موضوع المقال هو " الأساطير والكتاب المقدس " حيث سنحاول أن نجيب على بعض الأسئلة التي تتعلق بهذا الموضوع مثل

  • ما معنى مصطلح "الأسطورة"؟
  • هل الأسطورة تروي خرافة أم حدث تاريخي؟
  • ما هي المدارس الفكرية اللاهوتية التي تعاملت مع هذا الموضوع؟
  • هل توجد ثمة عناصر مشتركة بين الأساطير وقصص الكتاب المقدس؟
  • فيما تمتاز وتسمو قصص الكتاب المقدس عن الأساطير؟
  • هل كتبة الكتاب المقدس كانوا مطلعين على أساطير الحضارات المحيطة؟ وإن كانت الإجابة نعم فلا يعد هذا انتحالاً لتراث الحضارات المحيطة؟

سوف نركز في دراستنا على قصتين من الكتاب المقدس وعلاقتهما بالأساطير وهما:

  • قصة الخليقة الكتابية مع أسطورة "إنوما إليش " السومرية
  • قصة الطوفان الكتابية مع أسطورة " جلجامش "

أولاً: تعريف مصطلح الأسطورة:

تعددت واختلف تعريفات الأسطورة حتى بات إنه من المستحيل التوافق علي تعريف واحد ومحدد يرضي جميع العلماء. نقل عن القديس اغسطينوس عندما سؤل عن تعريف الأسطورة إنه قال:

 إنني أعرف جيدا ما هي، بشرط ألا يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سُئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ." 1

الأسطورة:

القصة الشعرية المصفوفة زجلاً أو شعراً بحيث تحوي موضوعاً دينياً يتعلق بالقوى العلوية والخفية، وهي موضوعة في قالب ذي ايقاع شعري موسيقي يتضمن الحدث المراد تأريخه سواء كان من صنع الإنسان أو الطبيعة أو الرب، لأجل أن يتلى ويتداول ويؤدي دوره في تثقيف العقول وتحريك المشاعر. 2

المشكلة الأزلية هل الأسطورة خرافة أم حدث حقيقي؟

هذا السؤال من أعقد الأسئلة في هذا المقال لأنك كلما فتحت قاموس تجد تعريفا مختلفة للأسطورة، منها ما يؤكد بانها "خرافة" ومنها ما يؤكد بأنها تحكي عن "أحداث تاريخية". فمثلا عندما تفتح قاموس The anchor bible dictionary تجده يسرد عدة تعريفات تؤكد " خرافية الأسطورة ":

التعريف اليوناني لكلمة " Myth " (أسطورة) يأتي بكل بساطة بمعنى " قول شيء أو إخبار قصة" لكن تطور المعنى لاحقا ليعنى " قصة مزيفة " ثم أضيف معنى جديد عليه من خلال أدب الفلكلور الشعبي لتعني " قصة تحكي عن الآلهة". وكذلك في "المعجم الوجيز": " الأسطورة هي الأباطيل والأحاديث العجيبة." 3 ونفس الأمر تجده في "المعجم الغني" بأنها " حديث ملفق لا أصل له  4

بينما نجد في مراجع وقواميس أخرى بأن الأسطورة تقص قصص لها أصل تاريخي:

خلال سرد قاموس  The Anchor Bible Dictionary للتعريفات التاريخية لمعنى مصطلح الأسطورة، يورد عدة تعريفات تؤكد تاريخية محتوى الأسطورة فيقول:  وبعد الحرب العالمية الثانية أُعطي تعريف جديد للأسطورة مثل: " قصة تم عرضها على أن أحداثها حقيقية وقد تمت أحداثها في العصور الغابرة وهي تشرح معنى العالم ومفاهيم الشعوب عن القوى الخارقة للطبيعة وعن الآلهة والأبطال والإعتقادات الدينية والعادات والتقاليد الثقافية لشعب معين." تعريف أخر " الأسطورة تحكي تاريخ مقدس؛ يتعلق بحدث تم وقوعه في العصور الأولى، وهي تحكي عن" البدايات، والأشخاص الفاعلين في القصة هم أشخاص خارقين للطبيعة " 5

