
الوحي >
الوحي :هل حقاَ تشرحه نظرية (ج1)
ديفيد ويصا
5/10/17 - ٥ دقيقة قراءة
من أشهر الآيات التي يعتمد عليها المسيحيون للتأكيد على وحي الكتاب المقدس هي تلك المذكورة في 2تي16:3-17؛ 2بط16:1-21:
كل الكتاب هو مُوحَى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البرّ. لكي يكون إنسان الله كاملًا متأهّبًا لكل عمل صالح
لأننا لم نتبع خُرافات (أساطير) مُصنَّعة .. بل قد كُنّا معاينين عظمته .. وعندنا الكلمة النبويةّ وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها ... عالمين هذا أولًا: أن كل نُبوّة الكتاب ليست من تفسير خاص (بذاتها، بمعزل عن الأخرى)، لأنّه لم تأت نبوة قطّ بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس الله القدّيسون مَسوقين من الروح القدس.
وفي محاولة المسيحيون لفهم ماهية (طبيعة وكيفية) وحي الكتاب ، نجد أنهم ينتمون لواحدة من خمس مدارس يحاولون من خلالها تفسير وحي (كل) أسفار الكتاب المقدس، وهي:
1- نظرية الوحي الطبيعي (الله لم يوحي، والكاتب أخطأ).
2- نظرية الوحي الجزئي (بعض الكتاب مُوحى به، والباقي الكاتب أخطأ).
3- نظرية الوحي الفكري (أفكار الكتاب موحى بها، أما كلمات الكتاب فليست بالضرورة صحيحة).
4- نظرية الوحي الإملائي (الله أملى والكاتب كتب أوتوماتيكيًّا – دون أخطاء).
5- نظرية الوحي اللفظي (الله قاد بروحه والكاتب كتب بشخصيّته – دون أخطاء).
ولكل نظرية نقاط قوتها ونقاط ثغراتها. ولكن أفضل طريقة لفهم الوحي هي السَّماح لنصوص الكتاب المقدس أن تتحدث عن نفسها (وبالتالي وحيها)، لا بفرض نظرية واحدة لتفسير الوحي كلّه. لذا يجب علينا ألا نتقيَّد بنظرية واحدة نفرضها على كل الكتاب.
ولكي نصل لهذا، دعنا نختار وننتقي بعض نصوص الكتاب المقدس، نحاول من خلالها أن نفهم طبيعة (كيفية) وحي الكتاب. ومن خلال تلك النصوص نستطيع أن نُلخّص مفهوم الوحي في المسيحية كالتالي:
(1) الوحي والأخطاء الأخلاقية والتعليمية.
(2) الوحي والصلوات الانتقامية.
(3) الوحي والأخطاء العلمية.
(4) الوحي والتناقضات اللفظية على لسان نفس الشخص.
(5) الوحي والتناقضات الجغرافي.
(6) الوحي والتناقضات التاريخية.
(7) الوحي والإملاء.
(8) الوحي واللَّفظ.
(9) الوحي والأمور الشخصية.
وسوف نناقش تلك النقاط في ثلاثة أجزاء، كل جزء منها يُغطّي ثلاثة نقاط.
1- الوحي والأخطاء الأخلاقية والتعليمية
يجب أن نُفرّق بين الأخطاء الأخلاقية والتعليمية التي يسردها (يحكيها) الروح القدس بقلم الكاتب، والدرس الذي نتعلَّمه منها.
فكاتب النص (إن كان نصًّا تاريخيًّا!) صادق تمامًا في سرده لما حدث، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن ما حدث صحيح أخلاقيًّا. فالإنسان لا يتعلَّم فقط من الأقوال/الأفعال الصحيحة بل أيضًا من الأقوال/الأفعال الخاطئة. فالأفعال الصحيحة هي دعوة مباشرة للتَّعلُّم (بالتَّمثل بها)، والأفعال الخاطئة هي دعوة غير مباشرة للتَّعلُّم (بتجنّبها).
فحينما يحكي الكاتب ما حدث من بنات لوط في"بمضاجعة لوط" تك19، وما قالته الحيَّة في "لن تموتا" تك3، فهو صادق تمامًا فيما حدث من بنات لوط أو ما قالته الحيَّة، لكن هذا لا يعني أن ما حدث من بنات لوط صحيح أخلاقيًّا، أو أن ما قيل على لسان الحيَّة تعليمًا صحيحًا. فما نتعلَّمه من السرد الصادق للحدث/القول هو أن ما حدث من بنات لوط خطأ، وما قالته الحية خطأ.
ولكي نمتحن صحة أي قول/فعل مذكور في الكتاب يجب علينا أن نقارنه بتعليم الرب الواضح في الأسفار المقدسة (مع مراعاة الفارق بين تعليم العهد القديم والجديد). فما اتفق مع تعليم الرب فهو صحيح، وما اختلف معه فهو خطأ.
فالوحي يعني (صدق) الكاتب في سرده لما حدث/قيل، لكنه لا يعني بالضرورة صحة الفعل أخلاقيًّا أو القول تعليميًّا.
2- الوحي والصلوات الانتقامية
هناك بعض المزامير (والأسفار الأخرى) في الكتاب المقدس يسجّل فيها الكاتب صلواته التي يطلب فيها من الله الانتقام من أعدائه وتدميرهم، وتُسمّى تلك المزامير بمزامير الانتقام أو مزامير اللعنات!، على سبيل المثال لا الحصر مزمور 35، 69، 109 و137، إذ يقول الكاتب
خاصم يا رب مخاصميَّ، قاتل مقاتليَّ. امسك مجنًّا وترسًا وانهض إلى معونتي ... ليخز وليخجل الذين يطلبون نفسي ... ليكن طريقهم ظلامًا وزلقًا وملاك الرب طاردهم ... لتأته التهلكة وهو لا يعلم .. وفي التهلكة نفسها ليقع مز1:35-8
وكما قلنا في الجزء السابق الخاص بـ (الوحي والأخطاء الأخلاقية والتعليمية)، نقول هنا أنه كما كان الوحي صادقًا في تسجيل خطايا رجال الله (مثل كذب إبراهيم وزنا داود)، كان صادقًا أيضًا في تسجيل أقوالهم (بل وصلواتهم). فلم يخفي الله عنا خطايا وضعفات أنبيائه، ليظهرهم بصورة ليسوا عليها، بل كان صادقًا في سردها كي نعلم أنه لا يوجد إنسان لم تهزمه الخطية مهما كانت علاقته ومعرفته بالله، ولا يوجد إنسان مهما كانت خطيته بعيدًا عن نعمة الله! التي وصلت ولازالت تصل لأشر الخطاة، بل وأبرّ الأبرار.
وكما أن الله كان صادقًا في سرد الأفعال الخاطئة دون أن يوافق عليها، هكذا أقول أنه كان صادقًا في سرد الصلوات الانتقامية دون أن يعلن استجابتها، فالله يعلم تمامًا أن مؤمن العهد القديم كان مرحلة مؤقتة (طفولية بل وسيأتي الوقت لاضمحلالها بحسب عب13:8)، وكان يترك فيها للمؤمنين حرية التصرف في حدود إدراكهم بحسب إعلانه الجزئي عن نفسه لهم، فالطفل يجب أن يدرك قوة أبيه للحماية، قبل أن يستطيع أن يتعلَّم قوة أبيه للغفران. فلم نكن لنفهم قلب الله الحقيقي نحونا ونحو العالم بدون المسيح الذي علَّمنا
سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم .. وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم .. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين مت43:5-45
ولهذا أدرك رجال الله في العهد الجديد أن النقمة متروكة للرب بحسب حكمته وسلطانه، ولا داعي لنا أن نملي عليه ما يجب أن يفعله مع أعدائنا، فيقولون له في أع29:4
والآن يا رب انظر إلى تهديداتهم وامنح عبيدك أن يتكلَّموا بكلامك بكل مجاهرة
ويقول بولس لتلميذه تيموثاوس في 2تي14:4
اسكندر النحاس أظهر لي شرورًا كثيرة، ليُجازِه الرب حسب أعماله
فمؤمن العهد القديم كان يطالب بانتقام الرب له، بينما مؤمن العهد الجديد يُسلّم الأمر للرب ليرى بحسب حكمته وسلطانه أفضل قرار.
ولكي نمتحن صحة أي صلاة مذكورة في الكتاب يجب علينا أن نقارنها بتعليم الرب الواضح في الأسفار المقدسة (مع مراعاة الفارق بين العهد القديم والجديد). فما اتفق مع تعليم الرب فهو صحيح، وما اختلف معه فهو خطأ.
