في هذه المقالة، أود أن أَمُرَّ سريعًا على بعض الحُجج الخاصة بما يُسمّى الإرادة الحرة المستقلة، وهو ما أشعر أنَّها – أي تلك الحُجج – تمدنا بقضية تراكمية قوية كي ما نؤمن بِحُرِّيَّةِ الإرادة. إنَّ البديل المعتاد للإيمان بـحرية الإرادة ، هو الإيمان بـالْقَدَرِيَّةِ determinism، ولذلك فإنَّ محاجّاتي موجَّهة بالأساس للقدريّين (من يؤمنون بالقدريَّة – أو ما يُسمّى بالحتّمية). ومع ذلك، فإنّي أود في البداية أنْ أعترف أنَّ هناك بعض الآراء الأخرى التي يمكن أنْ يتبنّاها أحدهم، مثل ما يُسمّى بـالقدريَّة الناعمة soft-determinism أو اللاقدريَّة الكاملة complete-indeterminism. ولذلك فإنَّ محاجاتي – الموجَّهة للقدريين – يجب أنْ تكون مُسْتَسَاغَةً لأيَّةٍ من وجهات النظر الفلسفية المختلفة.


من الجدير بالملاحظة أنَّ افتراض أنَّ حرية الإرادة هي البديل الأصيل والحقيقي لكلٍّ من القدرية واللاقدرية، يجعل الكثيرين يميلون لرؤيته كتناقُض. إنَّ مصطلحات مثل القدرية واللاقدرية هي متضادات، تستبعد وتستثني إحداهما الأخرى منطقيًّا، فما يؤكّده الأول ينفيه الآخر!
في مثل هذه الحالات يُعتقد بشكل عام أنَّ المُسنَدَات شاملة بشكل قاطع؛ فإمَّا أنَّ حدثًا ما مُقدَّرٌ مسبقًا أو أنَّه غير مُقدَّرٍ. غير أنَّ قواعد اللغة تخدعنا في هذا الأمر. فنحن عادةً ما نعني بـالقدريَّة – وهو ما أعنيه أنا فيما يلي – أنَّ كل حَدَث هو مُحَتَّمٌ مسبقًا. وما نعنيه بـاللاقدريَّة هو أنَّه لا يُوجَد أي حَدَث مُحَتَّم مسبقًا. أمَّا ما سنعنيه باقتراحنا – أنَّ الحرية هي بديل لكل من هاتين العقيدتين (أعني القدريَّة واللاقدريَّة) – هو أنَّ الفعل الحر يُحدِّده الفرد، دون أنْ يكون هذا الفعل مُحتَّمًا مسبقًا.

ما أعنيه بـالإرادة الحرة المستقلة Libertarian free will – وعادةً ما تُسمّى بـالإرادة الحُرَّة القاطعة أو حرية الإرادة القاطعة categorical free will– هو الفكرة القائلة إنَّ أفعالنا بقدر ما هي حُرَّة، فهي ليست مجرد نتيجة لأسباب تسبقها (السببية السالفة). لاحظ أنَّني أستخدم اللفظ الشائع "السببية السالفة" كيما أتوقَّع حتى الأشكال الغريبة الشاذة للقدريَّة (مثل أنواع من القدرية تنظر إلى الأحداث المستقبلية المسبِّبَة أحداث الماضي حتى لا تسير الأسبقية العَرَضية جنبًا إلى جنب مع الأسبقية الزمنية).

ولكن، بالإضافة إلى أنَّ الفعل الحر لا يأتي قدريًّا من أسباب سابقة (زمنية أو منطقية)، فَلِزَامًا علينا أنْ نقول أيضًا إنَّ الفعل الحر لا بُدّ أنْ يكون طوعيًّا، عمديًّا، ويكون مصدره الفرد الحر. فليس من الجيد أنْ نجادل بقول إنَّ القدريَّة على خطأ، ثم ننتهي لمجرد أحداث عشوائية غير مُقدَّرة (لا يمكن لأي منها أنْ تكون حرة لنفس السبب الذي يقول إنَّ الأسباب المُقدَّرة مسبقًا لا يمكن أنْ تكون حُرَّة). فما نريده هو قرار يحدّده الأفراد.

ثمة تعريف تقَنِيّ حاد يبدو مثل هذا:
(س) هو حر مستقل، ولديه على الأقل اختيار واحد من ضمن بديلين على الأقل (أ) و(ب)، حيث لا أسباب سابقة تحدّد اختيار (س) لأي من (أ) أو (ب). واختيار (س) لـ (أ) أو (ب) هو اختيار مقصود مبني على أسباب طوعية اختيارية من جانب (س).

