
شخصيات كتابية >
يوسف الصديق
د. وليد القطّار
8/1/23 - ٥ دقيقة قراءة
استهلال:
لا شك أن قصة يوسف الصديق تكتسب قيمة تاريخية، ورمزية، وروحية، غنية في الكتاب المقدس. فهي حافلة بسلسلة من الأحداث تبدأ بنزاع ونميمة بين الإخوة يصل إلى درجة العنف واللاإنسانية، ثم مرحلة متسلسلة من أحداث الظلم المتوالية، وصولًا إلى كونه في مقام الرجل الثاني في مصر بعد فرعون.
ما يزيّن قصة حياة هذا النبي، هي العناية الإلهية التي سادت حياته في كل الظروف. سوف نقرأ في هذا المقال، حياة هذا الرجل العظيم من منظار تدخل العناية الإلهية التي لم تفارقه يوماً. لذا لا نغالي إن قلنا إنها القصة الأكثر تشويقًا في الكتاب المقدس، لقد تجاوزت العالم القديم وتناقلتها الأجيال دون ملل أو كلل.
شخصية هذا النبي:
لقد عاش يوسف النبي كرجل محبوب في حين كان مكروهًا من إخوته. مكرمًا من أبيه ومن فوطيفار، ولكنه متّهم زوراً من إخوته ومن زوجة فوطيفار. كل المصائب التي ألمّت به لم تُقسّ قلبه، والتنعّم الذي حظي به عند أبيه وفوطيفار وقائد السجن لم يغيّر من جوهره. لقد كان ثابتاً وراسخاً في حياته الخاصة والعامة على حدِ سواء.
يستفيض الكتاب المقدس بذكر أن يوسف كان "ناجحاً"[1]،[2]، وبأن "الله كان معه"[3]،[4]. ونتيجة لذلك فقد كان يوسف حسن التدبير في بيت فوطيفار، وفي السجن، وفي قيادة مصر زمن المجاعة. وكان صبوراً على الظلم والشر من أقرب المقربين منه. ومن هنا كان يوسف يُدرك أن الله سيخلصه دائماً، إذا ما تمسك بالصبر حتى النهاية، وهذا ما يؤكده الرسول يعقوب فيقول عن الصبر:
"وَدَعُوا الصَّبْرَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ الْكَامِلَ فِيكُمْ، لِكَيْ يَكْتَمِلَ نُضُوجُكُمْ وَتَصِيرُوا أَقْوِيَاءَ قَادِرِينَ عَلَى مُوَاجَهَةِ جَمِيعِ الأَحْوَالِ." (يع 1: 4)
لا ننسى أن يوسف أيضًا كان رجل أحلام، نبياً ومفسراً لها على السواء.
مقياس العناية الإلهية:
لقد خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع.[5] وكلمة "استراح" لا تعني أنه ترك العالم للقوانين الطبيعية، ولم يعد مكان للعالم في فكر الله أم تحت رعايته. هذا ما اعتقده الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي قال إن الله حرّك العالم وتركه يتحرك بحسب قوانين الطبيعة.[6] تتجلى عناية الرب ورعايته في (المزمور 113) فيقول:
"مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ إِلهِنَا السَّاكِنِ فِي الأَعَالِي؟ النَّاظِرِ الأَسَافِلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، الْمُقِيمِ الْمَسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ، الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِيُجْلِسَهُ مَعَ أَشْرَافٍ، مَعَ أَشْرَافِ شَعْبِهِ. الْمُسْكِنِ الْعَاقِرَ فِي بَيْتٍ، أُمَّ أَوْلاَدٍ فَرْحَانَةً. هَلِّلُويَا".[7]
لنتأمل في عناية الرب العظيمة والشاملة التي لا تقف عند أي الحدود. لا شيء يساوي الله ولا شيء يقاس به. كلّ مخلوقاته هي من صنع يديه وهي خاضعة لمشيئته، لذلك فهو يسترها دائماً ولا يتوانى في بذل ذاته من أجلها. يقول المسيح في هذا الأمر:
"أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"[8]
إذن فلا شيء مهما كان خفياً بعيداً هو أبعد من أن يشمله بعنايته ولا شيء مهما كان صغيراً وحقيراً هو أقل من أن يتغافل عن ملاحظته وتسيير أموره.[9]
رعاية تقلب المقاييس
من استطاع أن يقلب موائد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام؟[10] من استطاع أن يدخل بيت سمعان رئيس العشارين ويتعشى عنده؟[11] من ذهب إلى السامرية، وصنع نهضة في حياتها وفي قريتها المحرّمة على اليهود؟[12]
لقد قلب السيد المسيح جميع المقاييس بسبب حبّه ورعايته للناس. لقد فتح لهم الباب للخلاص بفضل محبته الجاذبة.
