هناك حجة معرفية أخرى تحاول إثبات أنَّه يجب أنْ يكون لدينا حرية إرادة. تخيّل معي وجود كتاب تعليمي بدون معتقد غير مبرَّر معرفيًّا، هذا يشبه الإيمان بالله لمجرد أنَّك قمت بإلقاء العملة وجاء الوجه على "الكتابة" بدلًا من "الملِك" (وقد كنت قررت مسبقًا أنَّ وجه العملة لو كان "الكتابة" ستؤمن بالله وإنْ كان "ملكًا" لن تؤمن به).
قد يكون ما تؤمن به صحيحًا ولكن حتى لو كان كذلك لا يُوجَد له تبرير. لماذا هو غير مبرَّر؟ لأنَّ الطريقة التي استخدمتها لصياغة إيمانك لا تسعى على نحو موثوق به إلى الحق. أنْ يكون لديك إيمان "مُبَرَّرٌ" يعني أنَّك تكون قد صِغْتَ معتقدًا – على الأقل بشكل جزئي – يهدف في جوهره إلى بلوغ الحق. لكن لو افترضنا (for reductio) أنَّ القدرية صحيحة فإنَّ هذا يعني أنَّ أي شيء نؤمن به هو نتاج عمليات قدرية بالكامل، سواء آمنّا بالله أم لا، سواء آمنّا بمسلّمات العلم أم لم نؤمن، وحتى سواء آمنّا بالقدرة أم لا، هي مسألة قدرية صارمة في مجملها، وهذا يعني أنَّ كل العمليات التي نصيغ بها معتقداتنا تعمل بشكل قدري، ولكن هذا يعني أيضًا (بما لدينا من معتقدات بشرية ذات تنوُّع كبير وواضح) أنَّ هذه العملية لا تسعى بشكل موثوق به إلى الحق وليس لدينا سبب جيد يجعلنا نشك في كافة معتقداتنا الأخرى (بما في ذلك إيماننا بالقدرية). بمعنى آخر لو كانت القدرية صحيحة لما قدرنا على الوثوق بأي من معتقداتنا حيث لا يُوجَد تبرير منطقي لأي منها بما في ذلك إيماننا بالقدرية نفسها مما يجعل القدرية – كفرضية فلسفية – تظهر وكأنَّها انهزامية (أي تدحض نفسها بنفسها)، مع ملاحظة أنَّ نفس الحجة يمكن استخدامها ضد اللاحتمية (اللاقدرية) وبذلك فإنَّ كلًّا من القدرية الصارمة أو اللاقدرية العشوائية يؤديان إلى نفس المعضلة الفلسفية. إنْ كانت الأساليب التي نستخدمها لصياغة معتقداتنا تتضمّن بعض المعايير التي يمكن من خلالها قياس حرية الإرادة، وقتها فقط يكون كلامنا عن التبرير المعرفي ذا مغزى (لاحظ أنَّ الحرية هنا لا تجعل التبرير حتميًّا، ولكنَّها تجعله ممكنًا وهنا يكمن بيت القصيد).

يمكن إثارة نقطة جوهرية بشأن المعاني الضمنية للقدرية ليس فقط من أجل التبرير المعرفي فحسب لكن من أجل التفكير المنطقي (ويمكن إثارة نفس النقطة بشأن اللاقدرية عن طريق المحاكاة الساخرة). خذ الكلمات التالية بعين الاعتبار وهي مأخوذة من كتاب Some Problems in Ethics المقتبَس من محاضرات إتي بي دبليو جوزيف H.B.W. Joseph في أوكسفورد (للاطمئنان يمكنك أنْ تتخيّل أنَّ الكلمات التالية مُوَجَّهَةٌ لشخص يؤمن بالنوع المألوف من القدرية – أي القدرية العلمية والفيزيائية – ولكن يمكن تطبيق ما يلي بشكل عام على أي نوع من أنواع القدرية مع تعديلات طفيفة):


