في هذا الجزء نستعرض معًا بعض النصوص التي نواجه فيها مشكلة أخرى في غاية الأهمية وهي التناقض الواضح بين الأحداث التي سُجِّلت مرتين أو أكثر في الكتاب (مثل أحداث سفري الملوك وسفري الأخبار، أو أحداث الأناجيل الأربعة وغيرها)، فمحاولات البعض لحل هذه التناقضات قد أدَّت لنتيجة عكسية تمامًا، إذ رفض الكثيرون بسببها وحي الكتاب. ليس فقط بسبب تلك التناقضات بل بسبب محاولة البعض تقديم حلول لها بطريقة غير صحيحة (بسبب تقيّدهم بنظرية واحدة للوحي يريدون تفسير كل الكتاب بها بغض النظر عن صحّة تعميمها من عدمه). وأوضح مثال لذلك هو التناقضات بين الأناجيل الأربعة، والتي نرى فيها تناقضات في الأقوال والأماكن والتفاصيل. لذا دعنا نختار بعض العيّنات المتناقضة ونحاول أن نفهم من خلالها ما هو الوحي.

1- الوحي والتناقضات اللفظية على لسان نفس الشخص:

نأخذ مثالًا واحدًا لهذا التناقض وهو تجربة الرب يسوع من الشيطان في البرية بعد معموديته، ففي إنجيل متى نجد جملة مختصرة مقتضبة للشيطان يقول فيها للرب

أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي (مت4)

بينما في إنجيل لوقا نجد سردًا مطوّلًا لنفس الجملة إذ يقول على لسان الشيطان

لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ لأنه إليَّ قد دُفِعَ وأنا أعطيه لمن أريد. فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع (لو4).

فإن تمسَّكنا باللفظ قد نسأل: ما الذي قاله الشيطان تحديدًا؟ وقناعتي الشخصية أننا قد لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إجابة لا تقبل الجدل، لكنني قبل أن أجيب، أسأل: هل (فحوى) أو محتوى القول الذي نسبه متى للشيطان يناقض محتوى القول الذي نسبه له لوقا؟ لا أعتقد هذا، فالمحتوى تقريبًا واحد. لكن القارئ المدقق لإنجيل متى وأسلوبه يعلم أن متى لا تستهويه كثيرًا دقة وحرفية التفاصيل، قدر ما يعنيه الهدف اللاهوتي الذي يريد أن يوصله للقارئ، وفي سبيل هذا اقتطع بعض التفاصيل واستخدم بعض الألفاظ التي تخدم هدفه دون أن يتقيَّد بمطابقة كل لفظ وحَدَث لما حدث فعليًّا. وسوف نرى هذا في تناقضات واضحة حالًا، لكني أكتفي الآن أن أقول أننا أمام احتمال من اثنين: إما أن الشيطان قال ما نسبه له لوقا واختصره متى، إما أنه قال ما نسبه له متى وزاد عليه لوقا. وحيث أن لوقا يقول في مقدمة إنجيله أنه

إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقَّنة عندنا .. رأيت أنا أيضًا – إذ قد تتبَّعت كل شيء من الأول بتدقيق – أن أكتب (لو1:1-3)

فلوقا بطبيعته كمؤرخ يسرد ما حدث فعلًا دون أن يهدف إلى أي غرض لاهوتي أو فكر روحي معيَّن يصيغ الأقوال والأحداث في ضوئه، فهدف لوقا هو السرد الفعلي لما حدث وقيل. أما متى فالغرض اللاهوتي والفكر الروحي هو غرضه الأول، وفي سبيل هذا يصيغ الأقوال والأحداث كي تخدم هذا الغرض.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن متى اختلق وألَّف أقوالًا وأحداثًا لم تحدث، لكن كلاهما (متى ولوقا) صاغا أقوالًا وأحداثًا حقيقية تاريخية بأسلوب يختلف عن الآخر، دون أن يخلّ أحدهما بمضمون الحَدَث أو معنى القول.

2- الوحي والتناقضات الجغرافية:

لعل أوضح مثال لهذا هو ما اصطلح المسيحيون على تسميتها ب (الموعظة على الجبل) لأن متى يقول

ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدَّم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلّمهم قائلًا (مت5)

لكن الملفت للنظر أن لوقا يقول

ولما كان النهار دعا تلاميذه ... ونزل معهم ووقف في موضع سهل ... ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال (لو6).

