في الجزء السابق من المقال عرفنا أن الله وحده هو الخالق، وأنه خلق الإنسان على صورته كشبهه وأعطاه الحرية التي تتبعها المسئولية. ومسئولية الإنسان ارتبطت ايضًا بدوره الذي وكله الله عليه..

- دور الإنسان على الأرض:

   خُلِق الإنسان ليكون له دور السيادة على الأرض كمُمثل لله، فقد أعطاه الله السلطان أن يُخضع الأرض ويتسلط عليها، سلطة الحِفظ والرعاية لا سلطة الخراب والدمار، سلطة الوكيل لا سلطة المالك. فنري في رواية التكوين:

"وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ..."[1]

   وعملية التسمية في العهد القديم كانت تعني أن الشخص له سلطان على الشيء الذي يُسميه، فبحسب ايماننا المسيحي، أعطي الله سلطانًا للإنسان على المخلوقات، كمُمَثل له، ولكن دور أدم لا يتوقف على الأعمال الزراعية الخاصة بالأرض، ولكن كما ذكرنا أن الله رَتَّب الكون ووضع فيه الجنة لتكون مكانًا لالتقاء الله بالإنسان، وعليه فالإنسان له دور روحي ومسئوليات تفوق مجرد حفظه للماديات، فإن كانت الجنة هي بيت الله وقتها -مكان التقاء الله بالإنسان-، فإن أدم كان له دورًا كهنوتيًا[2] ليحفظ هذا المكان المُقَدَّس.

كما يقول جون والتن:

"ينبغي رؤية نقطة الاعتناء بمكان مُقَدَّس على إنها أمر يفوق تنسيق الموقع، أو حتى الواجبات الكهنوتية بكثير. يجعل الحفاظ على النظام المرء شريكًا مع الله في المهمة المتواصلة المُمَثلة في الحفاظ على التوازن الذي أقامه الله في الكون."[3]

 وهذا البُعد مهم في فهمنا لباقي أجزاء القصة كما سنشرح..

- خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثي:

  تخبرنا قصة الخلق أن الله الخالق، أبدع في خلق الإنسان وأن الرجل والمرأة متساويان في القيمة فكلاهما مخلوق على صورة الله حيث إن كلمة "אדם" -والتي ترجمت أدم- تشير إلى "البشر" من ناحية النوع "إنسان" مُفرقًا إياهم عن "الحيوان". ففي قوله:

"فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ."

  جاءت لتشمل البشرية كلها رجلا وامرأة، فلا فرق في القيمة بين الرجل والمرأة، وكلاهما مُكرم عند الله ووكيل على خليقته، ولأن الإنسان مخلوق ليكون كائنًا علاقاتيًّا، رأي الله أن وجود أدم وحده ليس جيدًا له، فنقرأ أنه:

"وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ.»"[4]

   لم توجد المرأة فقط لتسلية أدم في وحدته، ولكن لتكون "معينًا" فتعاونه على عمله في الأرض وحفظها، ليكون الإنسان في كمال إنسانيته، ككائن مخلوق ليُكوِّن علاقات، وليُشارك حياته مع أخر ويستمتع باتحاده بالأخر، وهو لا يخشى أن يكون مكشوفًا كما هو دون أقنعة تخفي هويته فقد كان كلاهما عريانان دون أن يخجلا[5]. وكونها معين لا يعني أنها درجة ثانية، بل أنها "نظيره" في القيمة، والعقلانية، فالمرأة في الإيمان المسيحي ليست كائن ناقص للعقل وإنما هي مثل الرجل في عقلانيته وقيمته. ويستكمل النص الكتابي ليخبرنا أنه:

"أَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَم.."[6]

حيث قرر الله أن يخلق المرأة من ضلع الرجل، ونسمع أول أغنية محبة تخرج من أدم:

"فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي."[7]

 شعر أدم أن امرأته جزء منه، يجب أن يحبها كما يحب نفسه، وأدرك أن هذا هو سبب خلقها من ضلعه. يستكمل النص ذاكرًا ومؤكدًا إنه:

" لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا."[8]

  ارتباط الرجل بامرأته يجعله مستقل جغرافيًا وماديًا عن اسرته تاركًا أباه وأمه -لا ترك الهجر وعدم الرعاية، بل ترك الاستقلال-، ويلتصق بالإنسانة التي ارتبط بها، ليكونا واحدًا، متحدان في الهدف الروحي والغرض الإنساني، ومتحدان علاقاتيًا.

وبهذا تخبرنا القصة المسيحية أن الإنسان مخلوق حي، حر، عاقل، أخلاقي، علاقاتي. وأن الله خلق الرجل والمرأة متساويان في القيمة، كائنات روحية.

 

  • الله يسكن مع الإنسان:

  يخبرنا الكتاب أن الله استراح بعد الخلق، وكلمة راحة لا تعني الفراغ وعدم العمل، فإلهنا إله عامل. الراحة هي غرض الخلق، والراحة في فكر الشعب في القديم هي حالة السلام، وعدم وجود حروب وصراعات، لذا فإن الراحة مرهونة بالأمان والاستقرار الموجود في اتزان النظام المُرتَّب من بعد الخلق، في مكان يسكن فيه الله مع الإنسان.[9]

   ففي ثقافة الشرق الأدنى، كان الهيكل هو المكان الذي يمثل سكني الله وهو المكان الذي يُعلن عن حكمه وسيادته، ولكن الفارق أن في اعتقادهم الآلهة تطالبهم ببعض الفرائض والطقوس لتسديد احتياجاتهم، ولكن في القصة المسيحية نحن لا نؤمن بإله محتاج للبشر وإنما بإله يسدد هو احتياجاتنا لأنه مكتفي بذاته.[10]

وبهذا تكمل قصة الخلق بحسب رواية الكتاب المقدس بحلول النظام والتناغم.

   وهنا رأينا أول محطة من محطات القصة المسيحية وهي الخلق، خلق الله للكون بنظام محكم ممنهج، وخلق الله لإنسان عاقل، حر، أخلاقي، علاقاتي، مخلوق على صورة الله. وكان الوضع في البدء هو وضع الراحة والتناغم، تناغم بين عناصر الخليقة، وتناغم بين الله والإنسان. لكن -وللأسف- لم يبق الوضع كما هو عليه، وإنما حدث تحول في قصتنا مع الله، وهذا ما سنعرفه في الأجزاء القادمة..

 

 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد

 

 

 


[1]  (تك 2: 19، 20).

[2]  الدور الكهنوتي: هو دور الوسيط والمُمَثل عن البشر أمام الله.

[3]   ﭼون ه. والتن، عالم أدم وحواء المفقود، ترجمة: أمير سامي صبحي (Inter Varsity Press للنشر، الطبعة الأولي، 2018)، 110.

[4]  (تكوين 2: 18).

[5] (تكوين 2: 25).

[6]  (تكوين 2: 21-22).

[7]  (تكوين 2: 23).

[8]  (تكوين 2: 24).

[9] ﭼون ه. والتن، عالم أدم وحواء المفقود، ترجمة: أمير سامي صبحي (Inter Varsity Press للنشر، الطبعة الأولي، 2018)، 40.

[10]  المرجع السابق، 42.