إنْ كان التفكير حركة حنجرية (متعلقة بالحنجرة)، فكيف يجب على المرء أنْ يفكّر بأسلوب أكثر إخلاصًا من هبوب الريح؟ كل حركات الأجسام متساوية في أهميتها، ولكن لا يمكننا التمييز بين حركة وأخرى على أساس أنَّ هذه صحيحة والأخرى خاطئة، حيث يبدو من الحماقة أنْ تحكم على حركة ما بالصحة والخطأ وكأنَّك تصف أنَّ المذاق قرمزي وأنَّ الصوت جَشِعٌ! ولكن الفكرة التي تطرأ على أذهاننا حين نقول إنَّ التفكير هو حركة جسدية معينة تُعَادِلُ كَوْنَ التفكير تأثيرًا من أحدهم. إنَّ كلًّا من التفكير الذي يُدعى معرفة والتفكير الذي يُدعى خطأً نتيجتان ضروريتان للأوضاع التي يكون عليها المخ، وتلك الأوضاع هي نتائج ضرورية للأوضاع الجسدية الأخرى. كل الأوضاع الجسدية هي أوضاع حقيقية بشكل متساوٍ وكذلك الأفكار المختلفة أيضًا؛ ولكن ما الحق الذي أمتلكه لأقول إنَّ تفكيرًا ما يُعَدُّ معرفةً لما هو حقيقي في الأجساد؟ إنْ قلت هذا فهذا يُعتبر فكرةً أخرى وتأثير حركات جسدية واقعية مثل البقية ... إلَّا أنَّ هذه الحجج التي أقدّمها – إنْ كانت مبادئ الواقعية العلمية غير مُفَنَّدَةٍ – ليست إلَّا وقائع تحدث في الذهن ونتائج للحركات الجسدية، واعتقادي أنا وأنت أنَّها أمور صالحة أو غير صالحة ليس إلا واقعة أخرى، وأنَّ اعتقادنا أنَّها ليست إلَّا واقعة أخرى في حد ذاته يُعتبَر أيضًا واقعة أخرى. ويمكننا الاستناد إلى أي أساس نحاول من خلاله أنْ نبقى على صواب، ونظل ندور في دائرة مفرغة. 1