فمن المستحيل بالنسبة لي التوفيق بين الجبل (المرتفع) والسَّهل (المنخفض). لكن المتابع للموعظة على الجبل (كما أسماها متى) يجد أنها تتكرَّر في إنجيلي مرقس ولوقا متقطَّعة (على أجزاء) وليست مكتملة (كما يوحي سرد متى لها في ثلاثة إصحاحات متتالية من 5 إلى 7).
وهذا يعني ببساطة أن متى جمَّع أقوال المسيح مُركَّزة في عظة واحدة، على ما يبدو كان جزءًا منها على جبل، ثم نسب كل الموعظة للجبل. لأن متى يخاطب اليهود ويعنيه بالدرجة الأولى إثبات مسيَّانية الرب يسوع، سواء في اقتباسه للنبوات التي قال أنها تمَّت في المسيح (ولهذا نجد أن متى وحده ينفرد بلفظة "لكي يتم ما قيل بالنبي") أو في مقارنته بين موسى (أعظم شخص عند اليهود) والمسيح، فإن كان موسى استلم الشريعة والناموس من الله على الجبل (جبل سيناء) فها هو المسيح يُعلّم بسلطانه (دون أن يستلم من أحد) من على جبل أيضًا.
فنجد مرة ثانية أن غرض متى لاهوتي وروحي، ولهذا يصيغ ما قاله المسيح ويجمعه في موعظة واحدة دون أن يقصد أن يقول أن المسيح قال كل هذه العظة دفعة واحدة كما يوحي سرد متى للموعظة. فتاريخيًّا لم يقل المسيح كل هذه الموعظة دفعة واحدة، وهذا ما نفهمه من سرد لوقا لها على أجزاء كثيرة. فلوقا يهتم بسرد ما قاله المسيح فعلًا في كل مناسبة، بينما متى يهتم بإظهار المسيح كمن هو أعظم من موسى، دون أن يهتم بتاريخية سرد الموعظة (أو بالحري العظات). وهذا ما نلاحظه بسهولة في مت13 إذ جمع متى كل أمثال ملكوت السموات دفعة واحدة، بينما نفهم من سرد الأمثال في إنجيل لوقا أن الرب يسوع لم يقلها دفعة واحدة.

فعلى سبيل المثال نجد أن ما قاله المسيح في الموعظة في لو24:6-25

ويلٌ لكم أيها الأغنياء .. ويلٌ لكم أيها الشَّباعى .. ويلٌ لكم ايها الضاحكون ... 

لم يذكره متى على الإطلاق، بل اكتفى فقط بالتطويبات.

ولهذا فمن الخطورة تفسير جزء من هذه العظة في ضوء ما يسبقها أو يليها في متى، لكن لفهم سياق الحديث في أي جزء منها ينبغي لنا أن نرجع لسرد لوقا لها إذ أنه (بحسب ما قاله في لو1:1-3) يسردها بحسب الظروف التي قالها المسيح فيها.

مرة ثانية نجد أن محتوى ومضمون العظة في متى لم يختلف عن مضمونها في لوقا، لكن أسلوب سردها وبعض ألفاظها اختلف بالتأكيد لأن هدف متى من سردها يختلف عن هدف لوقا من سردها.

3- الوحي والتناقضات التاريخية:

نأتي الآن لواحد من أصعب التناقضات بين الأناجيل، وهو قصة شفاء عبد قائد المئة. ففي مت5:8-13 يقول متى صراحة

ولما دخل يسوع كفرناحوم جاء إليه قائد مئة يقول ..

ثم يكمل سرد الأحداث موحيًا لنا أن المسيح تحدَّث مباشرة لقائد المئة بلغة المفرد. بينما يسرد لوقا نفس القصة في لو1:7-10

ودخل كفرناحوم، وكان عبد لقائد مئة مريضًا .. فلما سمع عن يسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسأله أن يأتي ويشفي عبده .. فذهب يسوع معهم وإذ كان غير بعيد عن البيت أرسل إليه قائد المئة أصدقاء يقول له ..