ولذلك، إنْ كان الشخص حرًّا بهذا المعنى فمن الممكن أنْ نتخيَّل أنَّه إنْ اختار البديل (أ) حين أُعطِيَ (أ) و(ب)، فهناك عالَمٌ ممكن منطقيًّا، فيه إمكانية اختيار نفس الشخص للبديل (ب)، حتى بافتراض وجود نفس الأسباب المسبقة لاختياره (سواء سابقة له زمنيًّا أو لا). وهنا لِزامًا علينا أنْ نفهم الاختيار كفعل حر للإرادة. ولسنا في حاجة لتبنِّي وجهة النظر القائلة إنَّ العامل الحر المستقل يستطيع – حرفيًّا – أنْ يسلك سلوكًا مختلفًا عمّا اختاره، ولكنَّ فِعْلَهُ لم يكن من جرّاء سببٍ مُرغَمًا عليه.
تلك "المذكّرة القانونية" التي قدَّمتها، قُصِد لها أنْ تُجَنِّبَنا المشاكل المطروحة من "أطروحة فرانكفورت للأمثلة المضادة" 1 . وباختصار فهذه الأطروحة تقول:

إنْ كان العميل (س) في طريقه لإقرار أي من البدائل (n=number) سيختار، أ(1)، أ(2)، ... أ(n). فهو يعتقد (على حق) أنَّه لا يمكن أنْ يتجنَّب فعل أي من تلك البدائل. لكن، ما لا يعلَمه، أنَّ هناك العديد من العوامل التي من الممكن أنْ تمنعه من تنفيذ (أو حتى من أخذ قراره لتنفيذ) أي من أ(1)، أ(2)، ... أ(n)، ماعدا أ(10). وتلك العوامل من الممكن أنْ تظهر على الأفق، إنْ أظهر هو أيَّ مَيل نحو تنفيذ (أو حتى ميله لأخذ القرار لتنفيذ) أي من أ(1)، أ(2)، ... أ(n)، ماعدا أ(10). لكن لأنَّه في الواقع لم يُظهِر أيَّ مَيل لذلك، أي لاختيار شيء غير أ(10)، فهذه العوامل ظلّت بلا فاعلية لما قد يؤثر على مجريات الأحداث: ولم تلعب أي دور يُذكَر في تنفيذ فعله أو قراره للتنفيذ. 2

على الأقل نريد أنْ نتفق أنَّ اختيار (س) للفعل البديل (أ) ليس اختيارًا مُرغَمًا عليه لأي سبب، ولهذا فإنّي أعتقد بوجود مساحة أدَّعي فيها أنَّ (س) كان لديه القدرة (على الأقل في البداية) أنْ يختار بديلًا آخر غير أ(10). وفي هذه المقالة لن أقضي الكثير من الوقت كي أجادل في معقولية وترابُط "الإرادة الحرة المستقلة" (لأنَّ الكثير من الفلاسفة الممتازين قد أكَّدوا ذلك بالفعل، ولأنَّ هذا سوف ينتقص من غرضي فيصرفني عن مهمتي). ولهذا سوف أفترض مسبقًا ترابُط هذه الفرضية (أعني الإرادة الحرة المستقلة)، وأقدّم حججي لصحّتها.
ما هي الأسباب التي لدينا لنؤمن بـحرية الإرادة القاطعة؟
حسنًا، بادئ ذي بدء نستطيع أنْ نلاحظ – للوهلة الأولى – أنَّها تتمتّع بقابلية مبدئية للتصديق، فعلى ما يبدو أنَّها تتطابق مع خبراتنا عن أنفسنا. يؤمن الأطفال بالإرادة الحرة، وإنْ كانوا لا يملكون القدرة على توضيح هذا الإيمان بأية حنكة فلسفية، لكن أيضًا أغلب البالغين الذين لا يدرسون الفلسفة، لا يستطيعون توضيح أي من معتقداتهم بحنكة فلسفية. فالناس – في العموم – يؤمنون بالإرادة الحرة، على الأقل حتى يقتنعون بعقيدة أخرى!

داعبني مرة أحد أساتذة الفلاسفة القدامى لديَّ وقال:
إنَّك إنْ أيقظت أحد القدريين (من يؤمنون بالقدريَّة) فجأةً من نومه، سيجد أنَّه يؤمن بالإرادة الحرة، على الأقل حتى يرجع مرة أخرى لصوابه الفلسفي!.


