على مر التاريخ حاولت الكنيسة أن تصيغ كيفية عمل المسيح الكفاري لأجلنا، مُحاولة أن تشرح بعض الآيات والصور الكتابية في شكل نظريات، نشأت تلك النظريات في سياق لاهوتي يشرح ما نؤمن به، وبعضها في سياق دفاعي موجَّه إلى الهرطقات التي ظهرت في عصر ما، لذا مِن المُهم أن نفهم الإطار الثقافي والفكري الذي نشأت فيه تلك النظريات والذي كان له تأثير كبير على رؤية وتفسير بعض النصوص الكتابية. تعرضت تلك النظريات للنقد والتطوير، وبعضها باقٍ حتي الآن. وفي تلك السلسلة سوف نعرض باختصار أشهر تلك النظريات، والنقد الموجه لها، وحين ننظر للنقد علينا أن نحدد أي طريقة مُتبعة في النقد، فللنقد طريقتين:

  • الأولي هي السلسلة المفقودة “Broken Chain”: حيث يتم إظهار ثغرة مفقودة في شرح النظرية.

                         

 

 

 

 

  • الثانية هي “six or nine perspective”: حيث يتم النقد لا بناءً على مشكلة في النظرية ولكن بسبب توجه مختلف في شرح المُصطلحات المُستخدمة بسبب الرؤية المُختلفة لمدارس التفسير الكتابية.

                            

 

 

 

 

 

لذا يجب التفرقة بين الطريقتين في نظرتنا النقدية للنظريات هل نرفض بعض الأفكار لوجود ثغرة بالفكرة أم لأن تعريفنا للمصطلحات التي نبني عليها إيماننا مُختلف.

 

عرض لأشهر النظريات

 

نظرية الاسترداد/ الانجماع الكلي، “Recapitulation”:

     كتب "أريناؤس" تلك الصياغة محاولًا الرد على الهرطقة الغنوسية السائدة في هذا الوقت والتي تَسَرَب جزء مِن تعاليمها إلى الفكر المَسيحي في العصور الأولي، ونادي البعض بأن المسيح لا يُمكن أن يكون له جسدًا حقيقيًا كإنسان كامل -لأن كل ما هو مادي، هو شر بحسب الفكر الغنوسي-، مؤكدين فقط على لاهوته. مٍن هنا جاء "أريناؤس" مؤكدًا على إنسانية المسيح، وأنه بسقوط أدم الأول لم يفلت آدم من يدي الله، فقد كان الله حاضرًا في البشرية في العهد القديم إلى اليوم الذي تجسد فيه المسيح متحدًا ببشريتنا. في تأنس المسيح جمع في نفسه تاريخ الإنسان "لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ...."[1]. إن المسيح في جسده الإنساني عاش في كل المراحل العُمرية، وبذلك افتدي كل الإنسانية بمراحلها المختلفة بحياته الطائعة كإنسان كامل. وفي التجربة على الجبل يُسترَد سقوطنا في آدم الأول -الذي تمرد في جنة عدن-، بطاعة المسيح، "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ!"[2]. وبينما كانت الخشبة القديمة -أي: شجرة معرفة الخير والشر- سببًا في سقوط البشرية التي تمردت، صارت خشبة الصليب رمزًا للطاعة، حيث قدم المسيح نفسه على الصليب طواعية، "وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ."[3].

