لا أعلم متي ولا أين سيقتحم هذا الشعور وجدانك، لكني أعلم أنك ستشعر به يوماً ما. الشعور بأنك لست في وطنك الحقيقي، هذا الشعور دفين بالغُربة الذي ينتابنا حتى وإن كنا في وسط أحبائنا وعائلاتنا. هناك صوت ضعيف، لكنه عميق بداخلنا يئن كطفل رضيع يشعر بآلام المعدة ولا يعرف كيف يُعبِّر عنها لأمه. لماذا نشعر دائماً وكأننا مسبيون نبحث عن وطننا الأصلي؟ لماذا لا ينجح هذا العالم بكل ما لديه من وسائل إبهار في أن يُسكت هذا الصوت الذي يصرخ بداخلنا أن هذا العالم ليس على ما يرام، وأن هذه ليست الحياة التي خُلقنا لنحياها؟ هل يمكن أن نكون خُلقنا بالفعل لعالم آخر؟

يتكلم الرسول بولس أن الخليقة كلها تئن وتتمخض (رو٨) متوقعة استعلان مجد أبناء الله. وتُعلمنا القصة المسيحية أن الفصل الأخير الذي سيبدأ ولن ينتهي هو تجديد كل شيء. ولكن، ما المقصود بالتجديد، ولماذا نحتاج إلى التجديد؟ وكيف نحيا الآن في ضوء هذه الحقيقة؟ هذا ما سوف أناقشه في هذا المقال.

 

ما المقصود بالتجديد؟

   الرؤية المسيحية الشائعة للمشهد النهائي لقصة الخلاص هي أن الله سيأخذنا معه إلى السماء، بعيداً عن هذه الأرض بشقائها وبؤسها لنرنم له ونعبده إلى الأبد. وبُناء على هذا فكثير من المسيحيين الذين يتبنون هذا المنظور ينظرون إلى هذا العالم لا باعتباره عالماً ينتظر الافتداء، بل باعتباره عالماً ينتظر الفناء. ولذلك وجدنا الكنيسة كثيراً ما تنعزل داخل أسوارها وترفض الاشتباك مع الثقافة المحيطة باعتبار أن كل هذا العالم سوف يفني ويزول يوماً ما، لذا لنحفظ أنفسنا سالمين من العالم حتى يأتي المسيح ويأخذنا بعيداً.

   لكن الكتاب المقدس يُعلن في أكثر من مكان أن خطة الله هي أن يسترد ويفتدي خليقته التي فسدت بالسقوط وتشوهت بدخول الخطية إليها. في المشهد النهائي لسفر الرؤيا لا نري المؤمنين يُختطفون إلى السماء والأرض تحترق، بل نري أورشليم الجديدة نازله من السماء وصوتاً عظيماً يُعلن أن الله سيسكن مع الناس، وأنه سوف يمسح كل دمعة، و يُنهي الحزن، والصراخ، والوجع، ويمحي الموت، ويصنع كل شيئاَ جديداً (رؤ ٢١).

 

لماذا التجديد؟

   إذا تسائلنا "لماذا يريد الله أن يجدد كل شيء؟" فالإجابة سنجدها في تكوين ١-٣.

بعد أن خلق الله السماوات والأرض، وجعل الأرض مُهيأة لاستقبال الإنسان، خلق الله أدم وحواء، وأعلن لهم عن غرض وجودهم في هذه الأرض. أن يملؤونها، ويُخضعونها، ويتسلطوا على كل ما بها (تك ١: ٢٨). ما كان يريده الله هو أن يملك الإنسان على هذه الخليقة، ويُبدع في رعايتها والعناية بها، دون أن يستقل عنه بالطبع. ولكن، وبكل أسف، قرر الإنسان الاستقلال عن الله، قرر أن يكون هو إله نفسه، ولا يخضع لأي سلطه فوقه. وتبع هذا الاختيار نتائج كارثية. دخلت الخطية من خلال عصيان أدم إلى العالم، وكفيروس مدمر بدأت تنتشر في كل شيء، انتشار النار في الهشيم. فالحَبَل والولادة أصبحوا بالتعب والألم، والأرض لُعنت، وأصبحت تنتج شوكاً وحسكاً لآدم بعد أن يتعب فيها. ولكن أسوأ ما حدث كان دخول الخطية إلى الإنسان نفسه، تاج هذه الخليقة. فبعد خروج أدم وحواء من الجنة، بدأت أثار الخطية في الظهور في الإنسان. فقتل قاين أخاه، وقتل لامك رجلين، وبني الإنسان برج بابل ليعاند الله ويصل له. وإلي الآن إذا نظرت حوالك ستجد أثار السقوط حولك. في المرض والموت، في الكراهية والبغضة، في سحق الأخرين واستغلالهم من أجل المال، في الكوارث الطبيعية التي تحصد حياة المئات.

