في الجزئين الأول والثاني عرضنا مفهوم الوحي في ضوء الأخطاء الأخلاقية والتعليمية، والصلوات الانتقامية، والأخطاء العلمية، وأيضًا التناقضات اللفظية والجغرافية بل والتاريخية.

في هذا الجزء نستعرض معًا بعض النصوص التي نواجه فيها مشاكل من نوع آخر.

1- الوحي والإملاء:

يخشى الكثيرون التأكيد على الوحي الإملائي لأنه يلغي شخصية الكاتب، وهو ما يناقض بشدة وضوح شخصية كتبة معظم أسفار الكتاب، فأسلوب متى يختلف عن لوقا، وأسلوب مرقس يختلف عن بولس. مما يؤكد أن للكاتب شخصيته (أو قل بصمته) الواضحة في الوحي، فالوحي ليس إملاءًا يلغي الكاتب، لكنه اشتراك بين الروح القدس والكاتب، مما يجعل الله ظاهرًا في النص، والكاتب بأسلوبه ومفرداته وثقافته أيضًا ظاهرًا في نفس النص. ولكن يتلاشى هذا الخوف حين نرى بعض النصوص الإملائية فعلًا، دون أن يلغي هذا شخصية الكاتب لأن ما أملاه الله على الكاتب (أو بالحري ما قاله صراحة) لم يتعدَّى إدراك الكاتب وثقافته وفهمه.

وأوضح مثال على هذا هو الوصايا العشر التي كتبها الله بيده على لوحي الحجر ونقلها موسى عنه في سفر الخروج (خر20)، لكننا نجد سردًا مختلفًا لها في سفر التثنية (تث5) حين كتبها موسى مرة ثانية لتذكرة الشعب بما قاله الله، لأن شعب سفر التثنية كان الجيل الثاني لآباء الجيل الأول الخارجين من مصر والذين كانوا أطفالًا (أو لم يولدوا بعد) حين خرج آبائهم من مصر.

مثال آخر للإملاء هو ما أملاه أرميا لباروخ الكاتب، ودوَّنه في نبوة أرميا (السفر المُسمَّى باسمه)، مثل أر17:36-18.

أيضًا مثال (أو أمثلة) واضح من العهد الجديد وهو رسائل بولس والتي كانت غالبًا ما يكتبها شخص آخر يمليه بولس ما يريد أن يقول في الرسالة (رو22:16).

وهذا يعني أن هناك (بعض الأجزاء) في كلمة الله أملاها الله على الكاتب، أو أملاها النبي على الكاتب، دون أن يعني هذا إلغاء شخصية الكاتب.

2- الوحي واللَّفظ:

يقولون أن (الكلمات هي وعاء اللغة)، فبدون كلمات/ألفاظ واضحة مفهومة ومعروفة للسامع/القارئ، تفقد اللغة معناها وقصدها عند القارئ. ولهذا لا يمكن ألا يعتمد الوحي (وهو ببساطة إعلان الله لنا) بحال من الأحوال على ألفاظ واضحة ومفهومة المعنى (وهذا لا يعني أن كل سفر في الكتاب المقدس سهل الفهم، لكنه يعني أنه لا بد أن يحوي السفر كلمات وجمل مفهومة وواضحة)، وهذا ما فعله بولس الرسول حين استخدم لفظ (نسل) في غلا16:3 ليحدّد الكلام عن المسيح وليس عن أي شخص آخر، إذ يقول:

وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله، لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد (وفي نسلك) الذي هو المسيح.