يعرف الفيلسوف (ميرسيا إيلياد) بأن

 الأسطورة عند الأغريق تعني حكاية، والأسطورة تروي قصة مقدسة وحادثا وقع في زمن البدء سواء أكان ما آتى إلى الوجود هو الكون أو جزء منه، ولا يروي الميتوس – Mythos  الأسطورة – إلا ما حدث فعلاً ويفسر ما هو كائن وموجود فعلاً لذا فهو قصة حقيقية. 6

وهذا ما يجعلها تختلف عن القصة الخرافية:

 الخرافة لا تعتمد على الحدث أساسا لها وإنما تعتمد البطل. 7

الطريق الثالث:

يشدد الطريق الثالث الذي انتهجه عدد من المفكرين والمتخصصين في مجال الأسطورة بأنها حكاية مجازية أو رمزية تنقل خلفها حقيقة مؤكدة. 8 وتتسأل موسوعة " The Jewish Study Bible " عن مدى قابلية فهم القصص الكتابية (الخلق والطوفان) بطريقة حرفية تاريخية، وتؤكد التاريخ البشري لا يتضمن وقوع هذه القصص لذا لا يمكن الاستناد إلى القصة الكتابية على إنها تاريخية. 9 لذا فهي تعتبر شكل من أشكال التفكير لفهم اسباب الأمور ومن هذا المنطلق تكون وظيفة الأسطورة هو السعي لتوفير اسباب مقنعة للتغلب على التناقض أو الغوامض الموجودة في العالم والطبيعة من حولهم. 10 ويؤكد فراس السواح نفس التعريف فيقول:

الأسطورة هي حكاية مقدسة، ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان. 11

أعتقد بأن هذا التعريف الأشمل والأعمق، فهو يؤكد على " قدسية " الأسطورة لدى المجتمعات التي نشأت فيها بمعنى إنها كانت تحتل مكانة رفيعة في قلوبهم وأفكارهم وتتحكم في سلوكياتهم وتجاوب على الأسئلة العميقة في داخلهم.

يضع الباحث فراس السواح عدة عناصر مشتركة لهذه التعريفات:

  • إنها قصة .

  • متداولة شفاهية بين شعب معين.

  • شخصياتها الأساسية خارقين للطبيعة (آلهة – أو نصف إله ونصف إنسان).

  • تعالج أحداث في العصور القديمة.

  • تفسر الوجود أو الكون وحياة الإنسان

يقسم أ: غسان لافي طعمة الأساطير لعدة أنواع منها:

1- أسطورة تعليمية (التكوينية أو السببية  aetiological)
2- أسطورية طقسية Ritual Myth
3- أسطورة تاريخية: Legend myth مثل أسطورة جلجامش
4- أسطورة رمزية 12  

السؤال الثاني: ما هي المدارس الفكرية اللاهوتية التي تعاملت مع هذا الموضوع؟


توجد مدرسيتين فكريين أظهرت ردود أفعال مختلفة تجاه موضوع " الأساطير وعلاقتها بالكتاب المقدس"


مدرسة الحق الكتابي:

أصحاب هذه المدرسة يرون بأن القصص الكتابية هي الحق الإلهي المعلن في الكتاب المقدس وهي منزها عن الفكر الأسطوري. القصص الكتابية هي أفكار الله بينما القصص الأسطورية هي افكار ومحاولات البشر لذا لا توجد أي علاقة بينهما. 
القصص الكتابية كتبت بوحي الروح القدس الذي يعلن الحق ويسجل الأحداث كما حدثت بينما القصص اللأسطورية كتبت باجتهاد وتصورات بشرية وهي محض خيال. القصص الكتابية هي الأساس بمعنى أن القصص الأسطورية هي التي أخذت عنها وليس العكس. 13


المدرسة التاريخية:

تتعامل مع القصص الكتابية والقصص الأسطورية " كعمل أدبي" وتلاحظ اسبقية الوثائق والقصص من الناحية التاريخية والحضارية عن الأخرى. كذلك تحاول أن تفهم كيف تناقلت هذه القصص من سياقها الأصلي اللذي نشأت إلى سياقات أخرى وما هي العوامل التي أدت إلى هذا التفاعل بين الحضارات.
أما من الناحية التاريخية للوثائق فهي تؤكد أسبقية القصص الأسطورية عن القصص الكتابية من ناحية المخطوطات أو من ناحية نشأت الحضارات. فبينما كانوا بني إسرائيل نفرد قليل أثناء دخولهم لمصر كانت الحضارة المصرية في أوجها من ناحية التراث الديني والعلمي والحضاري وهكذا سبقتها أو لازمتها كل من الحضارات البابلية والكنعانية والسومرية. نستنتج من هذا بأن كتبة الكتاب المقدس هم من اقتبسوا من الإرث الديني لهذه الحضارات وليس العكس. هذا ما يؤكد الأب روبير بندكتي : كُتب الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد في المحيط الحضاري للشرق الأدني القديم وتأثر بمعارف تلك الحضارات وأثر فيها ونتيجة لهذا التفاعل أضحى بعض التراث الإنساني لهذه الحضارات جزءاّ من التراث الكتابي. 14
بالتالي لا يمكن فهم معاني ومحتوى الكتاب المقدس (خاصة العهد القديم) إلا من خلال فهم السياق الذي جاءت فيه هذه الكتب وهو السياق الحضاري للشرق الأدنى القديم. 15 وهذا نفس ما يؤكده د: عيسى دياب حيث يقول: " يؤكد كثير من الباحثين بأن العهد القديم تأثر بالموروث الديني لحضارات الشرق الأدنى القديم إن لم يكن في المعنى أو المضمون فكان في الشكل والممارسة 16

لقراءة الجزء: الأول، الثاني، الثالث، الرابع

 

المراجع
  • 1الأسطورة توثيق حضاري، تأليف: قسم الدراسات والبحوث في جمعية التجديد الثقافية الإجتماعية ( دمشق: دار كيوان للنشر، 2009)، 19.
  • 2الأسطورة توثيق حضاري، تأليف: قسم الدراسات والبحوث في جمعية التجديد الثقافية الإجتماعية ( دمشق: دار كيوان للنشر، 2009)، 25، 26.
  • 3المعجم الوجيز (القاهرة: مجمع اللغة العربية، 2003)، 310.
  • 4http://www.almaany.com/ar/dict/ar-arالأسطورة
  • 5The Anchor Bible Dictionary
  • 6الأسطورة توثيق حضاري، تأليف: قسم الدراسات والبحوث في جمعية التجديد الثقافية الإجتماعية ( دمشق: دار كيوان للنشر، 2009)، 23.
  • 7أحمد كمال ذكي، الأساطير دراسة حضارية مقارنة، الطبعة الثانية (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000)، 57.
  • 8Michael Fishbane, Biblical Myth And  Rabbinic Mythmaking (New York: Oxford Press, 2004), 2.
  • 9The Jewish Study Bible, (New York: Oxford, 1999), 11.
  • 10Michael Fishbane, Biblical Myth And  Rabbinic Mythmaking (New York: Oxford Press, 2004), 3.
  • 11فراس السواح، مقال ( الأسطورة: المصطلح والوظيفة).
  • 12غسان لافي طعمة، الأنماط الأسطورية وإنزياحاتها في شعر التفعيلة في سوريا (دمشق: كلية الأداب والعلوم الإنسانية)، 6.
  • 13عزت شاكر، أصعب الأيات في سفر التكوين (القاهرة: الكنيسة الإنجيلية بمدينة نصر، 2014)، 193.
  • 14 روبير بندكتي، التراث الإنساني في التراث الكتابي (بيروت: دار المشرق، 1990)، 6.
  • 15روبير بندكتي، التراث الإنساني في التراث الكتابي (بيروت: دار المشرق، 1990)، 9.
  • 16عيسى دياب، العهد القديم وعالمه وتحدياته، الجزء الأول (بيروت: كلية اللاهوت المعمدانية العربية، 2014)،127.

هذه المقالة مكونة من عدة أجزاء: الثاني، الثالث، الرابع.