مارس ملوك إسرائيل في العهد القديم، حُكما أميناً على شعب الله بالدرجة الأولى عن طريق طاعة شريعة الله والحكم بموجبها. وكما رأينا في دروس سابقة، كان من الشائع بالنسبة للأباطرة الأقوياء، أو الملوك الأسياد في الشرق الأدنى القديم، أن يخضعوا ممالك أضعف من ممالكهم، جاعلين إياها خادمة أو تابعة لهم. وكان الملوك الأسياد يديرون عادة البلدان الخاضعة لهم من خلال اتفاقات أو عهود، تُلزم الممالك الخاضعة بخدمة الملك السيد والخضوع لشرائعه. والأمر نفسه ينطبق على علاقة إسرائيل بالله. فالأمة بكاملها كانت مطالبة أن تطيع عهد الله، وكان على الملك أن يضمن هذه الطاعة.

وكان الملوك يضعون شعبهم أمام مسؤولياتهم بطاعة عهد الله بطرق عدة. لكن من أجل أغراضنا في هذا الدرس، سنركّز على المسائل الأهم في الشريعة أو ما دعاه يسوع "أَثْقَلَ النَّامُوسِ". ولقد قال يسوع في متى 23: 23:

أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. (متى 23: 23)

فوفق ما قاله يسوع، وفي مقابل تركيز الفريسيين على الطقوس والشعائر، فإن الخصائص الأهم في الشريعة هي الحق أو العدالة، والرحمة، والإيمان أو الأمانة.

سنعرض الطرق التي أطاع من خلالها ملوك العهد القديم شرائع الله وطبّقوها بموجب كل من هذه الخصائص الهامة.

أولاً، مسؤولية الملك في تحقيق العدالة.

ثانياً، واجب الملك في تطبيق الرحمة.

وثالثاً، دور الملك في التشجيع على الأمانة.

 

العدالة

في سياق مسؤوليات المَلِك، يمكن تعريف العدالة كما يلي: مقاضاة كل إنسان حسب استحقاقه، وفق شريعة الله.

نحن كأفراد أو حكّام، لنا الحقّ والحريّة والإرادة لنختار السلوك في الطريق السليم أو في طريق الشر. في النهاية، سيحاكمنا الله جميعاً. وكنتيجة لذلك، سيُحاكم أولئك الحكّام. فحين يأتي يسوع سيردّ الأمور إلى نصابها الصحيح. لكن حتى ذلك الحين، لدينا مهمّة لنقوم بها، وهي أن نحيا كأفرادٍ ينتمون إلى ملكوت الله، وكمواطنين في الأرض صفتهم سماوية. في الزمن الحاضر، نحن نسعى لتحقيق العدالة والمساواة، ونحترم الآخرين ونكرم الضعفاء. ونواجه الظالم بترسيخ العدالة، ونسعى جهدنا لتحقيق المساواة بين الناس، عالمين أنّنا ما زلنا نحيا في عالمٍ شرّير، عالم ممزّق، عالمٍ واقع تحت دينونة الله. وفي هذا العالم لا يزال العنف والفقر والجهل والفساد ينتشرون. ونحن في عالم الظلام هذا من واجبنا أن نشع بالنور، ونذكّر الآخرين بأنّ في السماء إلهاً محبّاً يهتمّ بإزالة الظالم، وأنّه مهما طال التصرّف الوحشي والفساد والتكبّر في الأرض وكلّ هذه الأمور السيّئة، فهذه أمور وقتية ومحدودة لأنّ الله سيقوم في النهاية بإصلاح كلّ شيء.

د. جوناثان كتّاب

 

كان على ملوك إسرائيل أن يحققوا العدالة على مستويَين مختلفَين على الأقل: على المستوى الأول، كان عليهم أن يحققوا عدالة الله على المستوى الدولي، بفرض شريعة الله بين إسرائيل والشعوب الأخرى.

إحدى الطرق التي كان الملوك يحققون من خلالها العدالة على المستوى الدولي، كانت بالتفاوض لتحقيق السلام مع الشعوب الأخرى كما فعل سليمان مع حيرام ملك صور، في ملوك الأول 5: 1-12.