هذا المُزحة ليست بالطبع صحيحة، ولكنها تُسلّط الضوء على نقطة هامة، وهي أنَّه إنْ كان هناك ما يُسمّى بموقف "افتراضي" لهذا الموضوع، سيكون هو الاعتقاد بِحُرّيَّة الإرادة، وليس القدريَّة.ومع ذلك، فإنَّ القدريّين غالبًا تحت انطباع أنَّ القدريَّة هي الموقف الافتراضي، ولهذا ينسون أنْ يقدّموا أية حجة لدعم صحة هذا الافتراض. في الواقع، إنَّ حجج القدرية نادرة، ولا يُوجَد أي منها – إنْ أخذنا في الاعتبار كل الأمور – مقنعة. قد يفكّر أحدهم، على سبيل المثال، أنَّ القدريَّة قد تُستنتَج من الأطروحات التالية:
1- المادية (وتحديدًا ما يخص البشر) صحيحة. و ..
2- الفيزياء (علم الطبيعة وخواص المواد والطاقة) تعمل قدريًّا (طبقًا لقوانين موضوعة سلفًا).
لكن الأطروحة الثانية تُقَوَّضُ بِحِدَّةٍ بالتقدُّم الحادث في الميكانيكا الكمّيّة Quantum mechanics (ما يختص بدراسة الحركة وتفاعُل أجزاء الذرة)، والتي تقترح أنَّ الكثير – على مستوى الكمّ – من الأحداث الفيزيائية تحدث لا قدريًّا (دون تعيين مُسبَق).
إنَّ الأطروحة الأولى في الواقع ذات شكل أسوأ، لأنَّ – بغض النظر عن جدية الباحث – هناك غياب أصمّ لأية حُجَّة للماديَّة في الأدب الفلسفي. وما هو أسوأ، أن المادية الخاصة بالعقل البشري تُعتبَر اليوم كعقب الخيل (أضعف جزء في الخيل) للمادية نفسها.
بالرجوع لماديّي الستينيات (مثل ج.ج.س. سمارت وهيربرت فيجل)، فقد كانوا متفائلين بخصوص تقليل العقل لمجرد مُخ، لكن كل محاولات هذا التقليل باءت بالفشل سريعًا. كما قال أحد الفلاسفة الماديين راثيًا:
"للكثيرين منّا، مثلي أنا شخصيََّا، الذين ذهبوا لمدرسة التخرُّج في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، فإنَّ ماديَّة سمارت وفيجل كانت أول لقاء لنا مع معضلة (العقل/الجسد) كمشكلة فلسفية نظامية. فَمِنهاجُهُمَا بدا ممتعًا وجريئًا، بل وحازمًا. بل وبدا في تناغُم مع النزعة العلمية المتفائلة في ذلك الوقت. فقد كانت فكرة مثيرة وشاذة أنَّ الأحداث العقلية هي نتاج لعمليات تحدث في المخ. والبحث العلمي يرينا هذا، تمامًا مثلنا أرانا العلم أنَّ الضوء هو إشعاع كهرومغناطيسي، والجينات هي جزيئات من الحمض البشري DNA. لكن نظرية الهويَّة كانت –على عكس المتوقع – قصيرة الأجل. فقد بدأ انحدارها بعد بضع سنوات من ظهورها!" 3

إن "الاختزالية المادية" (Reductive materialism) للفكر ماتت جَهِيضَةً من الضغوط الأكاديمية. وحتى اليوم فإن خواص الفكر والعقل (مثل العَمديَّة (intentionality) والتجارب الذاتية الواعية “qualia”)، والتي تبدو حصينة ومنيعة ضد "الاختزالية المادية"، تُشكّل المشكلة الكبرى أمام الماديَّة في العموم، ولا داعي لذكر الماديّة الخاصة بالبشر على وجه الخصوص.
ما هي الحجج الأخرى الموجودة لصالح القدريَّة؟ لا يوجد الكثير.
ما هي الحجج الأخرى الموجودة لصالح حرية الإرادة؟ الكثير!
بادئ ذي بدء الاعتقاد بِحُرّيَّةِ الإرادة يبدو مُبرّرًا معرفيًّا epistemically justified. وقد ذكرت بالفعل أنَّها – للوهلة الأولى – تتمتّع بمعقولية، ولكنّني أود الآن أنْ أخطو أبعد من ذلك وأقترح أنَّ الاعتقاد بِحُرّيَّة الإرادة هو مثال لما يُسمّيه الفلاسفة "اعتقادًا أساسيًّا صحيحًا" (Properly basic belief). والرأي القائل بأساسية الاعتقاد المُوظَّف هنا يأتي من المعرفة المُصلِحة، والتي طبقًا لها فإنَّ "الاعتقاد الأساسي الصحيح" هو الاعتقاد الذي نراه مُبرّرًا عقليًّا؛ أي معقول، حتى في غياب الدليل. وهو أيضًا ما يبدو من غير المعقول أنْ يُرفَض في غياب المنطق الصحيح.