ثم يكمل سرد الأحداث موحيًا لنا أن المسيح تحدَّث لشيوخ اليهود ولأصدقاء قائد المئة بلغة الجمع، موصلًا رسالة غير مباشرة لقائد المئة.

وأي قارئ أمين لا بد أن يرى تناقض صريح بين متى ولوقا، فهل ذهب قائد المئة للمسيح أم لم يذهب؟

مع الوضع في الاعتبار ما سبق وأوضحناه بخصوص الفارق بين أسلوب متى ولوقا، دعنا نذكر مثالًا عمليًّا يحل إشكالية هذا التناقض:

قال لي أحدهم أن أوباما وجَّه اليوم دعوة رسمية للسيسي لزيارة الولايات المتحدة وحل الإشكالية القائمة بين البلدين، فرفض السيسي الدعوة ووجَّه نقدًا شديدًا لسياسة أوباما في الشرق الأوسط، فما كان من أوباما إلا أنه رضخ للنقد ووجَّه اعتذارًا رسميًّا للسيسي، فقبِل بعدها الدعوة.

بعد هذا عدت للبيت كي أسمع النشرة الإخبارية على الفضائية المصرية، فقالوا أن المتحدث الرسمي للبيت الأبيض وجَّه دعوة رسمية للسفير المصري ولقصر الرئاسة لزيارة الولايات المتحدة، فما كان من السفير المصري إلا تأكيد مصر على رفض الدعوة بسبب سياسة أمريكا الغير عادلة تجاه القضية السورية، فما كان من السفير الأميركي بجمهورية مصر العربية إلا قبول النقد والقيام بزيارة قصر الرئاسة بالاتحادية وتوجيه اعتذارًا رسميًّا، فأعلن المتحدث باسم الاتحادية على إثر تلك الزيارة قبول اعتذاره وقبوله لدعوة الزيارة!

نجد هنا اختلافًا واضحًا بين ما سرده لي صديقي وبين ما أعلنته نشرة الأخبار، وبالرغم من سرد الحدث من صديقي بصيغة المفرد (كما لو كان أوباما يتحدَّث إلى السيسي مباشرة)، إلا أن النشرة الإخبارية قالت ما يناقض هذا السَّرد. لكني أعلم تمامًا أن المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض يتحدَّث باسم أوباما كما لو كان أوباما هو المتكلّم، وكذلك السفير في أي دولة وكذلك المتحدث باسم الاتّحادية.

حرفيًّا هناك تناقض واضح، لكن فعليًّا لا يوجد أي تناقض بين مضمون القصّتين، طالما كان السامع مدرك لثقافة المتكلّم وغرضه من سرد القصة بهذه الطريقة، فالأول أراد أن يظهر السيسي ندًّا لأوباما (بنفس القيمة بل وأفضل لأنه رفض الدعوة وقبِل الاعتذار)، بينما كان اهتمام النشرة بسرد الحدث كما هو دون أي غرض آخر.

وهكذا متى ولوقا، متى يتحدَّث عن المسيح الملك مُتمّم النبوات، والذي هو أعظم من موسى. فتحدَّث عن الرب يسوع كالنّد لقائد المئة (بل وأعظم لأنه شفى بكلمة وبسلطان)، بينما اهتم لوقا فقط بالسرد التاريخي الفعلي للحدث دون أي غرض آخر.

ولهذا فهناك تناقض حرفي/ لفظي واضح في سرد القصة بين متى ولوقا (وبالتالي يُشكّك في تاريخية الحَدَث) إن كان القارئ لا يدرك ثقافة وأسلوب وخلفية الكاتب والنص، لكن يختفي هذا التناقض عندما نفهم أسلوب متى وغرضه.

فالسؤال ليس هو: هل ذهب قائد المئة للمسيح أم لم يذهب؟

لكن السؤال هو: هل كان عبد قائد المئة مريض؟ هل عرف المسيح خبر مرضه؟ هل شفاه المسيح؟ والإجابة على كل هذه الأسئلة: نعم بالتأكيد. فهذا ما يشترك فيه متى ولوقا لأن الحدث (المرض والشفاء) حصل فعلًا، مع اختلاف تفاصيل سرده بين متى ولوقا، كلٌ بحسب قصده وغرضه من سرد القصة.

هذا المقال مكون من أجزاء لمتابعة أجزائه من هنا: الجزء الأول، الجزء الثالث.