فالوحي يعني (صدق) الكاتب في سرده لما قيل في الصلاة، لكنه لا يعني صحة الصلاة في ضوء إعلان الله لنا عن نفسه في المسيح (عب2:1).
3- الوحي والأخطاء العلمية
يجب أن نتعامل مع النصوص بحسب قصد كاتبها، لا بحسب ما نريد أن نفهمه منها أو نفرضه عليها. فقد استخدم الله كتبة الوحي بحسب ثقافتهم ومفردات لغة عصرهم ومعرفتهم العلمية الجزئية والتي تختلف وتقل بالتأكيد عن معرفتنا وفهمنا الآن، دون أن يُخِل هذا بمضمون الرسالة التي أراد الله توصيلها لنا من خلالهم.
فلا استطيع أن أتعامل مع قول يشوع للشمس في يش10
يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيّلون
بطريقة علمية فأقول أن الكتاب يحوي أخطاء علمية لأننا نعلم أن الشمس لا تتحرك، لكن الأرض هي التي تدور حول الشمس. فقول يشوع هنا يوازي قولي الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين
الشمس بتطلع على الساعة 6 الصبح، وبتمشي على 6 بلليل
فما أعنيه أنا هو ما يفهمه أي مستمع للجملة الآن، بالرغم من معرفته (ومعرفتي) أن الشمس لا تتحرك بينما الأرض هي التي تدور حولها.
وقول إشعياء في أش40
الجالس على كرة الأرض
ليس إعجازًا علميًّا بحال من الأحوال، فإشعياء لم يكن يعلم – مثل معاصريه في هذا الوقت – أن الأرض كروية (كما نعرف نحن الآن)، لأن هو نفسه قال في الآية التي تسبقها "ألم تفهموا من أساسات الأرض؟" وكأن الأرض مؤسسة على أساسات، وفي الآية التي تليها "الرب خالق أطراف الأرض"، وكأن الأرض مُسطَّحة ولها أركان (أطراف).
لكن المدقّق في هذا النص يستطيع أن يفهم بسهوله (قصد) إشعياء من سرده للموضوع بهذه الطريقة، فإشعياء يريد أن يطمئن الشعب من جهة سلطان الله ورعايته لهم، ولذلك يقول أن الرب هو الذي يحفظ الأرض كالمصمّم الذي أسَّس قواعد قوية لمبنى عملاق، فاستخدم لفظة (أساسات الأرض)، لكن حينما يتحدث عن جلوس الرب كالملك المتسلّط، يقول (كرة الأرض)، وحين يريد أن يؤكد على سلطان الرب على المخلوقات ورؤيته لهم في كل مكان يستخدم لفظة (أطراف الأرض).
فالسؤال في يش10 ليس هو: هل يتَّسق قول يشوع مع الاكتشافات العلمية الآن؟
لكن السؤال هو: هل ما قصده يشوع هو تقديم حقيقة علمية أم جملة بسيطة يفهم السامع (معناها) دون أن يتقيَّد بحرفية (ألفاظها)؟
والسؤال في إش40 ليس هو: هل يتَّسق وصف إشعياء للأرض مع الاكتشافات العلمية الآن؟
لكن السؤال هو: هل ما قصده إشعياء هو تقديم وصف علمي حرفي دقيق لشكل الأرض أم تشبيهات حقيقية صحيحة لوصف سلطان وعناية الله، يفهم السامع (معناها) دون أن يتقيَّد بحرفية (ألفاظها)؟
إذن بالرغم من طبيعة نص يش10 التاريخي وطبيعة نص أش40 النبوي (الرمزي)، إلا أننا نجد أن قولهما (يشوع وإشعياء) لا يُقصد به جملة/معلومة حرفية، قدر ما يُقصَد به (معنى) صحيح بحسب سياق الحديث.
فالقارئ الذي يريد أن يمتحن النصَّين علميًّا، بالتأكيد سيرى أنهما يقدّمان معلومة علمية خاطئة، لكن القارئ الدارس لطبيعة النص وسياقه لن يفكّر بحال من الأحوال في امتحانه في ضوء الاكتشافات العلمية، بل في ضوء ما يقصده يشوع وما يعنيه إشعياء.
هذا المقال مكون من أجزاء لمتابعة أجزائه من هنا: الجزء الثاني، الجزء الثالث.