السؤال الثالث: هل توجد ثمة عناصر مشتركة بين الأساطير والقصة الكتابية للخلق؟

إن من يقرأ الأساطير البابلية والكنعانية والسومرية والفرعونية يلاحظ تشابه لعناصر مشتركة بين قصة الكتاب المقدس (الخلق – الطوفان) فمثلاً:

"أسطورة إنوما إليش" ( The Enuma Elish ) " التي تعني (عندما كان في العلاء ...) اسطورة بابلية  كُتبت في شكلها الحالي في سنة 1100 ق. م، (توجد قصة اكادية شبيه يرجع تاريخها إلى سنة 2400 ق.م) 1 ترجع أصل كل شيء إلى المياه؛ المياه العزبة (الإله عبسو أو إبسو) والمياه المالحة (الإله تيمامات). ارادت (تيمامات) أن تقتل جميع الآلهة الأخرى الذين تكونوا من المياه لأنهم يزعجونها. فوقف لها الإله (مردوك) وشطرها إلى نصفين كمحارة وجعل منها السماء والأرض. وخلق الإنسان من دم إله متمرد. 2

"ملحمة "اتراحاسيس" الذي يعني (الذكي جداً) هي ملحمة بابلية كُتبت سنة 1600 ق.م وهي قصيدة شعرية تتألف من 1645 بيت شعري. تحكي لنا عن الآلهة المُتعَبة من كثرة الأشغال التي يقومون بها، فيقررون أن يخلوا الإنسان يقوم بالأشغال بدلاً عنهم. تم خلق الإنسان من خلال مزيج من الطين مع دم إله مذبوح. تكاثر البشر جداً وأزعجوا الآلهة والتي بدورها عاقبت البشر من خلال ارسال طوفان لإبادتهم. اخبر الإله ( آيا) رجلأ من البشر بخطة الآلهة فنصحه ببناء سفينة ولكي ينجوا بعائلته وكذلك بزوج من كل حيوانات الأرض 2

الأساطير المصرية:

يشرح د: بولس الفغالي هذه النوعية من الأساطير الخاصة بالخلق كالتالي: 

كانت أساطير مصر تقول بأن المياه هي أصل الكون. فيضانات النيل تغطي كل الحقول كل سنة، وعندما تنحسر المياه تظهر الأرض من جديد وكأنها خارجة من داخل المياه. هكذا بدأ العالم وكأنه مولود من الماء. 4

أوجه الشبه بين قصة الخلق الكتابية وأساطير الخلق

  • خلق النظام من الفوضى المائية
  • الظلام يسبق الخلق
  • تشابه ترتيب أيام الخليقة
    • الألواح السبعة التي كتبت عليها أسطورة "إينوما إليش" تقابل الأيام السبعة للقصة الكتابية.
  • حالة الكون قبل الخلق
    • الغمر من الماء
      • قصة التكوين تعتبر هذا الغمر هو العدم
      • قصة الاساطير تعتبر هذا الغمر هو المادة الأولى أو المبدأ الأول لجميع الحيوانات.
    • الكلمة العبرية " تهوم" (الغمر) مشابه للكلمة الأشورية " تيامات" (الوحش الأسطوري للمياه المالحة) في أسطورة (إنوما إليش) التي صارعها الإله مادوخ، فإنشقت إلى قسمين من القسم الأول عمل السماء ومن القسم الأخر عمل الأرض.
    • صيغة الجمع في خلق الإنسان " نصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا" تشابه المداولات في " مجمع الآلهه" قبل خلق الإنسان في أسطورة " إنوما إليش"
      • أما في القصة الكتابية فالمعني يقصد به " البلاط الملكي " أو " الإله الواحد الثالوثي الأقانيم" 5
    • يوم السبت (يوم الراحة والإحتفال) موجود في كلا القصتين.
    • عملية "الفصل" موجودة في كلا القصتين: فصل أو شق جسد " الإله تيامات " وصنع السموات والأرض يقابل عملية " الفصل " في القصة الكتابية (الفصل بين المياه التي فوق الجلد والمياه التي تحت الجلد وبين النور والظلمة وبين المياه واليابسة.
    • سمو القصة الكتابية للخلق عن اساطير الخلق

على الرغم من التشابهات الكثيرة بين القصة الكتابية والقصة الأسطورية التي تحكي عن الخلق إلا أن القصة الكتابية تسمو أو تنزع الصبغة الأسطورية عن القصة الكتابية، وهذه بعض الاختلافات التي تميز القصة الكتابية عن القصة الأسطورية:

