كثيرًا ما نسمع هذه الأيام حجج ضد وجود الله مبنية على نظرية التطور، ويمكن تلخيص تلك الآراء كما يلي:
"إنْ كانت نظرية التطور تفسّر لنا الحياة، فما حاجتنا إلى الله؟ لقد انتهى زمن الجهل منذ وقت طويل، حيث كنا نجهل كيف أتينا إلى هذا العالم، أمّا الآن فلدينا القصة كاملة، ونعرف أنّ الله ليس في هذه القصة! ولدينا البراهين الدامغة التي هي في صالح نظرية التطور وضد نظرية الخلق. وتتزايد الأدلة مع تزايُد اكتشاف الحفريات على مر العصور. وعلاوة على سجلات الحفريات، لدينا أدلة أخرى مثل: التشابُه الفائق بين الكائنات الحية، المادة الوراثية المشتركة بين كل الأحياء أي الـDNA والـRNA، والتشابُه بين الأجنة، والأعضاء الأولية التي وُجِدت في كثير من الأنواع والمُتبقّية من الأجيال الماضية، والتطور الذي نشاهده في شكل المقاومة البكتيرية عصافير داروين، وغيرها".

قد تدور هذه الأفكار بأذهان الكثيرين، ولكن هل هي حقيقية؟ هل بالفعل دحضت هذه النظرية وجود الله؟ هذا هو ما ستتعامل معه هذه المقالة بالأساس.

عندما يتعلّق الأمر بنظرية التطور فهناك الكثير من الممكن مناقشته والحجج التي بالإمكان تفنيدها. ومع ذلك، أودّ وقبل كل شيء أنْ أُشير إلى حقيقة هي أنّ نظرية التطور بُنِيَت على أساس وجود شكل من أشكال الحياة البسيطة (عادةً ما يُعرَف بالخلية الأولى) والذي يخضع لآليات نظرية التطور المُمثلة في الطفرات والانتقاء الطبيعي. أمّا إذا كانت تلك الآليات صحيحة أم خاطئة فهذا ما سوف نناقشه لاحقًا، ولكن المعضلة الكبيرة الآن هي كالتالي: ما هو مصدر تلك الحياة الأصلية التي تحدّثت عنها نظرية التطور؟ 1 أمّا إجابة الملحدين فغير متسقة إذ يذهب البعض إلى أنّ هناك نظرية تُدعى "التخلّق اللاحيوي"، والبعض الآخر يلجأ إلى نظرية "التبزر الشامل". وسأبدأ بالنظرية الأخيرة.

ترى نظرية "التبزر الشامل" (Panspermia) أنّ الحياة أتت من الفضاء الخارجي، إمّا عن طريق زَرْع بعض الغرباء الفضائيين الشكل الأوّلي للحياة على الأرض، وقد استخدموا في سبيل ذلك مركبات فضائية، ويُدعَى الاعتقاد هذا "التبزر الشامل الموجَّه". أو أنّ شكل من أشكال الحياة خارج كوكب الأرض وصلت إلى هنا بواسطة بعض المذنبات، وتُدعَى تلك العملية "التبزر الشامل غير الموجَّه" 2 . أمّا الأخبار السيئة التي أحملها لداعمي هذه النظرية، أنّها لم توضح لنا كيف نشأت الحياة، واكتفت بتوضيح نشأة الحياة على الأرض فقط. وبعبارة أخرى، فإنّ تلك النظرية تدفع بالتساؤل خطوة للوراء ليصير: من أين أتت تلك الحياة التي نشأت خارج كوكب الأرض؟ 3

أمّا النظرية الأخرى الأكثر قِدَمًا، التي يحاول أصحاب نظرية التطور أنْ يستخدموها لحل مشكلة نشأة الحياة هي نظرية "التخلّق اللاحيوي" (Abiogenesis). وتفترض تلك النظرية أنّ الحياة قد أتت إلى حيز الوجود من مواد غير حية. 4  ووفقًا لهذه النظرية، فإنّ الأرض في نشأتها الأولى كانت تحتوي على مواد كيماوية مثل الهيدروجين والأمونيا وثاني أكسيد الكربون والميثان والأملاح الفسفورية وغيرها. وقد تراكمت تلك المواد الكيماوية على مر الزمن وشكّلت ما يُسمّى "الحساء البدائي" (Primordial soup). وبمرور الوقت، ومع مصادر الطاقة المتنوعة (مثل البرق وأشعة الشمس، إلخ) تفاعلت المواد الكيماوية المختلفة معًا فأنتجت الأحماض الأمينية والتي تجمّعت بدورها لاحقًا فشكّلت البروتينات المختلفة والتي بدورها تجمّعت بعضها مع بعض وتغطّت بغشاء خلوي فنشأ الكائن الحي الأول (الخلية الأولى). 5

تواجه هذه النظرية مشاكل كثيرة، وسأورد اثنتين منها باختصار شديد. المشكلة الأولى هي افتقارها إلى الوقت اللازم لكي تتشكّل الخلية الأولى. فبالنظر إلى أنّ عمر الأرض حوالي 4.5 مليار سنة (بينما عُمر الكون 13.8)، وأول نصف مليار منها (أي من عُمر الأرض) كانت الأرض شديدة الحرارة بما لا يسمح بتكوُّن حياة عليها، كما أنّ أولى علامات الحياة (في صورة كائنات حية متحجّرة) تأتينا من حوالي 3.8 مليار عامًا مضت، وبذلك، المدة المتبقّية ما بين استقرار درجة حرارة سطح الأرض وبين تاريخ ظهور كائنات حية هي مدة زمنية ضئيلة جدًّا وغير كافية لظهور الخلية الأولى من نقطة الصفر. 6
أمّا نقطة الضعف الثانية فهي معضلة "البيضة والفرخة" القائمة بين الحمض النووي والبروتينات. 7 ذلك أنّه وفقًا للنظام الذي تتبعه أي خلية حية، تحتاج البروتينات إلى الحمض النووي لتتشكّل، كما أنّ الحمض النووي في حاجة إلى البروتينات لإنتاجه. والمشكلة هي: أيّهما يأتي أولًا؟ 8 وممّا لا شك فيه أنّ هذا تبسيط مفرط للأمور. كما تنشأ هذه المعضلة بين الخلية وأغشية البلازما من جهة، وبين البروتينات والأحماض النووية من جهة أخرى، وكل طرف لا يستغني عن الطرف الآخر. 9

والآن لنبدأ قصتنا من البداية أي ما مدى صحة نظرية التطور - ولكنّني سأوجزها قدر الإمكان. أولًا، علينا أنْ نكون أكثر دقة لتحديد أي نوع من التطور نقصده. ذلك أنّ الشكل الأول للتطور، والذي افترضه داروين بنفسه، والذي يُطلق عليه حاليًا "الداروينية الكلاسيكية" 10  (Classical Darwinism) يشوبه نقاط ضعف كثيرة، وقبل أنْ نذكرها، سنُشير سريعًا لما تقوله  للنظرية نفسها:
"يحدث تطور في صفات جديدة، ويتوقّف هذا على مدى استخدام الصفة أو إهمالها، وتورَّث تلك الصفات إلى الأجيال التالية، وبحسب قانون "البقاء للأصلح"، فإنّ الكائنات الحية ذات الصفات الجديدة هي التي تبقى حية. وتستمر تلك العملية حتى تظهر أنواع جديدة. أمّا المثال التقليدي المستخدَم لتوضيح هذا الأمر فهو "الغزلان"، إذ أنّها حين واجهت جفافًا شديدًا وقد نضب العشب، بدأت في تمديد رقابها لتصل إلى أغصان الشجر. ومن ثم جاءت الأجيال التالية طويلة الرقاب. ولم تعش إلا ذوات الرقاب الطويلة. واستمر الحل هكذا لملايين السنين التالية، وهكذا ظهرت أنواع جديدة من الغزلان ذات رقاب طويلة وهي الزرافات (جمع زرافة)."

أمّا نقاط الضعف بشكل مُختصر فهي:

  • - أنّ الصفات المكتسبَة لا تنتقل إلى الأجيال التالية لأنّ تغييرًا لم يحدث في البنية الجينية للكائن الحي الذي حدثت فيه الطفرة، والجينات هي المسئولة عن توريث صفات الكائن الحي من الوالدين إلى الأولاد.
    - إنّ أسلاف الزرافات المتطوِّرة ذات الأعناق الطويلة، كانت أكبر وأثقل وزنًا وفي حاجة إلى المزيد من الطعام. فلم يكُن من المفيد لها والحال هكذا أنْ تكون ذات أعناق طويلة ذلك لأنّها كانت بالفعل تعيش في أزمنة جفاف.
    - كانت ذكور الزراف أطول من إناثها بمقدار مترًا واحدًا. فما تفسير هذا الفارق؟
    -كانت عصافير دارون بسيطة وهي مثال لما يُسمّى "التحوُّلات السُكّانية" (Population shifts).
    (عصافير دارون هي طيور تعيش في جزر غلاباغوس، حيث أسّس دارون نظريته عن "الانتقاء الطبيعي". وتكيّفت هذه الطيور للاستفادة من التغذية في الظروف البيئية المختلفة. وقد قال دارون أنّ مناقيرها قد تطوَّرت لتناسِب وظائفها بشكل جيد، وعلى سبيل المثال، الطيور التي كانت تأكل اليرقات كان لها منقار طويل رفيع ليمكنها إدخاله في ثقوب الأرض لتلتقط اليرقات، أمّا تلك التي كانت تتغذّى على البراعم والفاكهة كانت أقل نجاحًا في هذا الأمر، ومع ذلك، كانت مخالبها مثل المناقير، أي يمكنها طحن الطعام، ممّا منحها ميزة انتقائية حين تكون البراعم هي الاختيار الغذائي الوحيد المتاح لها.)

ورجوعًا للمُعضلة نقول أنّ هذه الطيور تُولَد ولها مناقير رفيعة وطويلة لتستطيع إدخالها حيث تعيش اليرقات ومن ثم تلتهمها، أمّا تلك التي وُلِدت بمناقير قصيرة، قد هاجرت إلى مناطق غنية بالبراعم. وخلاصة القول ليس هناك ظهور لأنواع جديدة وإنّما انتقال مجموعة سُكّانية من العصافير ذات شكل معين لمناقيرها يتوافق مع نوعية الأكل التي تأكلها إلى بيئة أخرى تحوي هذه النوعية من الأكل، وتتكاثر هذه المجموعة السكانية على حساب العصافير الأخرى بالمنطقة والتي لا يتناسب شكل منقارها مع الأكل المتوفّر حاليًا. 11

والآن ننتقل إلى ما هو مقبول حاليًا كآليات للتطور في أغلبية الأوساط العلمية والذي يُعرَف بـ"الداروينية الحديثة" (Neo-Darwinism)، وهي مزيج من نظرية التطور الأصلية ونظرية مندل في علم الوراثة (Mendel’s genetics) والطفرات الجينية العشوائية 12  (Random mutations) ورياضيات الوراثيات السكانية (mathematical population genetics). وسوف أعدّد بعض المشاكل التي تواجه تلك النظرية: 13

 غياب السجلات الحفرية الداعمة لها (على عكس الاعتقاد الشائع).
- التعقيد غير القابل للاختزال 14  (Irreducible complexity)
- استمرار مشكلة نشأة الحياة.
- يحتوي جسم غالبية الكائنات الحية على آليات لتصحيح الأخطاء التي تحدث في عملية نسخ الحامض النووي (الـ DNA) والتي تقف عائقًا أمام عملية التحوُّل الجيني والتي تُعتبَر المُحرِّك الرئيسي لعملية التطور.
- إنّ الطفرات حدث شديد الندرة، لذا من المستبعد أنْ تؤدّي إلى عملية تطورية تعتمد على الملايين من الطفرات المُتتابِعة.
- فشلت النظرية في تفسير التوزيع البيوجغرافي (البيولوجي - الجغرافي) للعديد من الأنواع.

- من غير المنطقي استقراء التطورات الميكرية (الصغيرة) المشهودة مثلًا في تطوير البكتريا لمقاومة المضادات الحيوية ومدَّهَا إلى التطورات الماكروية (الكبيرة).
(ملاحظة: التطور الميكري (Microevolution) عبارة عن عملية يمكن ملاحظتها حيث أشكال الحياة تشهد اختلافات جينية محدودة تسمح لها بأنْ تتكيّف مع التوتُّر الناجم عن التغيُّرات البيئية والحفاظ عليه. والمثال النموذجي على ذلك هو: تعرُّض نوع من البكتريا إلى هجوم من مضاد حيوي. وإنْ نجَت البكتريا من المضاد الحيوي وتكاثرت، فهذه البكتريا التي كُتِب لها الحياة ستطوِّر من مقاومتها لهذا المضاد الحيوي. ومع ذلك، علينا أنْ نتذكّر أنّنا بدأنا ببكتريا وانتهينا ببكتريا أي أنّه ليس هناك تغير في الأنواع).
- العقل لا يمكن تفسيره من خلال نظرية النشوء و الإرتقاء.
-التكاثر الجنسي: التكاثر الجنسي أقل كفاءة من التكاثر اللاجنسي، لذا، فإنّ تطوير عملية تكاثر جنسي لهو أمر يقف ضد نظرية التطور حيث بدأنا بالتكاثر الأكثر كفاءة (التكاثر اللاجنسي) في المراحل المبكرة من التطور وانتهينا بالتكاثر الأقل كفاءة (التكاثر الجنسي) في المراحل المتطورة.
-يُظهِر الجنس البشري الكثير من الصفات والقدرات السلوكية والمعرفية، وهي لا تقدم له أية فوائد واضحة للبقاء على قيد الحياة، أي لا تُفيد عملية التطور، مثل الموسيقى، الفن، الدين، الحب، الجمال...

وأخيرًا نأتي لأهم نقطة بهذا المقال فنطرح هذا السؤال الهام جدًّا: هل التطور حقًا ينفي وجود خالق؟ يشرح الكتاب المقدس قائلًا:
قَالَ اللهُ: «لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا، وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ، بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذلِكَ. وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ...» (تكوين 1: 11، 20).
علينا أنْ نعي أنّ الكتاب المقدس ليس كتابًا علميًا، ولا يأخذ على عاتقه أنْ يخبرنا كيف خلق الله الحيوانات ونباتات الأرض. وهل خلق كل الأنواع المختلفة من العدم؟ أم أنّه خلق أول الأمر أشكال بسيطة من الحياة ثم سمح لها أنْ تتطور لتنتج نباتات وحيوانات؟ هل أكمل مثلًا كل كائنات المملكة الحيوانية في طرفة عين أم كان الخلق عملية مُتدرِّجة؟ هل حينما قال الله "لتفِض المياه..." كان هذا أمر لآليات النشوء والارتقاء بأنْ تعمل على كائنات مائية بدائية كان قد خلقها قبلًا، لتعطي أخيرًا أشكال الحياة المتنوعة التي تعيش في المياه؟ كل هذه الأسئلة لم يُجِب عنها الكتاب المقدس، وتركها للعلم لكي يدلو بدلوه بشأنها. لذلك، علينا أنْ نعي أنّ العلم هو خير مَن يُجيب عن الأسئلة التي تبدأ بـ"كيف". فهذا بالضبط ما يفعله، فهو يلاحظ الأشياء ويصِف لنا كيف تعمل. وبافتراض صحة نظرية التطور على الرغم من البراهين الدالة على غير ذلك، فماذا في ذلك؟ هذا لا ينفي وجود الله، بل على العكس من ذلك، سيكون لدينا المعلومات عن كيفية خلق الله للحياة المتنوعة جدًّا التي نراها اليوم.
خلاصة القول، إنّ الكتاب المقدس والعلم هنا ليسا في حالة صراع. 15

المراجع
  • 1موقع new creation
  • 2Iskander, Athanasius. Creation.PDF.Page 33
  • 3موقع  How stuff works
  • 4Iskander, Athanasius. Creation.PDF.Page 23
  • 5المرجع السابق، 23 - 25.
  • 6المرجع السابق، 29 - 30.
  • 7الحامض النووي DNA  يشكّل البنية الجينية للكائنات الحية، ويحوي التعليمات اللازمة لتشكيل البروتينات والتي هي أساس بناء الخلايا وبالتالي الكائنات الحية.
  • 8Geisler, Norman L., and Frank Turek.I Don't Have Enough Faith to Be an Atheist. Wheaton, IL: Crossway, 2004. PDF.Page 119
  • 9Iskander, Athanasius. Creation.PDF.Page 29.
  • 10Iskander, Athanasius.Creation.PDF.Page 55
  • 11Iskander, Athanasius. Creation.PDF.Page 61.
  • 12الطفرات هي تحوُّلات في تسلسُل المادة الوراثية. وهي تنتج من الأضرار التي تلحق بالحمض النووي ولا يتم علاجها (إشعاع أو مادة كيميائية)، والأخطاء في عملية النسخ المتماثل، أو من إدراج أو حذف أجزاء من الحامض النووي.
  • 13موقع evolution news
  • 14يكون النظام معقد "تعقيد غير قابل للاختزال" (Irreducible complexity) إنْ كان مؤلفًا من أجزاء متناسقة ومتفاعلة معًا تساهِم في الوظيفة الأساسية وإنْ تمّ إزالة أي جزء من أجزاء هذا النظام سيؤدي ذلك إلى تعطيل النظام بشكل لا يسمح له بالقيام بوظيفته الأساسية. مثال على ذلك نظام تخثر الدم الموجود بالغالبية العظمى من الحيوانات، ما كان له أنْ يتطور بخطوات تدريجية لأن أي مرحلة متوسطة لا تحتوي على كل الإنزيمات اللازمة لفاعلية هذا النظام لن تؤدي وظيفة تخثر الدم وبالتالي وَجَبَ ظهور كل مكونات هذا النظام فجأة وتواجدهم معًا دائمًا لكي يقوموا بوظيفة تخثر الدم.
  • 15Zacharias, Ravi K., and Norman L. Geisler. "WHAT EXPLAINS THE ACTUAL ORIGIN OF LIFE." Who Made God?: And Answers to over 100 Other Tough Questions of Faith. Grand Rapids, MI: Zondervan, 2003. EPUB.