لماذا سيجدد الله كل شيء؟ لأن هذه ليست الحياة التي خُلقنا لأجلها، وهذه ليست الحالة الأصلية للخليقة التي خُلقنا لنعتني بها. يوماً بعد يوم يُثبت الإنسان أنه لا يستطيع أن يملك على هذه الخليقة دون الإتحاد مع الله، ومشروع الخلاص يسير نحو إعادة الإتحاد بين الله والإنسان مرة أخري. الغرض من الخليقة الجديدة هو أن يختبر الإنسان ما خُلق لأجله، أن يحكم ويملك مع الله. أن يحيا في شركة عميقة وشراكة مثمرة مع خالقه. وأن ترتوي كل الخليقة من ثمار هذه الشركة بين الله والإنسان.

 

يسوع باكورة الخليقة الجديدة:

   عندما جاء يسوع إلي العالم كانت بشارته السارة هي

 "تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ." (مت 3:2)

   الله قرر أن يضع أمام البشر الاختيار بأن يقبلوا ملكه عليهم، ويخضعوا له، بل ويعملوا معه لاسترداد وافتداء هذه الخليقة. في يسوع رأينا النموذج الأصلي للإنسان كما أراده الله أن يكون. رأيناه في محبته، في اتضاعه، في ذكائه، في بذله لذاته، في مشاعره، بل وفي سلطانه على الخليقة الذي أظهره من خلال معجزاته. ثم صُلب السيد المسيح، وقُبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث. وأصبح السيد المسيح هو باكورة الخليقة الجديدة، وبقيامته أعلن أن مشروع التجديد قد بدأ. عندما ظهر السيد المسيح للتلاميذ بعد القيامة نفخ وقال لهم:

 " اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ." (يو 20: 22)

 كما نفخ الله قديماً وهو يخلق أدم، ها هو السيد المسيح ينفخ في التلاميذ ليُعلن أنه سيخلق من جديد. وبالتالي فالإيمان بالسيد المسيح لا يعني فقط أن أؤمن عقلياً بحقائق عنه، بل أن أتحد به كباكورة العالم الآتي فأصير أنا أيضاً خليقة جديدة.

 

كيف نحيا في ضوء حقيقة الخليقة الجديدة؟

   إن كنا حقاً نصدق أن الله سيفتدي هذه الخليقة يوماً ما، إذاً فسنحيا بشكل يعكس هذا الإيمان. لن نُنفق حياتنا لأجل جمع المال، أو نهدرها في محاولة الحصول علي أكبر كم من المتعة في هذه الحياة، لن نحاول أن نبني ملكوتنا الشخصي في هذه الحياة. لكننا سنطلب ونعمل ونحيا لملكوت الله، سنعمل معه لاسترداد الإنسان من قبضة إبليس، سنهدم الحصون التي بناها إبليس في عقول مَن ابتلعهم، سنسعى كي نكشف ونُعلن من هو الله لكل مَن حولنا مِن خلال شخصياتنا التي تصبح تدريجياً على صورة السيد المسيح. وعندما نتألم، أو نفقد عزيزاً في هذه الحياة، أو نعبر وادي ظل الموت، سنحزن بلا شك لكن ليس كمَن هم بلا رجاء ورجاؤنا الأكيد هو أن اليوم سيأتي وسنري الله يعتق خليقته. وكل دمعه ستُمسح، وكل ما فقدناه بسقوط آدم سوف نسترده مضاعفاً عندما يصنع الله كل شيء جديد.  

 

المصادر:

- N.T wright, Surprised by hope.

- D.A Crson, Coming home: essays on the new heavens and new earth.

 

 

هذه السلسلة تحكي عما نؤمن به كمسيحيين تحت عنوان القصة المسيحية في مراحلها المختلفة، ويمكنك قراءة باقي الأجزاء من هنا:

 الخلق والسقوط، العهد، الحل، التجديد