كما قرأنا في الجزء السابق، لما كان وجود شجرة معرفة الخير والشر هام جدًا لتفعيل حرية اختيار الإنسان لتبعيته لله، ورأينا ما فعلته الحيَّة في تحويل دفة مجريات القصة من التناغم إلي الفوضى، وهذا ما حدث...

تمرد وعصيان:

 " فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ."[1]

  رأت حواء أن فكرة اختيار التأله جيدة، وبهجة للعيون، وشهية للنظر.

"وهنا حدث التحالف غير المقدًّس ما بين منطق الحيَّة، وما بين جمال المحسوسات، وشرعت حواء في بناء جسور الأماني بينهما، ومرّت عليها لتقطف من الثمرة الساحرة التي وُعِدَت أنها ستجلب لها ولزوجها ملء المعرفة والصيرورة كالآلهة."[2]

   استجابت حواء للإغواء بقرارها الواعي، واختارت الرغبة في الانفصال عن الله لتكون إلها لنفسها ولم تكتف بذلك، بل أيضًا أعطت أدم. لا يخبرنا النص عن موقف أدم، كل ما نعرفه أنه لم يكن حاضرًا في حوار حواء مع الحيَّة، ولا نعرف طبيعة الحوار الذي حدث بينهما حتى أقتنع وأكل!

 في روايته "قاين" يصور ماهر فايز هذا المشهد بشكل حواري تخيلي واضعًا بعض الافتراضات التي قد نفكر فيها في القصة عن السبب الذي جعل أدم يستسلم ويأكل من الشجرة ففي حواره مع حواء يقول:

"أتذكر جيدًا كم فَضَحْت نقصي، وأعلنت عن حدود لي كنت أظنها مُتسعة أكثر، وكان أقوي ما في ضعفي وقتها هو القدرة الكاملة على الاختيار، خاصةً حين أكَّد بغيابه أن عليَّ أن أختار بين غيب لا أراه والمطلوب مني أن أحياه، وعيان آري فيه اكتمالي وموتي! فاخترتك وأكلت."[3]

  هذا التعبير البديع الذي يفترض أن أدم تأمل في أيام وحدته الأولي، حيث لم يكن له مُعينًا نظيره، وكان خوفه من الوحدة ومِن خبرة الاغتراب عنها أعظم بكثير من خبرة اغترابه عن الله، فقد اختبر وجع الاغتراب الأول ولكن معلوماته عن الاغتراب الثاني هي معلومات معرفيَّة لا خبرة متجسدة، فإدراكه لعاقبة الموت كان مجرد معلومة لم يفهم أن وقعها أصعب من وقع خبرته الأولي بالاغتراب عن حواء. هذه الفرضية لم تُذكر في رواية الكتاب إنما هي فرضية تأملية في النص، فكما ذكرنا من قبل أن سبب اقتناعه والحوار الذي دار بينهما غير مذكور.

نتائج السقوط:

  • اغتراب الإنسان عن نفسه:

" فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ."[4]

   لحق بالإنسان حالة من الخزي وعدم قبوله لذاته، فقد رأي أنه عريان، ولم يَعد مُتصالحًا مع ضعفه وعجزه، ومحدوديته، بل وجد في هذا الضعف ما يريد أن يخفيه. فبعدما كان الإنسان المخلوق على صورة الله له كمال الثقة والفخر، مُدركًا لمعني انسانيته ومُقدَّسًا في قربه مِن القدوس، تشوهت تلك الصورة، ولم يعد الانسان إنسانًا ومِن بعدها فقدنا ما تعنيه الإنسانية. كل الأجيال اللاحقة أصبحت تتخيل صورة عن الإنسانية وتحاول أن تحيا وفقًا لها، ولكن لم يوجد -قبل السيد المسيح-، مَن علمنا معني أن نكون إنسان.[5]

 

  • اغتراب الإنسان عن الله:

" سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ."[6]

   كان هذا هو رد الفعل الإنساني، حين نادي الله على أدم، فبعدما كان الإنسان في علاقة مع الله في "جنة عدن" يكهن أمام الله ويتقرب منه هناك، يتواصل مع خالقه ومصدر حياته وهو متصلا بتلك الحياة، شعر وللمرة الأولي بوطأة خوف الاقتراب من قداسة وحياة الله، فاختبأ!

