بعد أن تعرفنا على الطريقة التي يَفهم من خلالها أتباع اللاهوت الشرقي، والغربي بعض المصطلحات مثل: (الخطية، والموت، وغضب الله، وتأثر الله) سنعرض الآن نموذج لأشهر نظرية في كلًا منهما.   

نموذج لأحدي نظريات أتباع اللاهوت الشرقي: التأله بالاتحاد

     يُعتبر القديس أثناسيوس أول مًن تحدث عن تلك النظرية في عدة كتابات له أهمها "تجسد الكلمة"، مبنية على النص الكتابي: "أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ"[1] والذي اقتبسه السيد المسيح[2]

    وعلى غير الشائع فإن النظرية لا تدَّعي أننا سنصير آلهة ولكن تستخدم التعبير الكتابي لبطرس الرسول "شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ"[3]. تبدأ النظرية بكون الإنسان خُلِق بالكلمة -Logos- مِن العدم (أي: حالة اللا معني، واللا وجود، واللا كينونة)، وبالسقوط قرر الإنسان بإرادته أن يعود لهذا العدم بكيفية ما، ووحده الكلمة هو القادر أن يُعيده ويحرره مِن سلطان العدم، لذا تجسد الكلمة واتحد ببشريتنا ليُعيدنا من حالة الفساد واللا معني.[4] ولأن أدم لم يكن مُعدًّا للتألُّه بدون المسيح، فإن حتمية التجسد لم تكن فقط بسبب الخطية، حيث يعتقد القديس أثناسيوس أن الإنسان بطبيعته خُلِق ضعيف، وغير خالد لذا وجَب اتحاده بمصدر الخلود ليستطيع أن يشارك الله في طبيعته الأبدية. هذا الإتحاد لم يكن ليحدث بدون تجسد الكلمة واتحاده بنا، لذا كإنسان كامل اتحد ببشريتنا وكإله كامل وَحَدنا معه.[5]

      " لأن كلمة الله صار إنسانًا ليؤلهنا معه"[6]

                                                        القديس أثناسيوس الرسولي

ويوضح القديس أثناسيوس أنه على الصليب حدث فعلين مُتناقضين: الأول، هو موت الجميع في جسد المسيح، والثاني، هو إبادة الموت من الجسد بفضل اتحادنا بجسده.[7]  

    يختلف العدل الإلهي عن العدل البشري في فكر القديس أثناسيوس، فإن العدل البشري يهتم بالعقوبة، أما العدل الإلهي يهتم بإعادة ما قد فسد، وعليه لم يكن كافيًا أن يموت المسيح عنا، فإن موت البريء لا يُحرر المُذنب، ولكن الأساس كان اتحاد هذا البريء في بشريتنا اتحادًا مُمثلًا في المسيح يسوع، ليلبس الفاسد -أي: جسدنا- عدم الفساد[8]، وبهذا تتم الكفارة.    

    يؤكد الفهم الأرثوذكسي الشرقي على الفهم الأنطولوجي -المَعنيّ بوجود الإنسان- لا القانوني للكفارة، حيث يهتم بالتغيير الذي يحدث للإنسان. بحسب تعبير (فينيس نيقولا) عن هذا المفهوم:

"هو تحوّل حالة البشر نفسها، وتغيرها في الابن الذي أخذ الطبيعة البشرية"[9]

وقد كان موت المسيح تدميرًا لقوي الموت، كما يقول القديس غريغوريوس النيزي:

"لقد احتجنا إلى أن يصنع الله جسدًا مائتًا، حتى نتمكن نحن من الحياة"[10].

 

نقاط ضعف النظرية من وجهة نظر أتباع اللاهوت الغربي:

    من وجهة نظرهم -أي: أتباع اللاهوت الغربي- فإن تلك النظرية تفتقر إلي النظرة القضائية القانونية، فهي تركز على تأثير الخطية على الإنسان، دون أن تُشير إلى تأثير خطيتنا على الله و على علاقتنا به. كما يُركز على المسيح الإله الذي يؤلِّه بشريتنا، وهذا التركيز قد يُفهم خطأ عند البعض على إنه تعليم غنوسي. وفي رأيهم يُعطي القديس أثناسيوس مكانة لتجسد المسيح وكونه المُتَحِد ببشريتنا، وخلاصنا بسبب هذا الإتحاد بالتجسد أكثر مما يُركِّز على الخلاص بالصليب، ولم يُركِّز على مفهوم ذبيحة المسيح المُقدَّمة بدلًا عنا لفدائنا.[11]      

 

نموذج لأحدي نظريات أتباع اللاهوت الغربي: البدلية النيابية العقابية

    طور المُصلحون صياغة أنسلم لنظرية الترضية بحيث قالوا أن ترضية الله ليست اشباعًا لكرامته، ولا عدلًا بشريعته، فهي ليست بشيء خارج عن ذاته الإلهية وإنما مؤسَّسة فيها. أن يُرضي الله ذاته أي أن يكون مُتسقًا ذاتيًا، دون وجود صفة ما عنده تعلو على الأخرى.[12]

     وتشمل تلك النظرية بُعدين لتأثير الخطية: البُعد الإنساني، حيث أثرت الخطية على الإنسان الذي انفصل عن الله واستحق أن ينال عقوبة على خطيته، والبُعد الأخر هو البُعد الإلهي، حيث تعتبر تلك الخطية تعدي على الذات الإلهية وعلى قداسة الله، لذا فإن موت المسيح على الصليب كان لتتميم مقاصد القداسة والعدل الإلهي ولاسترداد الإنسان. وتُركز تلك النظرية على مفهوم ذبيحة الإثم التي تُقدم للتكفير عن الخطايا طبقًا لنموذج العهد القديم الذي كان مثالا للمسيح الذي قدم حياته بدلًا عنا لغفران خطايانا. حيث دخل الأقداس مرة واحدة بدمه بدلًا عنا فوجد فداءً أبديًا. وعليه فإن موت المسيح على الصليب لم يحمل خطايانا فقط بالاتحاد معنا ولكنه حمل النتائج الجزائية -أي: عقاب الخطية- لذا تُسمي ب "البدلية العقابية".  

      يوجد ثلاث صياغات تُناقش تلك النظرية من أبعاد مُختلفة نسبيًا، ولكل نظرية طريقتها في شرح كفارة المسيح على الصليب.

الصياغة الأولي: تناقش البدلية من منظور قضائي

      حيث تتحدث تلك الصياغة عن كون المسيح عوقب عقابنا حيث اتحد الكلمة ببشريتنا، واتخذ عقوبة الموت بدلًا عنا. ومات موتنا، وهو الذي لم يعرف خطية "صار خطية"[13] و"صار لعنة"[14] فالموت الذي استحققناه بسبب آثامنا حمله كالمُذنب -وهو الذي لم يفعل خطية قط-. وعاني من الاغتراب، حيث اختبر الترك الإلهي فصرخ "إِلهِي، إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"[15]، لأن الآب حجب وجهه عنه، وتركه يُعاني من كل الآلام الكفارية. وحمل دينونة الغضب، فقد حلَّ عليه الغضب الإلهي الذي كان مُعلَن على فجور الناس وإثمهم، وعوقب من الآب بدلا عنا.[16]

باختصار: (الآب أصدر الحُكم القضائي على الابن بدلًا عنا).

الصياغة الثانية تُناقش البدلية مِن بُعد علاقاتي:

     في كتابه "المسيحية المُجَرَّدة" يشرح (سي- اس- لويس) تلك الصياغة لنظرية (البدلية العقابية) ويشرح أننا قد لا نقبلها إن نظرنا لها من "البُعد القضائي" حيث ننظر للعقاب بفكرة المحكمة ونكون نحن الجناة والمسيح هو البريء الذي اتُهِمَ ظلمًا بدلًا عنا. ولكن قد ننظر لها مِن "بُعد علاقاتي" حيث نكون نحن مديونون والمسيح هو الصديق المُحِب الذي قرر أن يدفع ديننا. حيث صور الخطية ب الدين، والحُكم هو تسديد النفقات، والعقوبة هي دفع الفاتورة، والله هو الشخص الذي ندين له.

باختصار: الله في المسيح هو صديق مُحِب قرر أن يدفع الدَين.[17]

الصياغة الثالثة تُناقش البدلية مِن بُعد قضائي وعلاقاتي:

    يتم عرض المُصالحة مِن منظور كريستولوجي حيث يُشرَح أن الله اتحد بنا في المسيح الإله الحق والإنسان الحق، الذي فيه اتضع اللاهوت حتى يصل إلى بشريتنا، وارتفعت البشرية لتصبح بشرية مُكَرَّمة، فأصبحنا مع الله كما أن الله أصبح معنا، وفي هذا الاتحاد تحدث المصالحة. وهنا تُصوِّر تلك النظرية الله بالقاضي العادل الذي حكم بالقضاء الذي تقتضيه قداسته -الموت-، ثم خلع ثوب القاضي ونزل مُتخذًا مكان المُتهم -نحن البشر- كالبديل. تجنبت تلك الصياغة الفصل بين الآب والابن فلم تشرح كون الله الآب القاضي أنزل العقوبة على الابن البريء، بل وضحت الاتحاد الأقنومي في الثالوث مُفسرةً ما حدث، فبحسب شرح (جون ستوت):

"بالإمكان أن يتحمل الله الألم الجزائي وأن يفرضه في وقت واحد"[18]    

 

 نقاط ضعف النظرية:

    ينقد أتباع اللاهوت الغربي أنفسهم الصياغة الأولي -القضائية- ويعتبرونها صياغة منقوصة ويتم تعديلها حتي يتجنبوا نقد اللاهوت الشرقي لهم بسبب الفصل في الذات الإلهيَّة بين الآب والأبن الذي تصوره الصياغة القضائية، حيث تصور الآب في دور الغاضب وتصور الأبن في دور الرحيم الضحية الذي تحمل عقاب الأب الغاضب.