كذلك سعى الملوك إلى تحقيق العدالة على الدول من خلال الحروب. وقد فعلوا ذلك بمعاقبة الأمم الشريرة كما فعل شاول في صموئيل الأول 14: 47-48. وكما فعل داود في صموئيل الثاني 8: 1-13. وكان الملك يدافع عن الأمة عندما تُهاجم، كما فعل داود في صموئيل الثاني 5: 17-25، وكما فعل حزقيا في ملوك الثاني 19. يلخّص المزمور 2 العدالة التي كان على ملوك إسرائيل أن يمارسوها نحو الشعوب التي تمردّت عليهم وعلى الرب. اصغ إلى ما يقوله في 6-12:

 

أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي... قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. ‏اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ. ‏فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ. ‏(مزمور 2: 6-12)

 

تتبع هذه الأعداد العادة المتبّعة في الشرق الأدنى القديم بالإشارة إلى الملك السيد كأب، وإلى الملك التابع كابن. في هذه الحالة، كان الله الملك السيد والملك من نسل داود هو الابن. وخطة الله للعالم كانت تقتضي بأن تخدم تلك الأمم الملك الداودي وتطيعه. كان عليهم أن يهابوه ويكرموه لأنه أداة الله في إقامة العدالة في العالم.

على المستوى الثاني، كان الملوك مسؤولين أيضاً عن تحقيق عدالة الله على المستوى الوطني داخل إسرائيل. فرض الملوك العدالة الوطنية عن طريق قيادة شعب الله المميّز في الطاعة لشريعته. وهذا شمل أموراً مثل تأمين احتياجات الضعفاء وحمايتهم، كما نقرأ في أمثال 29: 14 والدفاع عن المظلومين، كما نرى في مثال داود في 2 صموئيل 4: 9-12؛ ومقاضاة المجرمين، كما في 2 ملوك 14: 5؛ وتوطيد الاستقرار لنجاح المواطنين وازدهارهم، كما نتعلم من المزمور 72.

علاوة على ذلك، كان على الملوك أن يحرصوا على الاستقامة في القضاء فلا يفضِّلون الأغنياء على الفقراء، ولا الأقوياء على الضعفاء. والكتاب المقدس يتحدث عن هذا الدور للملوك في عدة أماكن بما في ذلك لاويين 19: 15، وإشَعياء 11: 1-5.

بالعودة مرة أخرى إلى تعريف يسوع للمسائل الأهم في الشريعة، أو أَثْقَلَ النَّامُوسِ، فإن الطريقة الرئيسية الثانية التي على الملوك أن يطبّقوا من خلالها شريعة الله، هي الرحمة.

 

الرحمة

الرحمة هي التمثل بحنان الله نحو خلائقه. الله غالباً ما يعامل خلائقه بصبر عندما يخطئون، ويتفهم ضعفهم. وهو يمنحهم الخيرات في الحياة، ويريحهم من الألم، ببساطة لأنه يُسَّر بأن يُظهر لطفه نحو خليقته. ويتحدث الكِتاب المُقدَّس عن رحمة الله في مواضع عدة، مثل المزمور 40: 11؛ والمزمور 103: 8؛ ويونان 4: 2.

كما هي الحال مع العدالة، نشدّد على أن الملوك يجب أن يعملوا الرحمة على الأقل في مجالَين، بدءاً من العلاقات على المستوى الدولي. على المستوى الدولي، مارس الملوك الرحمة نحو الأمم والشعوب التي خضعت لإله إسرائيل. على سبيل المثال، في صموئيل الثاني 10: 19، نجد أن عددا من الملوك التابعين لأحد أعداء إسرائيل، قد عاملهم داود بالرحمة عندما تصالحوا معه. وفي 2 صموئيل 10: 1-2، عامل داود ملك العمونيين بالرحمة.

علاوة على ذلك، أنبأ أنبياء العهد القديم بأن الأمم الوثنية ستخضع في النهاية لأورشليم. وسيأتون ليدفعوا الجزية في عاصمة مملكة الله، وينالون الرحمة والحماية من الملك المعّين من الله. وهذه الأمور مُتَنبأ عنها في أماكن مثل إشَعياء 60: 1-22، و66: 18-23، وميخا 4: 1-8، وصَفَنْيَا 2: 11.

بالطبع، كما رأينا في بحثنا حول العدالة، لا يريد الله أن يُظهر الرحمة دائماً. وهو يطلب أحياناً من الملك أن يمنع الرحمة عن الأمم الشريرة. على سبيل المثال، في 2 صموئيل 5: 17-25، أوصى الله داود بمعاقبة الفلسطيين، وهو ما قام به داود دون رحمة. فقد كان شرّهم كبيرا بحيث كان لا بد من معاقبتهم. من هنا تكون مسؤولية الملك، التمييز بين متى يريده الله أن يُظهر الرحمة، ومتى يريدُه أن يمنعها.

إلى جانب إظهار الرحمة في العلاقات على المستوى الدولي، كان على الملك أيضاً أن يطبّق شريعة الله بإظهار الرحمة على المستوى الوطني. بما أن الملك خادم الله، فهو مطالب أن يعامل شعب الله بالطريقة ذاتها التي يعاملهم الله بها. وهذا يعني أن يعاملهم بالرحمة. وكما نقرأ في أماكن مثلِ هوشع 6: 6، رغب الله في أن يُظهر شعبه الرحمة أكثر من تقديمهم للذبائح التي أمرت بها الشريعة. وهذا لا يعني أن شريعة الله غير مهمة، بل يعني بالحري أن الرحمة هي أحد أهم مطالب الشريعة. لهذا السبب، الملك الرحوم هو القائد المثالي، هو شخص على مثال الله في الاهتمام بالآخرين. وهذه الرحمة ظهرت في مواقف داود في مواضع مثلِ 2 صموئيل 19: 18-23، حيث أظهر رحمة نحو الأعداء الذين خضعوا له.

 

يمكننا أن نرى الرحمة في كل شريعة العهد القديم. وإذا استطعنا أن نتفوّق على نزعتنا إلى اعتبار الشريعة أمراً رديئاً وقرأناها على أنّها مرسال رأفة من الله، سنبدأ نرى الرحمة في كلّ مكان. فحتّى حينما ننظر إلى الوصايا العشر كنقطة انطلاق، نرى فريضة كحفظ السبت مثلاً باعتباره يوماً مقدّساً في الوصية الرابعة. لكن علينا أن نذهب بقراءتنا أبعد من القسم الأوّل للوصيّة لنرى أنّنا لسنا مدعوّين إلى الاستراحة في يوم الرب فحسب، أو في يوم السبت، بل نحن مدعوون أن ندع الخدّام في منزلنا، مواشينا وكلّ ما هو تحت أيدينا يرتاح أيضاً في هذا اليوم. في عالمنا العصري، كنّا لنقول، إنّ رجلاً أو امرأة صاحب عمل، يهاب الله ينبغي أن يرأف بموظّفيه ولا يعاملهم كثرواتٍ يجب أن تستنزف من المناجم، بل أن يعاملهم كبشر. ومن جهة أخرى يجب أن نكون مسؤولين تجاه الناس الذين جعلهم الله رؤساء علينا. فالرحمة لها مكانتها في الشريعة، لأنه يوجد في العهد القديم العديد من الأحكام الفرديّة المفصّلة التي تظهر الرحمة. كالوصيّة في تثنية التي تقضي بترك لقاط الحصيد على أطراف الحقل حتّى إذا ما مرّ المسكين والغريب يكون له ما يأكله، ويلتقط ممّا تُرك بعد الحصاد. وفرائض أخرى من العهد القديم كتلك التي توصي بألّا تأخذ رباً أو ربحاً من أهل بلدك. في ذلك العالم لم يكن الأمر استثماراً اقتصاديّاً رأسماليّاً، وكان تقاضي الربا غالباً طريقة لاستغلال الناس والاستفادة على حسابهم. وبالتالي عدم تقاضي الربا كان بمثابة تعبير عن الكرم. فإذا قام أحدهم بالانتفاع من أحد اخوته المحتاجين، فسيغتني على حسابه، لكنه سيَحرم الآخر. فالوصية تأمر بألّا تفعل ذلك. بل على العكس، كن كريماً ولا تتقاضى رباً وربحاً مّمن هم في عوز. وهناك أيضاً شريعة الإعفاء من الديون كلّ سبع سنين، أو شريعة اليوبيل التي ردّت الشعب إلى الأرض التي أبعدتهم عنها أقدارٌ مشؤومة. ففرائض الإصلاح هذه تظهر رحمة الله مع شعبه وهو يعطيهم هذه الفرائض ليريهم ذاته من خلال شرائع العهد القديم.