نقد النظرية:

  • تركيز "أريناؤس" على إنسانية المسيح مهم جدًا، فنحن نؤمن بأن المسيح هو إله كامل، وإنسان كامل. وتعتبر الثغرة الرئيسية في تلك النظرية هي فكرة "أن المسيح عاش في كل المراحل العُمرية"، فكما نعلم أن المسيح مات في الثلاثينات من عُمره ولم يجتاز في مرحلة الشيخوخة مثلا.
  • يري البعض أن "اريناؤس" قدَّم مُفارقة كتابية بين أدم الأول، وأدم الأخير -أي: المسيح-، وركَّز على مبدأ طاعة المسيح على عكس تمرد أدم، لكن افتقرت نظريته لمفهوم الذبيحة والعدل في شرح الصليب، واقتصر على شرح كون صلب المسيح إعلان طاعة.[4]

 

نظرية الفدية:

  مِن المُتعارف عليه أن "أوريجانوس" من رواد تلك النظرية ومِن بعده "غريغوري الكبدوكي"، واختلفت الآراء حول موقف "غورغوريوس النيصي"، في كتابه "صليب المسيح" يخبرنا جون ستوت أن غورغوريوس أول مَن رفض تلك الفكرة[5]، بينما في كتابه "العدالة الإلهية" يخبرنا "هاني مينا" أنه من أول الأباء الذين اتبعوها[6] وتستند تلك النظرية على الصورة الكتابية للفدية، والتي ذُكرت في أكثر مِن مَوضع، منها: " الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ"[7]. توضح النظرية أن عمل الله الخلاصي ليس بعيدًا عن عدله، والعدل يقتضي احترام الحقوق الشرعية للشيطان، لأنه مِن بعد السقوط، أسلم الإنسان حريته وسلطته على الأرض إلى إبليس - رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ-[8]. لذا جاء المسيح كإنسان كامل ليُقدم نفسه فدية عن البشرية الساقطة. فكانت المفاوضة بين الله والشيطان أن يدفع الله له فدية "موت المسيح" مقابل استرداد حياة البشرية، وظن الشيطان أنه بموت المسيح على الصليب قد امتلك الابن، ولكن لم يكن يَعلَم أن الصليب ليس النهاية وأن هناك قيامة، وبالقيامة خسر الشيطان سلطته على كل شيء. تبني البعض مثل أوريجانوس تلك الصياغة لنظرية الفدية والبعض استخدم المصطلح الكتابي دون الإشارة إلى أن الثمن المدفوع قد دُفع للشيطان، والبعض قال إن التمن مدفوع للآب استيفاءً لمطالب العدالة الإلهية وليس للشيطان.[9]

نقد النظرية:

  • أكدت النظرية على مفهوم العدل الإلهي، ولكن في الصياغة التي تشير لدفع الفدية للشيطان وقعت في هرطقة الثنائية [10]“Dualism”، حيث ساوت بين الله والشيطان، وأعطته سلطة أعلى مِن سلطته.
  • أكدت على انتصار المسيح في حدث القيامة، وأن الموت لم يكن النهاية، ولكن في تأكيدها هذا صورت الله في دور المُخادع الذي لم يلتزم بصفقته مع الشيطان وخدعه.
  • في صياغتها التي تقول بأن الثمن المدفوع قد دُفع للآب مِن الابن، تقع النظرية في مشكلة الفصل بين الأقانيم في الذات الثالوثية الواحدة.

 

وسنستكمل عرض النظريات في مقال قادم....

 

الجزء: الأول، الثاني، الثالث، الرابع

 

[1]  (أف 1: 10)

[2]  (رو 5: 17)

[3] (في 2: 8)

[4]  بلانتينجا، مقدمة في علم اللاهوت النظامي، محاضرات: كلية اللاهوت الانجيلية بالقاهرة، الفصل العاشر: الكفارة، 15- 16. 

[5]  جون ستوت، صليب المسيح، ترجمة: نجيب جرجور (دار النشر الأسقفية)، 127.

[6] هاني مينا، العدالة الإلهية حياة لا موت مغفرة لا عقوبة، (الطبعة الثالثة، 2010)، 65.  

[7] (1 تي 2: 6)

[8]  (أف 2: 2)

[9]  جون ستوت، صليب المسيح، 126- 128.

[10] هي هرطقة تدعي أن هناك قوتين متساويتين دائمتي الصراع، قوي الخير وقوي الشر.