أولاً: طبيعة الله

  1. لا توجد ثنائية إله الخير وإله الشر ولا يوجد صراع الآلهة
  2. بل هو إله واحد كلي القدرة يخلق الكل من العدم وله سلطان على كل مخلوقاته. 6
    1. بعكس تعدد الآلهة في الأساطير
    2. بعكس أزلية المادة في الأساطير.
  3. كلمة الله تكفي للخلق وليس هناك أي صعوبة أو جهد من أجل امكانة الخلق كما في الأساطير.
  4. ليس هناك حاجة لمصارعة الآلهة المتنافسة والغلبة عليها من أجل امكانية الخلق كما في الاساطير. يتضح من الأساطير البابلية والكنعانية والأغاريتية بأن عملية الخلق تم عن طريق " تعارك الألهة " فمثلاً (الإله مردوك تعارك مع الإله تيامات) من خلال انتصار مردوك على تيامات نتج الخلق " 7 أما القصة الكتابية فتنتهج نهجاً مختلفا وهو أن عملية الخلق تمت بدون تعارك بل بسلطان الكلمة المنطوقة للإله الواحد كلي السيادة على كل مخلوقاته فليس هناك احتياج لأن يدخل الله في معارك مع قوى الشر من أجل تنفيذ عملية الخلق وهذا ما يؤكد سمو القصة الكتابية عن الأساطير أو إعادة تأويل القصص الأسطورية من منظور لاهوتي للإله الواحد كلي السلطان.
    1. نشاط للخلق وليس صراع (وكان روح الله يرف على وجه الغمر).
    2. فروح الله هو قوة الله الخلاقة التي توشك أن تخلق امرا جديدا.
  5. جميع المخلوقات خلقها الله وحده دون استثاء بعكس تأله الطبيعة والكائنات في الأساطير. انتهجت اساطير الشرق الأدنى القديم اسلوبا معينا في حديثها عن الخلق وهو ما يسميه الأب روبير بندكتي" الخلق بالنشأ أو الخلق التلقائي " أي إنه تم خلق الآلهة والخليقة بطريقة تلقائية وبدون مسبب (خالق) وبهذه الطريقة يتم وصف بعض عناصر الخليقة مثل المياه "بالألوهة" لأنها ليست مخلوقة ، أما منهج القصة الكتابية في حديثها عن الخلق فكان " الإله الخالق" أي أنه تم خلق الخليقة وكل ما فيها عن طريق " الإله الخالق " وهو المسبب الوحيد لها. ومن هنا يظهر تميز واستقلالية القصة الكتابية عن الأساطير اذ نفت القصة الكتابية صفة الألوهة عن المخلوقات وتقديم عملية الخلق من منظور إلهي توحيدي. 8
  6. الله يسمو عن الخليقة: فما يخلقه الله فهو شيء مختلف عنه فلا توجد فكرة (وحدة الوجود) في الكتاب المقدس (pantheism ) الله موجود في العالم ولكنه ليس مرادف له بل أن الله مرتبط بالله وليس العكس. 9  

تكملة إجابة السؤال الثالث في الجزء الثالث من هذه المقالة 

لقراءة الجزء: الأول، الثاني، الثالث، الرابع

المراجع
  • 1Michael Fishbane, Biblical Myth And  Rabbinic Mythmaking (New York: Oxford Press, 2004), 33.
  • 2استيفان شربنتييه ، تعرف إلى الكتاب المقدس (بيروت: دار المشرق، 1989)، 23.
  • 3استيفان شربنتييه ، تعرف إلى الكتاب المقدس (بيروت: دار المشرق، 1989)، 23.
  • 4http://boulosfeghali.org/boulos/index.php/site/content?ID=2654&Cat=212
  • 5 لمزيد من هذه التشابهات أقرأ: لويس خليفة، اللاهوت والتفسير البيبلي (بيروت: المكتبة البولسية) أوسم وصفي، أسئلة في العهد القديم (القاهرة، 2014)، 52.
  • 6أوسم وصفي، أسئلة في العهد القديم (القاهرة، 2014)، 52-53.
  • 7روبير بندكتي، التراث الإنساني في التراث الكتابي (بيروت: دار المشرق، 1990)،  34.
  • 8روبير بندكتي، التراث الإنساني في التراث الكتابي (بيروت: دار المشرق، 1990)، 34.
  • 9ديفيد اتكنسون،  الكتاب المقدس يتحدث اليوم: سفر التكوين، الجزء الأول، ترجمة: نكلس نسيم (القاهرة: دار الثقافة، 1999)، 28.