 ق. مايكل غلودو

الأمانة

يمكن تعريف الأمانة كوفاء لله يظهر من خلال الثقة والطاعة القلبية. الأمانة تتضمن الإيمان بأن الله هو حقاً ما يقول، ونخدمه بأمانة وحده دون آلهة أخرى ونطيعه بمحبة.

كما فعلنا مع العدالة والرحمة، سننظر إلى ناحيتين كان الملك من خلالهما ملزماً بالتشجيع على الأمانة، بدءاً بالعلاقة على المستوى الدولي. كان على ملوك إسرائيل أن يقودوا شعب الله نحو الأمانة لله بحيث تتوب الأمم المجاورة عن عبادتها الصنميةِ وخطيّتها، وتبدأ في خدمة الله. وقد تمّم الملوك هذا الدور بصورة خاصة عن طريق تأسيس عبادة أمينة في أمة إسرائيل، كما نرى في صلاة سليمان في تدشين الهيكل في 1 ملوك 8: 41-43. وهذا التفويض الشامل في تلمذة الشعوب وتهذيبهم مشار إليه أيضاً في مقاطع مثل المزمور 72: 8-11 وزكريا 8: 20-23.

بالإضافة إلى التشجيع على الأمانة لله على المستوى الدولي، كان على الملك أيضاً أن يشجّع على الأمانة على المستوى الوطني. كان على الملك أن يشجّع على الأمانة داخل أمة إسرائيل بصورة خاصة من خلال صون الطهارة في العبادة. والملوك الصالحون يوفرون الموارد والخطط للعبادة، وينظمون الموظفين، ويضعون سياسات لصيانة الهيكل، ويلعبون غالباً أدواراً هامة في احتفالات العبادة العامة. على سبيل المثال، قام داود بهذه الأمور في 1 أخبار الأيام 15 و16 و23 إلى 28.

إن التزام الملك بالتشجيع على الأمانة في إسرائيل أثر على الأمة بطرق عميقة. فقد كان الملك ممثلَ الأمةِ امام الله، وغالباً ما اختبر الشعب بركات عظيمة تحت قيادة الملوك الأمناء، وكانت الدينونة قاسية عندما كان الملوك غير امناء. فالله بارك الملوك الأمناء وازدهرت أمة إسرائيل إبان حكمهم، واتسعت حدودُها. أما الملوك غير الأمناء فكانوا يُعاقبون. في الواقع، يضع كتاب الملوك جزء من اللوم في سبي يهوذا على عصيان ملوك إسرائيل. استمع إلى كلمات الملك سليمان في 1 ملوك 9: 6-7:

إِنْ كُنْتُمْ تَنْقَلِبُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَبْنَاؤُكُمْ مِنْ وَرَائِي، وَلاَ تَحْفَظُونَ وَصَايَايَ، فَرَائِضِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَكُمْ، بَلْ تَذْهَبُونَ وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى وَتَسْجُدُونَ لَهَا، ‏فَإِنِّي أَقْطَعُ إِسْرَائِيلَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، وَالْبَيْتُ الَّذِي قَدَّسْتُهُ لاسْمِي أَنْفِيهِ مِنْ أَمَامِي، وَيَكُونُ إِسْرَائِيلُ مَثَلاً وَهُزْأَةً فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ. ‏(1 ملوك 9: 6-7)

 

مع الأسف، لم يكن كل ملك من ملوك إسرائيل أميناً لله، وغالباً ما تألم الناس نتيجة لذلك. لكن حتى عندما أُهمل الهيكل أو سقط الشعب في خطيّة عبادة الأصنام، فإن الملوك الأمناء نجحوا غالباً في القيام بإصلاحات وردّ الشعب إلى عبادة الله. وهذا ما حدث مع حزقيا في 2 ملوك 18: 1-8، ومع يوشيا في 2 ملوك 22: 1-23: 25. وقد شجّعت، بل قادت جهودهم الإصلاحية الشعب على الأمانة لله، ما جعل الله يبارك الأمة خلال حكم هؤلاء الملوك.

بعد أن استعرضنا مؤهلات ووظائف ملوك العهد القديم، صرنا مستعدين أن ننظر في التوقعات التي نشأت في العهد القديم حول الملك المستقبلي في إسرائيل.

 

لقراءة هذه السلسة من المقالات (الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، السابع، الثامن، التاسع)

 

هذه المقالة مُصرح بإعادة نشرها من موقع thirdmill.org