
قصة المسيحية >
القصة المسيحية- التجديد وموعد الروح القدس
أندرو أشرف
7/9/23 - ٥ دقيقة قراءة
مقدمة:
الروح القدس، روح الله الشخصاني، الذي يغذينا بحياة الله ويُدفق محبته في داخلنا. هو الذي يجعلنا غير يتامى ومختبرين لحضور الله غير المرئي في عالم مُعادي له. لكنه للآسف يثير حيرة الكثيرين أو يسئ بعض المسيحيون التعامل معه. البعض يتجاهله والبعض يتعامل معه كمصدر للقوة الفوق طبيعية وليس شخص يتحد بي ويغيرني وله مشيئة. البعض يريد تسخيره لتحقيق أغراضه أو استشارته للتأكد من عدم التعرض لأذى أو فقدان مكسب بدلاً من التعامل معه أنه هو الله الذي يجب أن يقود ويُشكل (وإن استخدم في ذلك عدم الوضوح). في هذا المقال لن أتطرق لكل صفاته وأعماله لكن لطبيعة علاقته بنا وارتباطه ببدء زمان جديد.
حضور الروح من بركات القيامة:
في هذه المرحلة المختلفة حضوره فينا ومعنا هو أول بركات قيامة المسيح من الأموات. لن أستطيع أيضاً أن أتطرق لحقيقة الوحدة الثالوثية، أن الله واحد لا يتجزأ ولا يشِرك معه أحد في العبادة لكن هذا الإله الواحد بداخله اتحاد غير قابل للانفصال بين الأب والابن والروح القدس مما يجعل كل منهم بالحقيقة الله وبالحقيقة نفسه بالاتحاد مع الأقانيم الأخرى.
موعد الروح كجزء من القصة المسيحية
من المناسب أن نراجع الخط القصصي للمسيحية. بعد تشوه الإنسان واستقلاله عن الله، بادر الله في أن يسترد علاقته بالإنسانية من خلال شعب هم نسل ابراهيم. في وسط هذا الشعب كان هناك مظهر واضح لوجود الله مع شعبه وهو خيمة الاجتماع ومن بعدها الهيكل. لكن هذا الشعب الذي كان يجب أن يجسد الحل وجمال الحضور الإلهي للشعوب الأخرى، صار تجسيداً للمشكلة وعبد آلهة أخرى بدلاً من الله. اختبر الشعب نتيجة ذلك ودينونة الله على حالتهم وأفعالهم من خلال السبي: شعب غريب دمر الهيكل وأخذ أسرى منهم خارج الأرض. عاد الشعب بعد فترة لأرضه وبنى الهيكل لكن الله لم يحضر ويسكن وسط شعبه. في الهيكل القديم كان هناك علامات واضحة لوجود الله من دخان ومظاهر لوجود إله مجيد في وسطهم. انتظر الشعب رجوع الله إلى أرضهم لكنه عاد بصورة غير متوقعة. الله الابن أخذ طبيعية إنسانية وعاش وسط بشر مؤثراً فيهم بحياته وتعاملاته. وقد وعد المسيح، الله المتجسد، أتباعه أنه بعد فترة لن يراه العالم لكن تلاميذه سيختبرون حضوره بشكل خاص. كان يتحدث هنا على الروح القدس. لقد انتقلنا من مكان مادي وعلامات تشير لوجود الله، إلى حضور الله من خلال شخص واحد هو يسوع المسيح، إلى حضور الله في العديد من البشر من خلال روحه.
الاتحاد والسُكنى
هنا من الملائم شرح فكرة الاتحاد والسكنى. نحن عادة نفكر أننا كبشر مستقلون عن أحدنا الآخر لأن لنا أجساد تفصلنا وإرادات تتصارع مع الآخرين. لكن عندما تفحص بعمق، ستجد أن نفسك مكونة من خلال العديد من العلاقات والتفاعلات مع الناس. الكثير من أفكارك، وأفعالك وعاداتك هي نتيجة الاحتكاك بآخرين والبصمات التي تركوها فيك، حتى لو انتقلوا جغرافياً أو توفوا. السكن مع أشخاص هي من القرائن الأكثر تشكيلاً للفرد. بإمكانك أن تلاحظ تشابهات بين الأب والابن أو بين الأخوة. من المتكرر أيضاً أن يُعلق البعض أن المتزوجين أثروا على بعضهم البعض للدرجة التي فيها صاروا يشبهون أحدهم الآخر من جهة الشكل وليس فقط الطباع أو طريقة الحديث. هذه الأفكار تساعدنا ربما على فهم كلام المسيح بصورة أفضل. إن الاتحاد والسكنى تعبر عن علاقة عميقة تؤثر في الآخر بشكل كبير. سكنى الروح القدس فينا ليست مادية، ولكن علاقاتيّة. بسبب الاتحاد بين الله الابن وبين الله الروح القدس، من المستحيل عملياً أن يتواجد الروح دون المسيح. لكن هذا الاتحاد المؤثر أيضاً يجعلنا نرى الأب الذي لا يُرى في المسيح أثناء حياته على الأرض. وبالمثل ويجعلنا نتفاعل مع ونختبر وجود المسيح (الذي صعد جسدياً