لذلك إنْ كان كل تفكيرنا هو نتاج عملية قدرية، فنحن إذًا لا نتحكّم بشكل مطلق في أفكارنا وبالتالي أفعالنا (وهي نقطة سنتكلّم عنها فيما بعد أثناء دراسة الحجة الأخلاقية). لا يمكن أنْ تكون معتقداتنا نتاجًا للعقلنة، وإلى هذا الحد لا يمكن أنْ تكون "عقلانية" خالصة، حيث أنَّ "العقلنة" تعني ضمنيًّا في جوهرها قدرة العقل البشري على السعي للوصول إلى الحق. ولكن هذه "القدرة" غير موجودة على الإطلاق في القدرية فحتى لو كان العقل يعكس الشيء الصحيح بالترتيب الصحيح، فهو لا يفعل ذلك – من وجهة نظر القدرية – بسبب أي مبدأ داخلي ولكنَّه محض الصدفة فحسب. يا لها من تمثيلية مصطنعة عظيمة وسخيفة حين يحاول القدري أنْ يتظاهر بمشاركته في نقاش يتبادل فيه الحجج عقلانيًّا لكي يقنع مَن يحاوره، لأنْ مِن وجهة نظره أنَّ مَن يؤمن بِحُريَّة الإرادة هو شخص قد قُدِّرَ له الإيمان بِحُرّيَّة الإرادة مثلما قُدِّرَ للقدريين أنْ يكونوا قدريين. وهذه الفكرة في حد ذاتها – إنْ حدثت لهم – هي فكرة مُقَدَّرَةٌ! من المستحيل أنْ يعطي القدري في تفكيره المساحة التي تتسع لمجموعة من المعتقدات العقلانية أو حتى المحتوى العقلاني للمعتقدات نفسها (لأنَّ المعتقدات – من وجهة نظره – هي مجرد أوضاع عقلية، والأوضاع العقلية المجردة مثل تلك لا تتعلّق بشيء أكثر من مجرد هدف مادي وهذا في حد ذاته قد يتعلّق بأي شيء آخر). إنَّ العمليات المادية تسيطر على التفكير بشكل مطلق ولا تبالي بالحقيقة، والمعتقدات هي مجرد حالات مادية للعقل وهي في حد ذاتها لا يمكن أنْ تكون صائبة أو خاطئة.
لم أكن وحدي مَنْ سَجَّلَ هذه الملحوظة، ولكنَّها ملحوظة مُوَثَّقَةٌ على نحو وافٍ في الأدب الفلسفي، فقد صاغ روبرت بي جورج Robert P. George (وهو مُحاضِر للفلسفة القانونية والمجالات المتعلّقة بها بجامعة برينستون) هذه النقطة بشكل جيد:
​"إلَّا أنَّ الفلاسفة المسيحيين مثل جيرمين جرسيز GermainGrisez وجوزيف إم بويل Joseph M. Boyle وجي.آر.أولاف تولفسين Jr.Olaf Tollefsen أثبتوا بصرامة أنَّ إنكار حرية الاختيار أمر لا يمكن الدفاع عنه منطقيًّا، لأنَّه ادِّعَاءٌ مُتَضَارِبٌ مُناقض لنفسه وافتراض مُدْحِضٌ لذاته. لا يمكن لأي شخص أنْ ينكر حرية الاختيار بشكل منطقي أو يَدَّعِي على نحو خادع خبرتنا العادية للاختيار بِحُرِّيَّةٍ دون افتراض إمكانية حرية الاختيار. إنَّ إنكار حرية الاختيار معناه أنْ تزعم أنَّه من الأكثر منطقية أنْ تؤمن بعدم وجود حرية اختيار عن أنْ تؤمن بوجودها، ولكن هذا المنطق بدوره يفترض أنَّ المرء يمكنه أنْ يحدّد معايير العقلانية ويختار بكامل إرادته أن يُخْضِعُ معتقداته لتلك المعايير، ويفترض أنَّنا أحرار في تقرير مصداقية أو زيف موضوع ما حتى وإنْ كانت شهواتنا أو مشاعرنا أو تفضيلاتنا مُخَالِفَةً لذلك، وإلَّا كان الْجَزْمُ بعدم وجود حرية اختيار أمرًا غير مبرَّر؛ فالشخص الذي يقول إنَّ البشر ليس لديهم حرية الاختيار يفترض وجود أسباب لقبول ادّعائه، وإلَّا كان تأكيده على فكرته بلا مبرِّر. ولكن قدرتنا على فهم تلك الأسباب والتصرُّف بناءً عليها لا يتوافق مع الفكرة التي تقول إنَّ المرء يتأثّر بشهواته وبقوات خارجية ليقبل أو يرفض تلك المزاعم، وبذلك فإنَّ الشخص الذي يرفض وجود حرية الاختيار يُنَاقِضُ ادِّعَاءَه بشكل صريح." 2