بل هذا هو ما فعله المسيح حين أفحم الفريسيين الذين شكَّكوا في هوية المسيح كابن الله، إذ قال لهم:

ماذا تظنّون في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًّا قائلًا (قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءَك موطئًا لقدميك)؟ فإن كان داود يدعوه ربًّا، فكيف يكون ابنه؟ (مت42:22-45)

فمع أن سفر المزامير سفرًا شعريًّا، إلا أن هذا لا يعني أن كل ما يسرده ويقوله يُفهَم رمزيًّا، لكنه فقط يعبّر عن واقع حقيقي (وأحيانًا تاريخي) بصورة شعرية. ولهذا استخدم المسيح جملة واحدة بألفاظ محددة وواضحة في نص شعري لكنها تعني ما تقوله فعلًا بألفاظها أن المسيح هو (رب داود) وليس فقط (ابن داود)، وهو ما فهمه اليهود جيّدًا ولم يجادلوه فيه.

إذًا هناك ألفاظًا استخدمها كتبة الوحي، كان الروح القدس يعنيها فعلًا (وليس فقط يعني مضمون الكلام مثل إنجيل متى)، فتطبيق وحي المعنى/الفكرة (النظرية الثالثة) على كل الكتاب لا يتناسب مع الأمثلة التي ذكرناها (في اقتباس بولس واقتباس المسيح لألفاظ بعينها)، وتطبيق وحي اللفظ (النظرية الخامسة) على كل الكتاب لا يتناسب مع سرد متى لقصة قائد المئة التي ذكرناها، فوحي الكتاب المقدس أكبر من أن نحصره في نظرية واحدة نفرض بها تفسيرًا للوحي لم يعنيه الله ولم يقصده.

3-الوحي والأمور الشخصية:

هناك بعض الأمور التي نقف أمامها حائرين ونسأل: كيف سمح الله لمثل هذه الأمور أن تُكتَب في سفر من المفترض أنه موحى به؟

فما الذي يعنينا في قول بولس لتيموثاوس في (2تي13:4)

الرداء الذي تركته في ترواس عند كاربس أحضره متى جئت، والكتب أيضًا ولا سيّما الرقوق

أليست هذه أمورًا شخصية بحتة كان من المفترض ألا تحويها رسالة مُوحى بها؟!

مرة ثانية نقف أمام سرد صحيح لما قاله وكتبه بولس، وإن كانت هذه الجملة لا تحمل تعليمًا لاهوتيًّا صريحًا، إلا أننا أمام صدقها نتعلَّم أمورًا حقيقية قوية، فالدروس التي نتعلَّمها في الحياة لا تأتي فقط من الكتب والأقوال، بل أيضًا من المواقف والأفعال.

فها هو بولس، أعظم من أنجبته المسيحية في القرن الأول يقف محتاجًا في عِوَز لرداء! بل ويكتب هذه الرسالة وهو في السجن، ليس لأنه سارق أو قاتل أو زاني، بل لأنه يخدم المسيح!

وها هو بولس، فيلسوف المسيحية الأعظم، يعلن احتياجه لكتب ليقرأ ويتعلَّم! بل واحتياجه لرقوق ليكتب عليها فيُعلّم غيره! لأن

المُروي هو أيضًا يُروَى (أم25:11)

فإن كنا نحن لسنا مثل بولس في عظمته وفلسفته، أفلا نحتاج بالأولى للقراءة والفهم؟ ألا نحتاج أن ندرك أن خدمة الرب يسوع لا تعني بالضرورة الصحة والغنى؟ ألا نحتاج أن نتشارك مع إخوتنا بما يعلّمنا الرب إياه؟!

إذن سمح الله في الوحي بالأمور الشخصية لكي نتعلَّم منها بصورة غير مباشرة، تمامًا مثلما سمح بوجود تعاليم واضحة نتعلَّم منها بصورة مباشرة.

بالطبع هناك الكثير من الأمور التي لم أتعرَّض لها، مثل إشكالية الخَلق المباشر ونظرية الانتخاب الطبيعي (أو التطوّر)، أو إشكالية حروب العهد القديم وقتل الأطفال والرُّضَّع، وإشكالية صحة تاريخية بعض قصص العهد القديم مع الاكتشافات التاريخية والجيولوجية الحديثة وغيرها. لكني لم أكن أقصد كتابة حل ل (كل) إشكاليات الكتاب بصفة عامة، قدر ما كان يعنيني إلقاء الضوء على معنى الوحي في المسيحية من خلال التعرّض ل (بعض) الإشكاليات الكتابية. وبالطبع لم أتحدث عن إشكالية اقتباس كتبَة العهد الجديد لنبوات العهد القديم وتفسيرها بمعنى قد يخالف تمامًا ما يقصده كاتب العهد القديم (ولأهمية هذا الموضوع، أحيل القارئ لهذا الكتاب الثمين لعرض وجهات النظر المختلفة لتلك الاقتباسات:

Three Views on the New Testament Use of the Old Testament

ويبقى التحدي أمام كل مسيحي في المحاولة الجادة لفهم كل نص (وليس فقط كل سفر) فهمًا صحيحًا في ضوء ثقافة كاتبه وقارئه وقتها، ولس في ضوء ثقافة القرن الحادي والعشرين، واستخلاص معنى الوحي وقصد الكاتب في كل قصة وعبارة وحَدَث.

وفوق كل هذا، فالوحي في الأساس هو إعلان الله، ولا يمكن أن نفهم إعلان الله سوى بمؤازرة ومعونة روح الله، فلا يشرح الله سوى الله نفسه. ولهذا حينما سأل فيلبّس الخصيّ الحبشي في أع8 قائلًا

ألعلّك تفهم ما أنت تقرأ؟

 أجابه صادقًا

كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد؟.

فلا غنى عن روح الله وعن الكنيسة التي أودع الله فيها أنبياء ومعلّمين يشرحون الكلمة ويفصلّونها بالاستقامة (2تي15:2)، وإن كان هذا لا يعني عصمتهم، لكن يظلون هم عطية الله للكنيسة في كل زمان ومكان، وتبقى الكنيسة غنية بآبائها ومعلّميها الذين بذلوا الجهد في القرون الأولى للمسيحية لشرح المسيحية والدفاع عنها ضد البدع والهرطقات، وعلى يدهم وصلت إلينا المسيحية كما هي الآن.

وأخيرًا أضع قول الرب يسوع للناموسي الذي جاء له في لو25:10 يُجرّبه، فقال له:

 يا مُعلّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟

فقال له الرب:

ما هو مكتوب في الناموس، كيف تقرأ؟.

فالسؤال ليس هو: ماذا تقرأ؟ فكل المسيحيون يقرأون نفس الكتاب المقدس.

لكن السؤال هو: كيف تقرأ؟

هل تفهم؟ هل تسعى أن تفهم؟ هل تطلب من الرب الإرشاد؟ هل تدرك ثقافة الكاتب وخلفيّته؟ هل تقرأ لتجد الثغرات وتمتحن الكتاب؟

قال القس تيموثي كيلر  في كتابه (يسوع الملك) متحدّثًا عن الرب يسوع:

قبل تغييري، كنت أمتحن الكتاب، أستجوبه وأحلّله ..بعد تغييري، أصبح الكتاب، أو بالحري شخصٌ ما من خلال الكتاب ..يمتحنّي، يستجوبني ويُحلّلني

فهي دعوة لي ولك أن نقترب متضعين من كلمة الله الموحى بها، نتعلَّم منها ونخضع لها. فنتركها كي تختبرنا وتكشف أعماقنا، فندرك من هو الله ومن نحن، فنطلب منه متضعين أن يغيّرنا لنكون مشابهين صورة ابنه. فهذا هو غرض الكتاب المقدس: لا أن يعطينا حياة أبدية، بل ليشير لنا على الرب يسوع ويشهد له، لأن الرب يسوع هو الحياة بل الحق، كل الحق.

هذا المقال مكون من أجزاء لمتابعة أجزائه من هنا: الجزء الأول، الجزء الثاني.