الأمثلة شائعة الاستخدام هي الاعتقاد بالحياة الخارجية (مثل أنَّنا لسنا "داخل المصفوفة matrix" أو أنَّنا نحلم فحسب) أو الإيمان بأفكار الناس (مثل أنَّ نظرية الذات خاطئة). مثالي المفضَّل هو الإيمان بواقعية الماضي، ولا تُوجَد طريقة لإثبات – أو حتى تقديم دليل على – الإيمان بأنَّ الماضي واقع بما يتعارض مع الاعتقاد بأنَّ العالم ظهر في الوجود منذ لحظات متحليًا بمظهر الزمن (مثل وجود حفريات في الأرض جاءت من مخلوقات لم تعِش أبدًا أو طعام في المعدة دون وجبة أُكِلت أو حتى ذكريات في الذهن دون أشياء فُعِلَتْ). لا تُوجَد وسيلة لإثبات أي من تلك المعتقدات من خلال اللجوء إلى الدليل لأنَّ الدليل يقف في صالح هذه المعتقدات ويتعارض مع بديلاتها. لقد لجأ العديد من الفلاسفة إلى فكرةِ أساسيةِ الاعتقاد بسبب معتقدات مثل هذا.

الاعتقاد الأساسي الصحيح (Properly basic belief) إذًا هو ذلك الاعتقاد الذي لدينا الْمُبَرِّر العقلاني للإيمان به دون أنْ تكون لدينا حجج توضيحية له، وهو الاعتقاد الذي يكون من غير المنطقي أنْ نتخلّى عنه لو لم يتم دعمه ببعض الحجج القوية. المعتقدات الأساسية الصحيحة هي تلك المعتقدات التي نؤمن بها بشكل طبيعي والتي تتمتّع بقابلية مبدئية للتصديق؛ لكن الإيمان بِحُرّيَّة الإرادة هو بالضبط مثل هذا لذلك يبدو أنَّه معتقد أساسي صحيح؛ لذلك في غياب الأسباب الجيدة التي تجعلنا نشكّ في أنَّ لدينا حرية إرادة يبدو أنَّ لدينا مُبرِّرات منطقية تجعلنا نحتفظ باعتقادنا أنَّنا نتمتّع بحُرّيَّة الإرادة حتى في ظل غياب أية حجج إضافية.

أتوقَّع وجود اعتراض جَلِيٍّ على هذا وهو أنَّ هذه "المعرفة المُصلحة" (Reformed epistemology) مجرد خيار من بين العديد من نظريات المعرفة المختلفة (مثل نظريات متعلّقة بكيفية معرفتنا لأي شيء حيث تعني "المعرفة" شيئًا مثل الحصول على مُعْتَقَدٍ حقيقي مُبَرَّرٍ). ولكن أيًّا كانت المعرفة التي ينجذب إليها المرء، هناك معتقدات رئيسية وكونية وبديهية وطبيعية بالنسبة لنا (مثل الإيمان بواقعية ما حدث في الماضي) وإنْ كانت معرفتنا تمنعنا من الاقتناع المنطقي بمثل هذه المعتقدات يمكننا أنْ نعتبر هذا برهنةً للقضية بإثبات فساد نقيضها للنظام المعرفي (reductio ad absurdam). لكن كما كنت أقول فإنَّ الإيمان بِحُرّيَّة الإرادة هو نوع من أنواع تلك المعتقدات؛ لذلك فإنَّ أي نوع من أنواع المعرفة لا يسمح بتبرير الإيمان بِحُرّيَّة الإرادة من حيث المبدأ يجب أنْ يتم التخلّي عنه بحسب المنطق.
إنْ قَبِلَ المرء المعرفة المُصلحة، فإنَّ هذه الحجة الأولى وحدها تكفي لإشباع احتياج الفرد إلى الحصول على حجة مقنعة لحرية الإرداة. وإنْ اعتنق أحدهم نوعًا من أنواع المعرفة يسمح بإشباع حرية الإرادة ولكنَّه يرفض (أو على الأقل لم يقبل بعد) هذه الفكرة المتعلّقة بوجود معتقدات "أساسية صحيحة" سيصبح منفتِحًا على المزيد من الحجج. فيما يلي سأقدّم عددًا من الحجج الأخرى.

لقراءة الجزء: الأول، الثاني

المراجع
  • 1قدَّمها الفيلسوف هاري فرانكفورت، والتي تقول إنَّ الإنسان مسؤول أخلاقيًّا عن أفعاله، فقط حين يتسنّى له الاختيار لعمل فعل آخر
  • 2Peter van Inwagen, “Ability and Responsibility,” In The Philosophical Review (1978): 202. -
  • 3Jaegwon Kim, Mind in a Physical World: An essay on the mind‑body problem and mentalcausation, (MIT press, 2000), 2. -