وهكذا كان يوسف، محباً للجميع ومحبوباً من الجميع. لماذا؟ لأنه أدرك محبة الله ورعايته.
بين شكيم ودوثان، كانت بداية اللقاء.
"فَقَالَ لَهُ أبوه: اذْهَبِ انْظُرْ سَلاَمَةَ إِخْوَتِكَ وَسَلاَمَةَ الْغَنَمِ وَرُدَّ لِي خَبَرًا"[13]
فما كان من إخوته إلا أن ألقوه في البئر وجلسوا يأكلون.[14] إنها قسوة ما بعدها قسوة، بل جحود ونكران لم نر مثله من قبل. كيف استطاعوا الجلوس للأكل. لقد ظنوا أنهم سيتخلصون منه ونسوا تماماً عناية الرب التي تقلب المقاييس.
في أرض مصر، بيع يوسف عبداً إلى بيت فوطيفار خصي فرعون، فكان الرب معه وكان رجلاً ناجحاً[15] حتى إن فوطيفار أمّنه على كل ما له في البيت، إذ برهن يوسف أنه أهل للثقة، وهكذا لا حاجة للإشراف عليه.[16]
هناك في بيت فوطيفار ازدادت التجربة، أتهم يوسف زوراً، وباتت طهارة سلوكه على المحك. لم يدافع عن نفسه ولم يبرر من موقفه، ولكن عينا الرب كانت له راصدة، وعنايته حافظة، وقوته مدبرة، ويده مخططة، وإرادته نافذة. اقتيد يوسف إلى السجن، ولكن لا بدّ أن الله سيقلب المقاييس مرّة أخرى، ويجد يوسف نعمة في عيون رئيس السجن:
"وَلكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ. فَدَفَعَ رَئِيسُ بَيْتِ السِّجْنِ إِلَى يَدِ يُوسُفَ جَمِيعَ الأَسْرَى الَّذِينَ فِي بَيْتِ السِّجْنِ. وَكُلُّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هُنَاكَ كَانَ هُوَ الْعَامِلَ."[17]
وفي داخل السجن، نسي رئيس السقاة أن يخبر فرعون عن يوسف. فمكث سنتين كاملتين في السجن. ولكن العناية الإلهية تطل هذه المرّة من خلال حلم لفرعون، فيُستدعي يوسف لتفسيره من السجن، ورعاية الله تغيّر المشهد هذه المرّة أيضاً. يوسف يحلق ذقنه ويستبدل ثيابه، حتى ينتهي واقفاً أمام فرعون لابساً ثياب الكتان الفاخرة مطوقاً عنقه بطوق من ذهب، وواضعاً في اصبعه خاتم فرعون وراكبًا في المركبة الرئاسية الثانية.[18]
نصرة دائمة في النهاية
الله لا يقيس الإنسان أو أعماله بالسنين أو الأيام. ولكنه يختار التوقيت المناسب ليُرينا أوقات النُصرة بسبب عنايته الإلهية. فلو ذكر رئيس السقاة يوسف فور خروجه من السجن،[19] -أي: سنتين قبل حلم فرعون-، ربما كان فرعون أطلق سراحه ورجع يوسف إلى وطنه دون أن ينال البركة التي أعدّها الله له. فالتأخير حتى يحلم فرعون حلماً هاماً، كان الطريق ليصبح يوسف الرجل الثاني في مصر بعد فرعون.[20]
فلنراقب كيف سارت عناية الله مع يوسف خطوة بخطوة، في أصعب الظروف وأقساها ظلماً وإستبداداً، حتى أدرك في النهاية إكليل تزكية إيمانه واضعاً كل رجائه في الله.
