كانت الحالة الأولي هي حالة التناغم والسلام، الوضع الذي فيه يتواصل الإنسان الأول مع الله على إنه الخالق الملك صاحب السيادة، مَن له المُلك. وكانت جنة عدن على الأرض هي المكان الذي يحكم الله من خلاله، وهي مركز التقاء الإله بالإنسان، يحيا فيه الله مع الإنسان في حالة الراحة، أي: التناغم والتوافق والتسليم. إلا أن الوضع لم يستمر على هذا المنوال، فمن بعد محطة الخلق تأتي محطة السقوط في قصتنا، لتحكي كيف تصرَّف الإنسان بحريته، كيف دمر كل شيء من حوله بعصيانه.

الشجرتان:

   انتهت القصة في (تكوين 2) بوصية الله للإنسان ألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وتذكر لنا القصة وجود شجرة أخري وهي "شجرة الحياة"، الشجرة المقدَّسة. كانت الشجرة المقدسة في أساطير الشرق الأدنى تشير إلى الحضور الإلهي[1]، كما كانت شجرة الحياة في جنة عدن تمثل تواجد الله مع الإنسان كالمصدر لحياته. في الشرق الأدنى القديم (الحياة، والحكمة) هما من سلطات وحقوق الآلهة فقط لا يعطوها لأحد، فالآلهة عندهم تحاول بكل جهدها فصل نفسها عن الجنس البشري، وتسخير الجنس البشري لخدمتها، فتسوقه لتقديم الطاعة والولاء دون وجود أي نفع للإنسان في هذه العلاقة، فلا علاقة في الأساس بين تلك الآلهة وبين الإنسان، ولكن نري في رواية التكوين أن الله قرر أن يتقرب من الإنسان مانحًا إياه الحياة والحكمة[2]، ولكن تلك الحياة لا يمكنه أن يحصل عليها بالانفصال عنه هو مصدرها، وتلك الحكمة -معرفة الخير والشر-، لا يُمكن أن يكتسبها من ذاته. ولأن إلهنا إله حر خلق الإنسان على صورته، له من الحرية في اختيار أفعاله، قرر الله وضع تلك الشجرة -شجرة معرفة الخير والشر-، لتكون الطريقة التي بها يقرر الإنسان ما إن كان يريد أن يستكمل هذا المشروع الإلهي في شراكة بينه وبين الله، أم يريد الانفصال عنه متألهًا بذاته، رافضًا لمُلك الله على حياته. فالموضوع ليس مجرد قرار بالأكل من شجرة، ولكن الإنسان بأكله كان يحاول تجربة نوال الحكمة بطريقته الخاصة وكأنه إلهًا يخلق مصدرًا أخر للحكمة غير الله، مستقلًا بحياته عنه.

تأثير الحيَّة:

  يتوالى سرد القصة في التكوين ويحكي عن وجود كائن اسمه "الحيَّة". وفي قصص وأساطير ثقافات الشرق القديم ذِكْرٌ لهذا الكائن الخبيث. كانت الحيَّة رمزًا للموت، والفوضى. رمزًا للموت بظهورها في ملحمة جلجامش كالسارقة لنبتة الحياة، التي ظل "إنكيدو" بطل الأسطورة يبحث عنها لينال "الحياة الأبدية". وجدت ايضًا رمزًا للفوضى في كتاب الموتى عند الفراعنة، وفي نصوص الأهرام ذُكر الإله "أبوفيس" “Apophis” الإله الثعبان رمزًا للفوضى وعدوًا للنظام[3]. وبغض النظر عن المدارس التفسيرية لحرفية وجود هذا الكيان من عدمه، نعلم أن كاتب التكوين -بإرشاد من الله-، كان مُدركًا لما تعنيه تلك الدلالات في الثقافات من حوله. وقد قامت الحيَّة المذكورة في التكوين بخلق الفوضى في النظام الذي أسسه الله منذ البدء والمبني على اقتراب الله من الإنسان، وتسليم الإنسان لله، ليكون الله مصدرًا لمعرفته، ومعيارًا لحُكمه على الأمور. فقد جاءت الحيَّة مُشَكِكَة لأقوال الله، وقائلة:

" أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟"[4]

وبقولها هذا أدخلت مبدأ الشك في قلب "حواء"، وكذلك قامت بأول مغالطة منطقية في التاريخ، وهي مغالطة (السؤال المشحون)[5]، لتستدرك ضعف حواء البشري، ولكن وللوهلة الأولي عرفت حواء كيف تجيب وتصحح هذا السؤال بسردها لقول الله كما فهمته:

" فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا»."[6]

فلم يقل الله لهما ألا يمسا الشجرة، ولكن بحسب التقليد اليهودي أن أدم هو مَن استلم الوصيَّة وأنه هو مَن نقلها لحواء، وفي نقلها أضاف على وصية (عدم الأكل)، وصية (عدم اللمس)، حتي يحمي حواء من كل أشكال التفاوض مع الفكرة، وهو الأمر الذي استغلته الحيَّة.[7] أمر الله لهما لم يكن ألا يأكلا من كل ثمر الجنة، بل منعهما فقط من شجرة "معرفة الخير والشر"، ومن الواضح أن حواء كانت مدركة لعواقب هذا الأمر وأنه سينتج موت. لكن الحوار مع "الحيَّة" لا يُمكن أن ينتهي بهذه السهولة، فبعدما أدخلت الشك، أدخلت التكذيب لأقوال الله قائلة "لن تموتا".

"فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»."[8]

  فمن بعد التشكيك، والتكذيب لأقوال الله، أدخلت الحيَّة الرفض لله ذاته، مُحرضة للإنسان أن يكون "كالله"، وأن يرفض مُلك العليَّ عليه، صانعًا لنفسه مُلكًا أخر يحكم فيه بذاته، ويقرر مصيره، ويقرر ما هو خير وما هو شر بالنسبة له، رافضًا الموضوعية التي في الله وخالقًا نسبيته الخاصة.  

  ومن هنا بدأ السقوط، بدأ بفتح حوار أدخل التشكيك، والتكذيب، والرفض لألوهة الله، بفكرة أدخلت الرغبة لدي الإنسان بأن يمارس حرية اختياره بشكل خاطئ متخذًا أكثر القرارات المُدمرة لمصيره، والتي لحقت الأذى به وبكل الأجيال من بعده، متأثرة بفعلته، ومُتخذه لنفس قراره بالابتعاد عن الله في شر وسقوط.

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد


[1]  عالم أدم وحواء المفقود، ﭼون ه. والتن، ترجمة: أمير سامي صبحي (Inter Varsity Press للنشر، الطبعة الأولي، 2018)، 113.

[2]  المرجع السابق، 135.

[3] "Snakes." 2001. In Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, edited by Donald B. Redford, 296-299. Vol. 3. London: Oxford University Press.

https://www.academia.edu/348140/_Snakes_2001_In_Oxford_Encyclopedia_of_Ancient_Egypt_edited_by_Donald_B_Redford_296_299_Vol_3_London_Oxford_University_Press

 

[4]  (تكوين 3: 1).  

[5]  السؤال المشحون هو سؤال مكون من عدة افتراضات يريد السائل اثباتها.

[6] (تكوين 3: 2، 3).

[7] تراجيديا سقوط الإنسان، الراهب سارافيم البرموسي، (القاهرة، نشر: مدرسة الإسكندرية، الطبعة الأولي، يناير 2022)، 32-33.

[8]   (تكوين 3: 4، 5)