هناك حجة أخرى تأتي من خبرتنا الأخلاقية، فنحن نواجه مآزق أخلاقية معينة في حياتنا اليومية، ونقبل حقائق أخلاقية بنفس السهولة والحزم الذي نقبل به الحقائق المادية. في الواقع الإيمان بأنَّ العالم يحتوي على هيكل أخلاقي معين وأنَّ هناك بعض الأشياء صالحة وبعض الأشياء الأخرى طالحة (بحسب تفضيلاتنا) هو أيضًا اعتقاد أساسي صحيح. وهو اعتقاد نصوغه بشكل طبيعي وليس لدينا أي سبب جيد يجعلنا نشك فيه. لقد وصل فيلسوف مسيحي وهو ويليام لان كريج William Lane Craig إلى ما هو أبعد من ذلك ولاحظ أنَّ أية حجة قد تكون لدى أحدهم ضد الواقعية الأخلاقية (moral realism) يمكن أنْ يتم محاكاتها بشكل ساخر في صورة حجة مطابقة لها ضد الاعتقاد بالعالم المادي/الخارجي. وما قَصَدَهُ هو أنَّنا ليس لدينا أي سبب كي نشك في أمر ما أكثر من آخر، وتبدو ملاحظته دقيقة جدًّا بالنسبة لي، وإنْ كان صائبًا في ما يقوله فقد أصبح لدينا سبب جيد لنكون واقعيين أخلاقيين، ولكن المسؤولية الأخلاقية تصبح منطقيًّة فقط في وجود حرية،

كما قالها بيتر فان Peter Van:
لماذا علينا أنْ نكترث إنْ كانت حرية الإرادة هي الصحيحة أم القدرية؟
الإجابة هي كما يلي :

نحن نبالي بحُرّيَّة الإرادة لأنَّنا نهتم بالمسؤولية الأخلاقية، ونحن مقتنعون أنَّه لا يمكننا الخروج بإسنادات من المسؤولية الأخلاقية لتلك العوامل التي تنقصها حرية الإرادة. 3 Peter van Inwagen, “Ability and Responsibility,” in The Philosophical Review (1978): 201 - ]

يمكن أنْ يُلام الشخص على أفعاله فقط إنْ أُجبِرَ على فِعلِها، أمَّا عكس ذلك لا يَمُتُّ للمنطق بِصِلَةٍ. وكأنَّنا نلوم جبلًا على انهيار الثلوج من فوقه في وقت غير مناسبٍ. حتى لو أصرّ أحدهم على أنَّ السفَّاح مذنب أخلاقيًّا لأنَّه ارتكب جرائمه عن عمدٍ (أي أنَّه تصرَّف بحسب ما تُمليه عليه رغباته، فقصد أنْ يقتل الناس، وهذا يختلف عن الشخص الذي قتل أحدهم عن غير قصد) يبقى الأمر – من وجهة نظر القدرية – خارج عن إرادة السفَّاح لأنَّه لم يملك خيارًا إلا قتْل الناس، وربَّما يقول القدري إنَّ السفاح لم يرغب حتى في القتل لكن الأمر كان خارجًا عن سيطرته. ومن هذا المنظور نجد أنَّ المرء لا يتحكّم في أي شيء فلا يمكن أنْ يكون مذنبًا أخلاقيًّا، أي أنَّ – بالنسبة لوجهة نظر القدرية – الشخص غير مسؤول أخلاقيًّا عن أي شيء يفعله، فقد تكون أفعاله صالحةً أو شريرة بالمنطق المجرَّد، ولكنَّه غير مسؤول أخلاقيًّا عن أفعاله مثلما المحيط غير مسؤول عن أمواجه العاتية.

هل تتوافق وجهة النظر تلك مع خبراتنا الأخلاقية؟ لا، إنَّها لا تتوافق معها؛ فهي لا تُنْصِفُ مشاعرنا بالذنب والإعجاب بما هو صالح أخلاقيًّا. يجب أنْ تكون لدينا حرية إرادة لكي نصبح مسؤولين أخلاقيًّا عن أفعالنا، ولكنَّنا بالفعل نفعل بعض الأشياء التي نتحمّل مسؤوليتها الأخلاقية لذلك لا بُدَّ من أنَّنا نتمتّع بالإرادة الحرة.
إنَّ كلفة إنكار هذا الاستنتاج هي إنكار واحد أو اثنين من الافتراضات، ولكنَّها تبدو أمورًا ثابتة وراسخة للعقل تقريبًا مثل أي معتقد آخر لا يمكن أنْ نتخلّى عنه أبدًا تحت الظروف العادية. في الواقع الإيمان بالمسؤولية الأخلاقية يرتقي لمستوى الاعتقاد الأساسي الصحيح ولذلك فإنَّ مَن يَقبلون قابلية المعرفة المصلحة للتصديق يحصلون على سبب إضافي يؤكّد حرية الإرادة.

يمكن إثارة نفس النقطة فيما يتعلّق بفلسفة وطبيعة القانون؛ ففي القانون هناك فرق بين القتل العمد والقتل الخطأ وحتى في حالات القتل العمد يميّز القانون بين شخص مجنون نوَى أنْ يقتل وبين شخص عاقل قرَّر أنْ يقتل. في كلتا الحالتين هناك "قتْل" وفي كلتا الحالتين هناك "نيّة القتل" وعلى الرغم من ذلك لا ينال المجنون عقوبة قانونية صارمة مثل العاقل. لماذا؟ لأنَّ الشخص العاقل قد مارس درجة أكبر من الحرية فيما يتعلّق بأفعاله أكثر من الشخص المجنون. كانت الحرية التي لدى المجنون أقل من الحرية التي لدى العاقل. هذا الفرق الذي يحدّده علم القانون ضمنيًّا يشير إلى افتراض وجود الحرية في القانون؛ فحرية الإرادة تُعتبَر افتراضًا رئيسيًّا في القانون بالضبط مثل أنَّ سَفَرَ الضوء بمعدل ثابت بين أي نقطتين يُعتبَر افتراضًا رئيسيًّا في نظرية النسبية في الفيزياء. القانون الذي يعاقب المجنون والعاقل بدون تفريق هو قانون ظالم، ولكن التفريق هنا يكون منطقيًّا فقط إنْ كان لدى الناس حرية إرادة (وإلَّا بدا هذا التفريق تعسُّفيًّا وسخيفًا وليس تعبيرًا عن العدل). القانون إذًا يفترض وجود حرية الإرادة. هذه الحجة في جوهرها هامشية بالنسبة للحجة السابقة حيث أنَّ مفهوم العدالة القانونية مرتبط في جوهره مع مفهوم العدالة الأخلاقية وهو في الواقع امتداد لها، وبذلك فإنَّ إنكار الواقع الأخلاقي سيقود جوهريًّا إلى "اسْمَانِيَّةِ" العدالة القانونية. ولكن عادةً ما تتناسب حجج مختلفة مع أناس مختلفين ولذلك أُقدِّم هذه الحجة لأولئك الأشخاص الذين لديهم التزام قوي بالعدالة القانونية حتى وإنْ كانوا قد تحيّروا بالأفكار الفلسفية الأكثر ثراءً عن الأخلاقيات.

هناك حجة أخرى لحرية الإرادة، أو على الأقل ضد القدرية، وهي نابعة من البديهيات الشكلية. وعبارة "البديهة الشكلية" (modal intuition) بحسب ما يراها الفلاسفة هي البديهة العقلية عن الأشياء المحتملة والمستحيلة والعَرَضية والمقصودة والضرورية والفعلية. كل الأشياء هي واقع ضروري بالنسبة للقدرية. إلَّا أنَّنا جميعًا لدينا بديهة عقلانية قوية تنصّ على وجود فرق بين الحقائق الضرورية مثل 2+2=4 وبين الحقائق العرضية مثل أنَّك تقرأ هذه الجملة الآن. الأول لا يمكن أنْ يكون غير حقيقي ولكن الأخير يمكن بسهولة أنْ ينزل إلى مستوى كوْنه غير حقيقي. حتى القوانين العلمية يُنظَر إليها كمتناقضات (counterfactuals) مع ثبات بعض العوامل وفي ظروف معينة، ولكن هذه البيانات لا تُجدي نفعًا مع القدرية لأنَّها بيانات مشروطة والسابقة المشروطة إنْ لم تكُن صحيحة تجعل البيان المشروط صحيحًا بلا مغزى! إنْ لم تكُن السابقة المشروطة صحيحة فهي بالتأكيد خاطئة بالنسبة للشخص القدري، لذلك على هذا القدري أنْ يُعيد التفكير في كيفية فهم القوانين العلمية. تفترض البيانات العلمية (scientific statements) وجود التزامات شكلية (modal intuition). وعلى الرغم من قوة البديهيات العقلية عن الشكلية، إلَّا أنَّ الحتمية تشكِّل خطرًا قد يدمّر كافة الفروق الشكلية التي نتبنّاها، وهذا يعطينا أسبابًا جيدة للشك في صحة القدرية. يُترَك الإنسان بين خيارين إمَّا يؤمن بحُرّيَّة الإرادة أو اللاقدرية ولكن حرية الإرادة على الأقل أكثر تصديقًا من اللاقدرية، علاوةً على أنَّ اللاقدرية تقول إنَّ كافة الحقائق هي حقائق غاشمة في جوهرها (أي أنَّها حقائق غير ضرورية وليس لها تفسيرات على الإطلاق). لقد شاركني البعض بأنَّ لديهم إيمانًا قويًّا بالفكرة التي تقول إنَّ كل حقيقة عرضية (contingent fact) لها تفسير في الواقع (حتى لو لم نقدر على اكتشافه)، ولكن الذين يقولون ذلك سيَصعُب عليهم تقبُّل عقيدة اللاقدرية تمامًا مثلما يفعلون بخصوص القدرية المسبقة (pre-determinism). لن أخوض هنا في الحجج التي تقول إنَّ الاختيارات الحرة يمكن "شرحها" حتى لو لم تكُن "موروثة" ولكن نلاحظ أنَّ عقيدة حرية الإرادة حتى الآن بها احتمالية أكبر في إشباع بديهياتنا الشكلية.
هناك حجج أخرى واضحة بشكل نسبي يمكن أنْ تدلّل على حرية الإرادة مثل الحجج المستمدَّة من السُّلطة. يمكننا أنْ نرى أنَّ غالبية كبار المفكرين في تاريخ العالم (الغربي على الأقل) قد آمنوا بِحُرّيَّة الإرادة وأنَّ الغالبية العظمى من البشر يؤمنون بِحُرّيَّة الإرادة. ويمكننا أنْ نشير إلى سلطات أخرى مثل الكنيسة أو يسوع الناصري (أو آخرين يمكن أنْ نختار منهم كما شئنا). قلّما تُغيِّر الحجج النابعة من السُّلطة أفكار أي شخص؛ فمعظم من سيتأثّرون بتلك الحجج هم المقتنعون بها بالفعل أمَّا معظم الناس غير المقتنعين بها من المُرجَّح ألَّا يتأثّروا بها. إلَّا أنَّه من الجدير بالملاحظة أنْ تكون هذه الحجج موجودة لسببين على الأقل:
(أ) يتأثّر بعض الناس بهذه الحجج،
(ب) حتى حين لا يتأثّر شخص بهذه الحجج فهي تساعده على فهم رؤيته ووجهة نظره.
حين يدرك المرء أنَّه يعتنق وجهة نظر الأقلية يبدأ في التشكيك في وجهة نظره ويرغب في العثور على حجج جيدة لاقتناعه بها، أمَّا الشخص القدري فعلى الأرجح لن يجد أية حجج مما يساعده على الأقل أنْ يطرد وَهْمَ تصديق القدرية من عقله.
​في النهاية حين ننصت للبديهيات الشكلية وحرية الإرادة، يبدو لنا بعد تأمُّل عميق أنَّ كل حجة عن وجود الله يمكن أنْ تؤخَذ على أنَّها تقدّم حجة إضافية ضمنية أخرى لشخص مؤمن بِحُرّيَّة الإرادة. يخوض التفكير بالطريقة التالية: أولًا وجود العالم ليس حقيقة ضرورية، ولكنَّها حقيقة عَرَضية. ثانيًا إنَّها حقيقة عرضية ولكن ليس لها تفسير. يمكن أنْ نأخذ كلمة "العالم" هنا للإشارة إلى ما قاله كوبليستون Copleston في جِداله مع بيرتراند راسيل Bertrand Russel:

إنَّ العالم هو ببساطة المجموعة الكلية الحقيقية أو الوهمية أو هو تراكُم أشياء فردية لا يُوجَد شيء فيها بمفرده على حدة يحتوي على سبب وجود تلك المجموعة. 4

بهذه الطريقة نتجنّب استحضار الإجابة المحيِّرة التي تدعو باحتمالية وجود كون متعدّد يشرح لنا وجود كوننا، لأنَّ هذا الكون المتعدّد سيكون بحاجة إلى التفسير في حد ذاته وقد يحتوي على مفهوم "العالم" الذي نستخدمه في كوننا. إنْ كان العالم عرضيًّا وله تفسير، فلا بُدَّ أنَّه نتاج حرية الإرادة وإلَّا فالخيارات الأخرى المتاحة لدينا هي أنْ نضع له تفسيرًا قدريًّا أو ننظر إليه على أنَّه شيء حتمي ولكن الخيار الأخير لا يُعتبَر تفسيرًا على الإطلاق أمَّا الخيار الأول يهدم الفروق الشكلية بين ما هو ممكن بشكل مجرد وبين ما هو ضروري. في الواقع يمكن أنْ تثير هذه الحجة بشكل عكسي وتكون حجة عن وجود الله (حتى وإنْ استتبعَتها فكرة أنَّ الله لا بُدَّ أنْ يكون شخصًا لأنَّ الأشخاص فقط هم مَن يمارسون حرية الإرادة) على الرغم أنَّ كل ما نبالي به هنا هو الحجج المتعلّقة فقط بِحُرّيَّة الإرادة. إنْ كان منظورنا الكوني يتضمَّن كيانًا مشابِهًا لله (مثل خالق فائق عظيم) فالله يجب أنْ يتمتّع بِحُرّيَّة الإرادة (في نضال ما بين القدرية واللاقدرية، بين انهيار الشكليات أو الحقائق الغاشمة)؛ لذلك بمجرد ما يعرف المرء أنَّ الله موجود، يمكنه أنْ ينظر للحجة المتعلّقة بِحُرّيَّة الإرادة من أُفُق فلسفي.
​هذه الحجج ليست شاملة. يمكننا أنْ نتخيّل استخراج حجة من المعجزات فنقول مثلًا (أ) لو المعجزة (ص) حدثت فإذًا المسيحية صحيحة، (ب) ولو أنَّ المسيحية صحيحة فإذًا نحن ننعم بِحُرّيَّة الإرادة، (ج) المعجزة (ص) حدثت، (د) لذلك لدينا حرية إرادة. أو من الممكن أنْ نستخدم الحجة بالأسلوب الموريني (مثلًا حين نقول إنَّنا متأكّدون بشدة أنَّ لدينا حرية إرادة أكثر ممّا ينبغي لدرجة أنَّ أيّة حجة معاكسة قد تكون صائبة)، وأنا متأكّد أنَّ هناك حججًا أخرى لم آخذها بعين الاعتبار. ولكن مجموعة الحجج التي ذكرتها هي أساس تصديق المؤمن بحُرّيَّة الإرادة لأفعالنا وهي تُحِطُّ من قدر البديل الشائع لمذهب الإيمان بِحُرّيَّة الإرادة (القدرية على سبيل المثال).

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

 

المراجع

  • 1Peter J. Kreeft and Ronald Keith Tacelli, Handbook of Catholic Apologetics: Reasoned Answers to Questions of Faith. (Ignatius Press, 2009): 72.
  • 2George, Robert P. “A Clash of Orthodoxies.” First Things no. 95 (1999): 38. -
  • 35
  • 4موفعbiblicalcatholic (موقعbiblicalcatholic)