أولا، لو لم يرمه إخوته في البئر لما وصل إليه الإسماعيليون وأخذوه، ولو لم يبعه إخوته لما وصل إلى مصر، ولو لم تفترِ عليه امرأة فوطيفار لما دخل السجن، ولو لم يدخل السجن لما كان تقابل مع رئيس السقاة وفسّر له حلمه. وكأن تأخير يوسف في السجن حتى يستطيع أن يفسّر الحلم لفرعون. ولو لم يحلم فرعون ويطلب مِن يوسف التفسير لما جلس يوسف على العرش.
قد يقول قائل، كم كانت قاسية وصعبة تلك المرحلة من عمر هذا الشاب. لا يكاد ينتهي من كارثة، حتى يقع في واحدة أكبر. كيف استطاع أن يتحمّل كل هذه السلسلة المتشابكة من الأحداث.
الجواب هو أن الرب قد رتّب حلقاتها بعناية إلهيّة فائقة. ولأن حياة يوسف كانت تحت رعاية الله، كان معه. فقد كان ناجحاً في كل أمر، كان منتصراَ وأعظم من منتصر في الرب إلهه. لقد استخدم الله إخوة يوسف الحاقدين حتى يصل به إلى العرش. هم قصدوا به موتاً أما الرب فقصد به حياة للمصريين، وخلاص للأمة الإسرائيلية جمعاء. لقد كشفت رعاية لله ليوسف عن الخطة الإلهية لحياته
"أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا." (تك41: 43)
هذه هي النصرة الحقيقية، أن تسامح مَن أهانك وباعك عبداّ، بعد أن كنت ابنا مدللاً ومكرّماً. أن تحب وتغفر لمَن أساء إليك. ألا تُشهِّر بأعدائك، بل تؤمن بأن الله هو القاضي العادل القادر أن يرّد لك المسلوب. النصرة هي أن تنسب كل ظرف تمّر به إلى عناية الله، مُدركاً أن لديه خطة إلهيّة مُعَدّة لك في حينه.
الخاتمة
في نفس الطريق الذي سلكه يوسف عبداً إلى مصر، سلك إخوته هم أيضاً. كم كانت فضيحتهم وكم تكون آلامهم، وما نظرة يعقوب لهم بعد أن تمادوا في كذبهم على أبوهم؟ عندما أتوا ليبتاعوا قمحاً، تواجهوا مع أخيهم دون أن يتعرفوا عليه، فسجدوا له بوجوههم على الأرض.[21] هكذا فعلوا دون أن يعلموا ما أمرَت به السماء يوم أن قصّ عليهم حلمه. لقد تحوّل الأحرار إلى عبيد والعبد صار سيداً. لقد تواجه يوسف مع إخوته معلناً وكاشفاً ومؤكداً عناية الله بأولاده. لقد أحسّ يوسف بحب الرب وعنايته وحفظه له، بعد أن رأى اليد الإلهية وهي تقود مسيرة حياته.
ربما نجد أنفسنا في ظروف ضاغطة، وربما يبدو البعض من هذه الظروف ظُلماً، كما كان الحال في حياة يوسف. ولكن، كما نتعلم من قصة حياة يوسف، إن ظللنا أمناء وقبلنا حقيقة أن الله هو السيد فوق الكل، يمكن أن نكون واثقين أن الله سوف يكافئ أمانتنا في وقته.
[1] (تك39: 2).
[2] (تك39: 3).
[3] (تك39: 21).
[4] (تك29: 23).
[5] (تك 2:2)
[6] مشروع الكنوز القبطية. نحو حفظ حقيقي للتراث القبطي الأرثوذكسي القديم والمعاصر. الفصل السابع: العناية الإلهية، 277.
[7] (مز113: 5-9).
[8] (يو10: 11).
[9] وليم مارش، سينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان.
[10] (مت21: 12)، (مر11: 15)، (يو2: 15).
[11] (لو19: 1-10).
[12] (يو4: 1-42).
[13] (تك37: 14).
[14] (تك37: 25).
[15] (تك39: 1-2).
[16] (تك38: 6).
[17] (تك39: 21-22).
[18] (تك39: 21-22).
[19] (تك39: 21-22).
[20] (تك40: 23).
[21] (تك50: 20).