   مع ذلك يتم نقد تلك النظرية من أتباع اللاهوت الشرقي رافضين فكرة "الغضب الإلهي" لأنه -كما ذكرنا مُسبقًا- لديهم تعريفًا مُختلفًا لهذا المصطلح، ولا يرونه بُعد من صفات الله الذي يؤسس عليه عمله الكفّاري.

    بعد أن عرضنا أشهر نظريتين في اللاهوت الشرقي القبطي، والغربي المُصلِح يبقي أن نوضح أن الاختلاف ليس في جوهر إيماننا المسيحي، وإنما في شرح المُصطلحات، وعليه فإن كل شخص مسيحي يؤمن أن المسيح هو الله المُتجسد، و "أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ،4 وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ"[19].

   كل فكرة طُرحت في التاريخ المسيحي ارتبطت بسياق مُعيّن أثر على رؤيتها التفسيرية الخاصة للميكانيكية التي تشرح عمل المسيح الكفاري، ولكن يبقي الاتفاق على كون كفارة المسيح حقيقة ثابته في جوهر إيماننا المسيحي. ويبقي الصليب "سِرّ" كما عبر عنه الرسول بولس، مُشيرًا إلى عمل المسيح الكفاري:

"لكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ الْكَامِلِينَ، وَلكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هذَا الدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، الَّذِينَ يُبْطَلُونَ.  بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ. بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ»."[20]  

     تبقي الشروحات المختلفة مُتكاملة ومُعبرة عن أبعاد مختلفة للكفارة، ففي المسيح الإنسان الكامل نري أدم الأخير والذي صار لنا بالاتحاد به أن نسلك في طاعة الله -كما توضح نظرية الانجماع الكلي-، وهو الذي افتدانا بدمه مُحررًا إيانا من العبودية -كما تخبرنا نظرية الفدية-، وبهذا صار لنا النصرة على الخطية -كما تخبرنا نظرية المسيح المنتصر-. في المسيح استرد البُعد بعدما كنا أعداء وأصبح الله راضٍ عنا -كما تخبرنا نظرية الاسترضاء-، وفيه كان كمال إعلان المحبة الباذلة التي تأسر قلوبنا لإطاعة الله -كما تخبرنا نظرية التأثير الأخلاقي-. هو من اتحد ببشريتنا ليرتقي بها فهو (اتحد بنا، ومات موتنا، لنتحد بإلهنا) -وهذا ما تخبرنا به كلا من نظرية الإتحاد بالتأله والبدلية العقابية-، ف الصليب سر، وفي نظريات الكفارة تكامل يحاول شرح هذا السر.          

 

[1]  (مز 82: 6)

[2]  (يو 10: 34)

[3]  (2بط 1: 4)

[4] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، ترجمة: جوزيف موريس (عمانوئيل للطباعة، الطبعة الثامنة، 2014)، 11-12.

[5]  هاني مينا، العدالة الإلهية حياة لا موت مغفرة لا عقوبة، (الطبعة الثالثة، 2010)، 63.

[6] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، 173.

[7] أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة، 62.

[8] فينيس نيقولا، الكفارة نظرية وتطبيق، مراجعة: ق. إميل ذكي (دار محروس للطباعة، 2010)، 58.

[9] فينيس نيقولا، الكفارة نظرية وتطبيق، 47.

[10] Gregory of Nazaianzus, “Oration, 45”, 189.

[11] بلانتيجا، علم اللاهوت النظامي، الفصل العاشر "الكفارة"، محاضرات مادة اللاهوت النظامي بكلية اللاهوت الإنجيلية، 16. 

[12] جون ستوت، صليب المسيح، ترجمة: نجيب جرجور (دار النشر الأسقفية)، 151.

[13] "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا" (2كو 5: 21).

[14] "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا" (غلا 3: 13).  

[15] (مت 27: 46).

[16]  لا يوجد كثيرون مُتبنين لهذا الطرح حاليًا إلا الروايات الشعبية لتلك النظرية فالغالبية تناقشها بالصياغة الثانية أو الثالثة.

[17]  سي-اس-لويس، المسيحية المجردة، ترجمة: سعيد ف باز، (أوفير، الطبعة الأولي، 2006)، 66-67.

[18]  سي-اس-لويس، المسيحية المجردة، 182.

[19] (1كو 15: 3، 4).

[20]  (2 كو 2: 6-9).