهيم في العهد الإبراهيمي يتوقّع مجيء ملوك من نسله، وعندما أعطى موسى العهد القديم، وإلى تثنية 17 حيث نجد التوقّع بمجيء ملك. مع أنه في تلك المرحلة من خطة الله لم يكن الملوك الفعليون المنتظرون قد أتوا. من هنا فإنّ كِتاب القُضاة، بمعنىً ما، يُظهر الحاجة إلى قادة، الحاجة إلى حكام. نرى يشوع يستلم من موسى والقضاة من يشوع. لكن، حتى الآن لا وجود لملك أنبأ عنه الله. فذلك لم يتحقّق بعد. أما القضاة فهم بحسب قيادتهم، إن كانوا صالحين كانت حالة الشعب عادةً لا بأس بها، وإن كانوا أشراراً كانت حالة الشعب يُرثى لها، ولم يكن هناك ملك. ويخبرنا كتاب القضاة أنّه بمجيء الملك ستتحسن الأمور. وسيتحقّق ما جاء في العهد القديم. بعد ذلك، ننتقل بالطبع من القضاة إلى شاول وداود، نوعٌ من مملكة في مواجهة أخرى – المَلك الذي من الناس ضد المَلك الذي من الله -وهذا ما يقودنا مرّة أخرى إلى العهد الداوُدي، إلى الوعود بابن أعظم لداود. كلّ ذلك جزءٌ من خطة الله، يهيّئنا إلى مجيء الرب يسوع المسيح، مُظهراً ما سيكون عليه الملك الحقيقي بالمقابلة مع سائر الملوك، والحاجة إلى ملك يردّنا إلى ما خُلقنا لنكونه. وذلك كلّه جزءٌ من خطّة الله التي تقودنا إلى يسوع المسيح.

 د. ستيفين وِلم

 

الآن وقد نظرنا إلى أصل المُلك البشري في الأيام التي سبقت المًلكية، دعونا ننتقل إلى التطورات التاريخية إبان المَلَكية في إسرائيل.

 

الملكية.

بحسب 1 صموئيل 8: 5-20، في نهاية فترة القضاة، تاق شعب إسرائيل إلى الاستقرار والنظام الذي وفّره الملوك عند الشعوب المجاورة. لكنهم رفضوا أن ينتظروا الله حتى يقيم لهم ملكاً في وقته الخاص. فطلبوا من الله أن يعطيهم مَلِكاً فوراً. واستجابة لطلبهم، أعطاهم الله شاول كالملك الرسمي الأول على إسرائيل.

من المهم أن ندرك هنا أن رغبة إسرائيل في ملك بشري لم تكن شريرة في ذاتها. فالله أعلن عدة مرات سابقاً بأنه خطّط لتصبح إسرائيل أمة قوية مع ملك بشري قوي. على سبيل المثال، في تكوين 17: 6، وعد الله إبراهيم أن ملوكاً سيتحدرون من نسله. في تكوين 49: 8-10، بارك يعقوب ابنه يهوذا بإعلانه أن واحداً من نسله سيملك على إسرائيل كملك. وكما رأينا سابقاً في هذا الدرس، وضع موسى الترتيبات المتعلقة بملوك إسرائيل في تثنية 17: 14-19. علاوة على ذلك، في صموئيل الأول 2: 10، قبل قليل من أن تلح إسرائيل على الله أن يعطيهم ملكاً، رفعت حَنَّةُ البارة صلاة نبوية أشارت فيها إلى أن الله سيقيم في النهاية ملكاً باراً على شعبه.

لكن على الرغم من خطط الله الصالحة للمُلك في إسرائيل، أخطأت الأمة برفضها الوثوق بالله وانتظار توقيته. ومن خلال تعيين الله لشاول ملكاً عليهم، أراد أن يؤدبهم جزئياً على هذه الخطيّة. ومع أن شاول جعل إسرائيل تتقدم في بعض النواحي، إلا أن تمرّده على الله جعل الرب يعزله هو وعائلته.

لكن بعد سقوط شاول، أعطى الله إسرائيل الملك الذي يحتاجونه، وذلك بتنصيبه داود ملكاً عليهم. ومثل سائر البشر الساقطين، كان داود خاطئاً. لكنه كان أيضاً رجلاً بحسب قلب الله. وساعد الله داود على توحيد الأمة، والانتصار على أعدائها، وإحلال الأمن والازدهار في إسرائيل. علاوة على ذلك، صنع الله عهداً مع داود بحيث يملك نسله دائماً على إسرائيل كملوك دائمين. ونقرأ عن ذلك العهد في مواضع مثل 2 صموئيل 7، وفي 1 أخبار الأيام 17، والمزمورَين 89 و132.

بعد موت داود، خلفه ابنه سليمان على العرش. من عدة نواحٍ كان عصر سليمان الأفضل في تاريخ ملوك إسرائيل. وقد وسّع أراضي إسرائيل، وزاد من ثروتها ومكانتها المرموقة. لكنه مع الأسف كسر شريعة الله بصورة خطيرة بعبادته آلهة نسائه الأجنبيات. لذلك قسّم الرب المملكة في أيام رحبعام ابن سليمان. والأجيال التي تلت كانت أقل أمانة لله، ما جعل كلا من إسرائيل ويهوذا يقعان تحت دينونة الله ويُسبيان من أرضيهما. فخضعت مملكة إسرائيل الشمالية إلى الأشوريين سنة 723 أو 722 قبل الميلاد. وسقطت مملكة يهوذا الجنوبية بيد بابل حوالي سنة 587 أو 586 قبل الميلاد. أما الملك الشرعي الأخير فكان يَهُويَاكِينُ سليل داود، المعروف أيضاً بيَكُنْيَا الذي خُلع عن عرشه وسُبي سنة 597 قبل الميلاد.

مع نهاية الحقبة الملكية، كان الله قد أعلن الكثير عن الملِك البشري. وبالمعنى الأوسع، كل البشر هم وكلاء لله على الأرض. أما بالمعنى الأضيق، كان لأمة إسرائيل مكانتها المميّزة كوكيلة لله، وكالعائلة البشرية المقدّسة التي دعيت لتكون نموذجاً للشعوب الأخرى. وبالمعنى الأضيق، قامت سلالة داود بلعب دور وكيل الله الرئيسي. فقد عيّن الله أبناء داود ليقودوا بني إسرائيل وبقية العالم في خدمة إرادة الملك الأعظم، الله نفسه.

الآن وقد نظرنا إلى التطور التاريخي لوظيفة المَلك قبل حقبة المُلك، لنفحص الفترة بعد المَلَكية، عندما كان إسرائيل ويهوذا في السبي ولم يكن هناك ملك من نسل داود.

 

السبي.

وعلى الرغم من أن البابليين دمروا أورشليم وخلعوا وريث داود عن العرش، فإن الإمبراطور الفارسي كورش احتل بابل وقضى بمرسوم أن يعود كل بني إسرائيل إلى أرض الموعد. ونقرأ عن هذا التطور في 2 أخبار الأيام 36 وعزرا 1.

والسنين التي تلت مرسوم كورَش تدعى العودة من السبي. والذين عادوا أعادوا تكريس مذبح الله، وبنوا هيكلاً جديداً، وأعادوا بناء أسوار أورشليم. وفي فترة باكرة في حَجَّي 2: 21-23، أخبر النبي حَجَّي البقية التي عادت بأنهم إن كانوا أمناء، قد يُعيّن الله حاكمهم زَرُبَّابِلَ، الذي هو من سلالة داود، ملكاً على عرش داود. لكن الشعب لم يكن أميناً مع الله. فانتهى العهد القديم ببقية من بني إسرائيل يعيشون في أرض الموعد، مع رجائهم بالمجد مؤجَلاً إلى المستقبل.

في الفترة ما بين العهدين القديم والجديد، استمر ارتداد اسرائيل بتأخير عودة المُلك في إسرائيل. وهزمت المملكة اليونانية المملكة الفارسية ووقع بنو إسرائيل في فلسطين تحت حكمها. ولاحقاً هزمت الإمبراطورية الرومانية اليونانيين وسيطرت على أرض الموعد. وخلال كل تلك الفترة، لم يكن في إسرائيل ملكٌ معيّنٌ من الله.

والحالة المزرية لإسرائيل تحت طغيان الأشوريين والبابليين والماديين والفرس واليونان والرومان برهنت أمراً واحداً بوضوح: كانت الحاجة إلى أن يملك ابن بار لداود يضمن مستقبل أمة إسرائيل؛ فالأمة بحاجة إلى ملك من نسل داود ليتّمم دورها في العالم كشعب الله المختار. من هنا، استمر شعب الله الأمين بالنظر إلى المستقبل إلى الوقت الذي سيكرّم فيه الله عهده مع داود ويرسل الملك البار من نسله ليخلصهم من مضايقيهم ويحقق إرادة الله على العالم أجمع.  

الآن بعد أن نظرنا إلى التطورات التاريخيَّة لوظيفة الملك في إسرائيل، لننظر في التوقعات المستقبلية للملك الذي قام بناء على نبوات محدّدة في العهد القديم.

 

لقراءة هذه السلسة من المقالات (الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع)

 

هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org