من الأرض) من خلال وجود روحه في علاقة عميقة معنا. من رأي المسيح قد رأي الآب بسبب الاتحاد بينهم ومن يسكن فيه الروح يرى المسيح لنفس السبب. من أهداف الله أن سُكنى روحه فينا تغيرنا. بمعنى وجوده لفترة طويلة في علاقة قريبة جداً -منا تشابه وجودنا في علاقات تأثُر قريبة مع من نسكن معهم في منازل مادية- تؤدي لانطباع شبهه فينا. أن هذا السكن يجعلنا نُشبه الله، أن تنطبع صورة المسيح فينا من خلال التفاعل العميق مع روحه المتحد به. بالطبع هذه الأفكار صعبة، فنحن معتادون أكثر أن نفهم العلاقات مع كائنات متجسدة. لكن دعني أذكرك عزيزي القارئ، أن أعمق علاقاتنا مبنية على ما هو ليس مادي: طباع الشخصية، الحب، الأسرار التي شاركها معنا الشخص، الأوقات الصعبة والمُبهجة التي عشناها معاً. بالطبع هناك وسائط ملموسة في العلاقات مثل تعبيرات الوجه والأفعال. بالمثل الروح يستخدم وسائط في التواصل (مثل قراءة الكتاب المقدس، لفت انتباهك عن طريق كلمات شخص، تهيئة وعيك للتفاعل بعمق مع فعل يقوم به شخص ويؤدي لشفاء شيء في داخلك، استخدام مواقف أو الطبيعة…الخ)، لكن في النهاية أعمق تأثيرات وأساس الاتحاد مبني على ما هو غير مادي. الإنسان معقد لدرجة تجعلنا لا نفهم ولا نعي كل ما يحدث في داخله. المسيح أشار أيضاً أن الروح يعمل فينا بطريقة يصعب تحديدها بالكامل فهي تشبه الرياح التي لا تراها لكن تلاحظ وجودها من خلال صوتها. إذاً يمكن أيضاً ملاحظة وجود الروح في هذه العلاقة العميقة معنا من خلال تأثيراته علينا.
تأثيرات الروح القدس فينا:
تأثيرات الروح فينا يسميها الرسول بولس في موضع ثمر الروح. هنا لدي ملاحظتين:
أولاً الإثمار عملية بطيئة جداً وصعبة. عادة ما يأخذ النبات عدة سنوات ينمو فيها الأوراق دون ثمار. ثم يبدأ الثمر في الظهور لكنه يكون صغيرًا، ومذاقه غير جيد وعدده صغير. مع الوقت تتحسن جودة الثمر. إذاً التوقع هنا ليس وجود قوة رهيبة بداخلنا تغيرنا لحظياً دون تفاعل منا، لكن علاقة عميقة ننفتح فيها، ونعطي للروح مجالاً يؤدي لتغير عميق مع الوقت.
الملاحظة الثانية أن الرسول يتكلم عن الثمر كأنه وحدة واحدة من السمات الداخلية مثل: المحبة والفرح والسلام وضبط النفس...إلخ. ربما تكون لديك سمة ما في شخصيتك أو من خلال التربية، لكن الرسول هنا يتحدث عن عملية اثمار متعددة الجوانب نتيجة هذه العلاقة. العهد الجديد يتحدث عن هذه السكنى ونتائج العلاقة القريبة أنها بداية البركات التي ستكتمل عند مجيء المسيح ثانية إلى الأرض. الرسول بولس يتحدث عن الروح أنه العربون -الذي يَعِد أن بقية الأموال التي تشير للبركات مضمونة-، أو الباكورة -أي: بداية الحصاد التي يمكن من خلالها توقع حجم وجودة الحصاد. بعد قيامة المسيح وانتصاره على الشر مازال هناك أمراض وظلم وعبث. العالم لم يُلغَ منه الموت والأفعال اللاأخلاقية. وجود أشخاص في علاقة عميقة مع الله وفي مسيرة مشابهته من خلال الروح هو امتداد لتجسد المسيح، امتداد وجود الله بشكل ملموس من خلال أشخاص. يصبح هؤلاء الناس علامات ملموسة أن الله حقيقي ومُحب وأن صليب وقيامة المسيح أحدثوا تغييراً فعلياً. التغيير الذي بدأ في الأشخاص ينبأ بتغيير كل شيء في العالم. بالنسبة لهؤلاء الناس فخبرتهم مع الروح القدس -من جهة التعزية والتشجيع وإدراك البنوة ومن جهة التغيير أيضاً-، هي بداية البركات والوعد بالبقيَّة. الجسد سيتمجد، الخليقة المادية ستُجدّد وتتحرر من الفساد والتلوث والشر سيتم القضاء عليه نهائياً. لكن حتى يحدث هذا بالكامل فالحياة في عالم مُعادٍ لقيم الله هي قرينة مناسبة لروح الله ليُشكل أبناء الله في أرض المعركة والغربة، ويشهد لآخرين عن نوعية الحياة التي يُقدمها من خلالهم.
هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:
الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد