فى الطبيعة أسرار غامضة دفينة مغلقة الأبواب، محكمة الايصاد. وكما تُخفى السحب الكثيفة قنن الجبال الشامخة، كذلك نرى سجفَا تحجب عن أنظار المتطفلين أسرار الطبيعة الدفينة. ولن يقوى الإنسان على إزاحة هذه السُجف القائمة إلا بالعقل والحيلة وطول التفكير. ولقد قضى الإنسان أجيالاً  طويلة يرتجف من البرد القارص، والطبيعة تخفى تحت طبقات الأرض الفحم الحجرى. قضى اجيالاً يحترق بالحمى الملتهبة، والطبيعة تخفى البلسم الشافى تحت لحاء الأشجار. قضى عصوراً يحمل على ظهره احماله الثقيلة والطبيعة تخفى عنه قوى البخار والماء والهواء.

الطبيعة فى العالم المادى صامتة لا تنطق. ولكن الإنسان هو الذى يتغلغل إلى اسرارها ويزيح الحجب عن دفائنها وخفاياها. أما فى العالم الروحى المعنوى، فالطبيعة ليست كذلك. فهى لم تخف عن العقل البشرى حماقة الإثم، ولا أبعدت عن نظره حكمة الخطأ والصواب. وفى آذان المخطئ المسئ يرن صوتها الحاد بنبرات واضحة. وهى لم تبخل على الإنسان منذ اطواره الأولى بصوت النذير الهادئ الخافت. فبلمسة الألم تنذر الصغير ألا يقترب من النار المحرقة، وبالجسد المتوجع تحذر الشاب من التمادى فى الحياة الشهوانية الثائرة. وإذا كان الجوع هو الدافه إلى اشباع الجسد حتى تلتهب خلاياه، فان الآلام التى تلازم خطايا الإنسان وشهواته الجامحة هى أجراس الخطر للتنبية والانذار. وليس ثمت لون من الوان الإثم لا تلازمه أصوات النذير هذه. فاذا اخفى المرء بين طيات قلبه فكرة خبيثة آثمة، لا تلبث أن تظهر آثارها على وجهه. حتى إذا رأى نفسه فى المرآة عمد إلى اقتلاع هذه الفكرة من داخله. وإذا اشتهى الإنسان فضلات المؤلفات والكتب المبتذلة ليجد لنفسه القصة أو الرواية التى تشبع مشاعره المريضة المعتلة، فان هذه الرغبة المُلحة لا تلبث أن تُظهر آثارها فى ضمور نفسه وجفافها، وبلادة عقله، وجموده فى التفكير السليم المجدى.
آثار الخطية

فى مدينة بومبى الايطالية زرع القوم هناك على مقربة من منطقة البركان الهائج كروم العنب والبرتقال. ولكن الطبيعة تنذر الواقف فى أحد تلك الكروم بالبخار المتصاعد من عيون الماء الساخنة الفائرة. ومن يحاول أن يشتم زهر البرتقال فى تلك المنطقة تصدم أنفه رائحة كبريتية متصاعدة من تلك الحمم البركانية. وهكذا متى شغف البشر بالملاذ أكثر من أداء الواجب، ومتى ابعدوا الله عن أفكارهم، عندئذ تمطرهم الطبيعة حمماً عند اقدامهم، لعلهم يرعوون، فلا يقضون على مصيرهم، كما تقضى الفراشة على حياتها عند نار المصباح. فى العصور الغابرة رحبت كيلوبترا - ابنة الجمال الفتان - بالخطية بين ذراعيها، وحسبتها ملاكاً من ملائكة النور. فتصدع قلبها واحتضنت الأفعى القاتلة إلى صدرها.
والخطية هى التى هدمت قصر داود فاستحال خراباً  يباباً !
هى التى أفنت حكمة سليمان فصارت هباء منثوراً !
هى التى سلبت ثوب "السيباياديس" الأغريقى فى القديم، وألبسته ثوب العبد المهان!.
هى التى زحفت على قصور رومية فخلفت أوحالها فى صالات الولائم وابهاء الحفلات!
هى اللهب التى سودت قصور البندقية! هى الزلزلة التى صدعت خزائن فلورنسا!
هى الاداة القاتلة التى قضت على امجاد قرطبة ودمشق وبغداد والاستانة!
كانت الخطية فى نظر "باكون" الفيلسوف حشرة آكلة فى سويداء قلبه. وكانت فى عرف "بايرون" السوس والصدأ اللذين يتلفان العقل!

انتهى الينا فى الأساطير القديمة أن أميرة طلبت إلى أحد المنجمين أن يعاونها على نيل رغبة معينة من رغبات قلبها. فأشار عليها أن تقبل صورة جميلة مائة مرة يوماً بعد آخر. وبعد ذلك تظفر بسؤل قلبها. وكانت هذه حيلة قاسية، فان تلك الصورة احتوت سماً قاتلاً. فأخذت تبيض جدائل الشعر الذهبية فى رأس تلك الفتاة ويذبل جمالها، وتغور عيناها، وتسود شفتاها. حتى قضت نحبها قبل الميعاد المضروب. والطبيعة لا تخدع الإنسان وتغريه بالسير فى مسلك الاثم، لأن فى كل خطوة منحدرة صوتاً ينذر. والله لم يصمت قط أمام خطية البشر.

قرأت مؤخراً بعض مؤلفات الفيلسوف "كانت": فسمعت ذاك العاهل، جبار العقل، يقول – وهو واقف تحت القبة المصقولة التى تحترق فيها مصابيح الله - "ان الطبيعة خرجت عن صمتها فى صوت الضمير الذى يحدث الانسان حديثاً غير مسموع". وقد أحس ذلك الفيلسوف بصوت داخلى خافت منذ طفولته ينبئه أنه من الخطأ أن يدوس بقدمه دودة زاحفة على الارض. وشعر فى رجولته بذلك الصوت يؤنبه كلما أساء إلى العقائد السليمة التى انطوت عليها نفسه. وقد يحدث فى ظروف خاصة وأوساط معينة أن يغمر صوت الضمير بأمواج عجاجة من الخطايا والدنايا، ولكن فى آونات معينة تتصاعد فى أعماق النفس الخفية اصوات غامضة خافتة.
فالضمير هو الذى حمل الملك داود على أن يضطرب ويرتجف عندما أومأ اليه نبى الله قائلاً "أنت هو الرجل"!
والضمير هو الذى تصطك أمامه فرائض كل انسان عندما يقرأ عن نفسه "وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً"!
وقد يرتكب الإنسان جُرماً  أو خطيئة، ويفلت من خابية السجن المظلمة، أو لذعة الصوت اللاهبة، أو يد الجلاد القاصمة. ومع ذلك يبقى الضمير المنخس المؤلم الذى يلذع ويعذب ويؤنب. وقد قال أحد الكتاب قديماً

إن منظر السيف اللامع يعلق فوق عنق الفتى بشعرة رقيقة، لأخف هولاً ورعباً  من ضمير مؤنب يوخز!.

وإذا كان الضمير فى الإنسان – هو شعاعة من نور الله - يتكلم وينطق، فهل يصمت الله نفسه ولا يسمعنا صوته؟ لقد تكلم الله كما قال الفيلسوف – فى السيارات والكواكب والشموس والاقمار التى تمثل لنا عظمته ولا نهائيته. ولم يستطيع أى شاعر أو فيلسوف أو عالم أن يفصح عن عقله وأفكاره فى مؤلفاته كما أعلن لنا الله عن عقله وقلبه بطرق وأساليب شتى. فالفصول المتعاقبة تبدو أمامنا كبساط يرسم لنا على صفحاتها أفكاره السائرة، والأزاهير المتفتحة اليانعة تمثل لنا جماله، والجبال التى تحتضنها السحب، وقنن التلال المكسوة بالثلوج البيضاء، والسهول الشاسعة المرصعة بالمدائن والقرى تمثل لنا افكاره الخصيبة –هذه كلها أصوات صائتة، تنطق وهى صامتة.
ألفى مرة أحد الرحالة صخراً سائباً مثلثاً  فى احد الأودية فأخذ يتعقب مصدره حتى عرف المكان الذى جاء منه. ونحن إذا نرى حنان الأمومة، وتضحية الأبوة، واستماتة الشهيد، وولاء الصديق. إذ نرى هذه الصفات كلها ونتتبع مصدرها، نلقاها صادرة عن الله الذى عنه أخذنا كل شئ صالح. هذه أيضاً أصوات صائتة تنطق وهى صامتة.

الله يخرج عن صمته

على أن الله خرج عن صمته مرة واحدة فى التاريخ بطريقة علنية واضحة. تكلم بصوت عال تجاوبت أصداؤه فى العالمين، يوم ظهر للبشر فى المسيح. وكما أن الفنان لن يقدر أن يصنع إطاراً  يسع مغيب الشمس كله، كذلك لن يمكن لأى قلم أو مصطلحات لفظية أن تعبر عن ملء صفات الله. ولكن المسيح عرفنا موقف الله حيال الخاطئ، والضال، والطريد، والمنبوذ. وعلى لسانه سمعنا ما يقوله الله اليوم. وفى أفعاله سهدنا ما يفعله الله بنا فى هذا العصر...
والمسيح هو صوت محبة الله قبل أن يكون أى صوت آخر. فيه عرفنا الله اباً محباً مشفقاً ، والآب الذى يسكب عصارة قلبه حنيناً وإشفاقاً، ولا يطلب جزاء فى تعهد أولاده وتربيتهم إلا أن يراهم فى أشكال ناضرة يانعة. وقد يضل الولد عن الطريق السوى، وتدفعه الغوايات الفاتنة إلى مزالق الإثم والخديعة، ويهرب من بيت الآب إلى كوره بعيدة ليبدد فيها شبابه ورجولته. ومع ذلك يبقى نبع المحبة المقدس المتفجر من قلب الأبوة جارياً صافياً. ويبقى خيطها الذهبى متصلاً بالإبن العاق، يجذبه من وسط العاصفة الهائجة. ومن المهد إلى اللحد لا تنقضى ساعة واحدة يهدأ فيها قلب الأبوة، القلب الذى يمد ذراعيه أبداً لاحتضان الإبن الشارد...
هذا هو صوت الله فى المسيح. وهو صوت صارخ فى برية هذا العالم، يدعو الأبناء الضالين الشاردين الى حضن الله الآب.