
قصة المسيحية >
القصة المسيحية- الخلق (ج1)
كريستين روماني
1/29/23 - ٥ دقيقة قراءة
المسيحية ليست مجموعة من العقائد والطقوس إنما هي قصة الله وعلاقته مع البشر، والقصة مرتبطة بواقع تاريخي في سلسلة من التعاملات والتي بدأت منذ الخلق وذروته التي تجلت في خلق الإنسان. وعلى مر العصور حاول الإنسان الإجابة على بعض الأسئلة التي تُمثل المسائل الكُبري: مِن أين آتي العالم؟ لماذا خُلِق الإنسان؟ وما علاقة الإنسان بهذا الخالق؟ ومِن هنا آتت التفسيرات والقصص المُختلفة ونتج ما يُعرف بالأسطورة، والتي صورت وجود آلهة كثيرة في صراع دائم، يَخلقون الإنسان ليكون عبدًا لهم يُحقق رفاهيتهم، جاعلين عناصر الكون -كالشمس، وغيرها- في وضع الإله. في هذا السياق آتي كاتب "التكوين"[1] ليُعيد الإجابة على هذه الأسئلة الكُبري في ضوء الإيمان بإله واحد يريد أن يكون الإنسان حرًا.[2]
-
الله هو الخالق وحده:
بحسب الرواية المسيحية المبنية على قصة التوراة تبدأ قصة الخلق بقوله:
"خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ"
مؤكدًا على أن الله وحده هو الخالق للعالم المنظور "الأرض"، والعالم غير المنظور "السماء". تتوالى الرواية ليذكر أن الله فصل بين (النور والظلمة) أي: أعاد ترتيب الزمن، وفصل بين (مياه الجلد ومياه الأرض) مما يُعبر عن ترتيب الطقس، وفصَل بين (اليابس والبحر)، ثم وجود الحيوانات والنباتات والتي تُمثل الطعام بالنسبة للقارئ في هذا الوقت. الزمن والطقس والطعام هم ثلاث عناصر بديهية تعرفها أي ثقافة في أي مكان وتركز عليها،[3] وقد جاء هذا السرد لشرح هوية هذا الإله "إله النظام" القادر والمسيطر على تلك العناصر التي هو مصدرها، وخالقها من البدء. عندما نُرتب مكان ونظمه، نرتاح في وجودنا ومسكننا فيه، والله رتب الأرض ونظمها ليسود عليها وليتقابل فيها مع الإنسان، ففي البدء لم تكن دور العبادة المبنية بشكل معماري جميل هي بيت الله، الذي نذهب إليه راجين التقرُّب لله، بل كانت الأرض مُرتَّبة لتكون بيتًا لله، مقرًا لحكمه، ومكانًا يُقابل فيه البشر الله ويتقربوا منه.[4]
-
خلق الله للإنسان:
تأتي ذروة قصة الخلق بخلق الإنسان، ويخبرنا كاتب التكوين ببعض الحقائق عن هذا الخلق نقرأها في أول اصحاح:
"وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأرض.» فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ.» وَقَالَ اللهُ: «إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا. وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا»."
وهنا نري الله في ابداع خلقه للإنسان، ونتوقف عند بعض النقاط المهمة في هذه القصة:
- الإنسان مخلوق على صورة الله، كشبهه:[5]
بحسب القصة المسيحية خُلق الإنسان على صورة الله وكشبهه. نعلم ونؤمن أن الله ليس كمثله شيء، ولا نعني بقولنا السابق أن الله خلق مِن الإنسان إلهًا مثله ومساويًا له، أو أن الله له شكل معين ونحن أتينا على شاكلته، حاشا! ولكن الكلمة التي كُتِبَت بالعبرية وتُرجِمَت "صورة"، وردت 17 مرة في العهد القديم لتشير إلى (ظل، أو تمثال يجسد صورة كيان معين)، والكلمة التي تُرجِمَت "شبهه" وردت 26 مرة في الكتاب المقدس، البعض قال إن الكلمتين -صورة، وشبه- مترادفتان، والبعض قال إن الصورة هي الهبات الطبيعية كالعقل والحرية والتي يمتاز بها الإنسان دونًا عن غيره، والشبه هو عطية النعمة الروحية أي هبة إمكانية اقترابه من الله.
البعض اقترح أن هناك تكامل بين الكلمتين، بحيث أن الصورة تتضمن الشبه، والشبه يشرح الصورة، فكون الإنسان مخلوق على صورة الله أي أنه ممثل حي للكائن الروحي -الله- في عالم المادة، كما كان الملوك يبنون تمثال في البلد التي تخضع لسيطرتهم وتُعلن عن وجودهم وسلطانهم على البلد، فالإنسان هو أيقونة الله الحيَّة الحاملة لحضوره والفاعلة لمشيئته على الأرض. والشبه هو الكينونة الروحية، وكما أن الله روح فإن الإنسان له وجود روحي وليس فقط وجود مادي.
- الإنسان كائن أخلاقي، حر، مسؤول:
بعدما خلق الله الإنسان أعطاه وصية أخلاقية:
"وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلًا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»"
كثيرًا ما نفكر لما كانت تلك الشجرة تحديدًا مشكلة، وهل الله يُبالي بمجرد شجرة! وبغض النظر عن التفسيرات المطروحة عن شجرة "الحياة"، وشجرة "معرفة الخير والشر"، وكونهما ماديتان أم استعارة، فمن المنطقي أن نُدرك أن الأساس في الوصية هو إطاعة الله، وسلامة الإنسان. علينا أن ندرك أنه من الخطأ أن نفهم كون الوصية مرتبطة بشجرات سحرية، الأكل من أحدها يؤدي إلى الموت والأكل من الأخرى يؤدي إلى الحياة، ولكن الأمر يتعلق بحضور الله على الأرض وكون الجنة مكان التقاء مقدس، يتيح للإنسان أن يتَقرَّب لله مصدر الحياة وأنه في عدم إطاعته والرغبة في الاستقلال عنه موت. والموت ليس لكون الله إلهًا مُتسلطًا، ولكن لأنه لا حياة بعيدًا عن مصدرها، واتخاذ الإنسان مثل هذا القرار الحر بالاستقلال يُنتج له الموت، فهو كائن مخلوق، مُصمم على أن يرتبط بخالقه مصدر الوجود. تلك الوصية كانت بمثابة إعلان عن حرية الإنسان وعن معرفته لكونه مسؤول عن نتيجة اختياراته، فالله لم يخلق آلات تتبعه بلا وعي، وإنما خلق بشرًا بإدراك لماهيتهم وقدرتهم على اختيار تبعيته من عدمه.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد
[1] التكوين هو أول أسفار التوراة الخمس.
[2] الأب اسطفان شرﭘنتييه، تعرف إلى الكتاب المقدس، ترجمة: الأب صبحي حموي اليسوعي، (دار المشرق ببيروت، الطبعة الثانية، 1989)، 25.
[3] ﭼون ه. والتن، عالم أدم وحواء المفقود، ترجمة: أمير سامي صبحي (Inter Varsity Press للنشر، الطبعة الأولي، 2018)، 27.
[4] المرجع السابق، 42.
[5] ماهر صموئيل، الإنسان على صورة الله وشبهه، اجتماع الحرية، 2015.