في كتابه عالم أدم وحواء المفقود، يقول "جون والتن":

"يطمح الوجود الإنساني الأصيل إلى تحقيق كامل قدراته الكامنة في أن يشبه الله، بينما يعترف بصورة مُتسقة بكونه مخلوقًا ومحدودًا. الخطية هي انعدام الاتزان في هذا المطمح، حيث تفشل الإنسانية في أن تعكس دعوتها الإلهيَّة، فتنسي الإنسانية محدوديتها."[7]

  نسي أدم دعوته الأولي كالمخلوق على صورة الله والخاضع له والمتمم لمشيئته، وعصي ربه، وقرر ألا يعترف بمحدوديته ويعلن بتمرده استقلاله عن الله، وقد اختبر بعدها الاغتراب الحقيقي الذي لم يكن مُدركًا لتبعياته.

كما خُلق الإنسان من التراب أي: لم يكن له وجود -كما يسميه الأنبا أثاناسيوس حالة العدم ويقصد بها اللا معني واللا وجود-، باغترابه عن الله عاني العودة بقراره إلي حالة العدم –(أي اللا معني)، فكل ما هو شر هو عدم وكل ما هو خير فهو موجود. وبتمرد الإنسان أصبح الحي الميت ونُفِذ حكم الموت بانفصاله الروحي عن مصدر حياته.[8]

يُعبِّر باسكال عن شعور الإنسان بالعدمية قائلًا:

"يا للأسف كل شيء هاوية، الفعل والرغبة، الحلم والكلمات! وعلى شعر جسدي المقشعر أحس ريح الخوف تسري مرّات ومرّات... إني لأخشي النوم كما تُخشي حفرة كبيرة قد مُلِئت تمامًا برعب غامض يفضي إلى حيث لا ندري، ولا أرى عبر النوافذ كلها غير ما لا ينتهي..."[9]

ليس هذا فقط، بل أيضًا فقد دوره الكهنوتي أمام الله، وتم طرده من المكان المُقدَّس الذي يلتقي فيه بالله، ويأكل من شجرة الحياة ليحيا باتصاله بخالقه. طُرِدَ أدم من الجنة، ولُعنت الأرض بسببه.

 

  • اغتراب الرجل عن امرأته:

" فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ»."[10]

   لم يكن أدم مُدركًا أن تعلقه بحواء، وأكله معها من الشجرة ورغبته في مرافقتها رحلة التأله الذاتي بالانفصال عن الله هو بداية اغترابه عنها لا اقترابه منها أو التصاقه بها.

"يبدو أن انفتاح الأعين لم يكن على العري فقط، كحالة خزي تستوجب الاختباء خلف الثياب، ولكنّه انفتاح الأعين على الآخر، على نقصه، وضعفه، وعدم اكتماله، وكأن لونًا من الذبول بدأ ينسج خيوطه حول العلاقات فتعرت من دثار الثقة."[11]

  وبهذا فشل الإنسان الأول في التصاقه بمصدر حياته، مُفضلًا الموت والعدم عن اقترابه من خالقه، فتشوهت صورة إنسانيته، وعاني من اغترابه عن نفسه، وتشوهت علاقته بالله، وأدرك آلم الاغتراب عن مصدر حياته، وتشوهت علاقته بأقرب العلاقات الإنسانية له -علاقة الرجل بامرأته- مُعانيًا اغترابه عنها، فاصلًا نفسه عن مصيرها، ومُلقيًا باللوم عليها في اختياراته، وهذه هي المحطة الثانية من القصة المسيحية -السقوط-، وسنعرف في المقالات التالية كيف تعامل الله مع الانسان من بعد فساده...

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 


[1]  (تكوين 3: 6)

[3]  قاين، ماهر فايز، (القاهرة، دار الوليد للدراسات والنشر والترجمة، الطبعة السادسة، 2017)، 15.

[4]  (تكوين 3: 7)

[5]  خلق الله الإنسان على صورته ولكن، ماهر صموئيل، اجتماع الكنيسة الانجيلية بقصر الدوبارة.

https://www.youtube.com/watch?v=svMYDq5kZLM

 

[6] (تكوين 3: 10)

[7] عالم أدم وحواء المفقود، ﭼون ه. والتن، ترجمة: أمير سامي صبحي (Inter Varsity Press للنشر، الطبعة الأولي، 2018)، 153.

[8] تجسد الكلمة، الأنبا أثناسيوس الرسولي، ترجمة: د. جوزيف موريس (القاهرة، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، الطبعة الأولي، 2002)، 11.  

[9]  أساتذة اليأس، النزعة العدمية في الأدب الأوربي، نانسي هيوستن، ترجمة: وليد السويكي (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2021)، 23- 24.

[10] (تكوين 3: 12)

[11] تراجيديا سقوط الإنسان، الراهب سارافيم البرموسي، (القاهرة، نشر: مدرسة الإسكندرية، الطبعة الأولي، يناير 2022)، 37.